الطير المهاجر.. ضل الدليب أريح سكن

رئيس تحرير صحيفة «السوداني» الأخ ضياء الدين بلال، غاضب من نشر إحدى الصحف العربية إعلاناً للتوظيف لا يرحب بالسودانيين، ويلوم الحكومة لأنها لا تثأر لمواطنيها، ولا أدري كيف يمكن أن يكون الثأر، هل ننشر إعلاناً مثلاً يقول نرحب بالاستثمارت من كل العالم إلا تلك الدولة ؟! لأن الدولة المقصودة لا تصدر لنا عمالة، ولكنها تصدر لنا مستثمرين ورجال أعمال، والغريب أن قانون الإعلام في تلك الدولة يعاقب على نشر مثل تلك الإعلانات، ولكن الكثير من الإعلانات لا تقع عليها أعين حراس البوابات في الصحف، وآخرون غضبوا من ذلك الإعلان الذي نشر بصحيفة سودانية واستثنى أصحاب البشرة الداكنة من التقديم للوظائف، وهو إعلان لم تقع عليه عين حارس البوابة في الصحيفة السودانية، وغيرهم عاتبون على إخوتنا المصريين من لصق اللهجة العربية لأبناء النوبة المصرية وكأنها اللهجة العامة لكل السودانيين،
مثل هذه النماذج ينبغي ألا تغضب أحداً، لأنها تعبر عن عدم التحضر والتخلف في عالم اليوم، فحتى اللهجة العربية لأهل النوبة أفصح من لهجات عربية كثيرة أحياناً يصعب أن تفهم، والعالم قد تخطى مثل هذه الصور الذهنية القبيحة، خاصة أن أكبر دولة في العالم اليوم يحكمها أحد ذوي البشرة الداكنة، ولكن في حالة بلادنا، فإن الكثير مما يكتبه السودانيون أنفسهم ساهم في تشويه صورة البلاد وسمعتها في العديد من الجوانب أكثر مما فعله الإعلام العربي والأجنبي.
عندما غادر أدباء المهجر ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة وغيرهم في أعقاب الحروب الأهلية اللبنانية بلادهم قرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتفرقوا في دنيا المهاجر بين أوروبا والأمريكتين، عبروا في معظم الأحيان عن أشواقهم وحنينهم للوطن بكتابة النثر والشعر، ورفدوا الأدب العربي والمكتبة العربية بروائع من الأعمال الأدبية التي ظلت خالدة عبر تاريخ الأدب العربي، وكان الكثير من أعمالهم الأدبية ذات بعد سياسي، ولكن السياسة لم تكن شغلهم الشاغل، غير أن السودانيين الذين تفرقوا في المهاجر بسبب النزاعات الداخلية والخلافات السياسية وبحثاً عن الرزق في الخارج باستثناء الطيب صالح وليلي أبو العلا، عبروا عن أشواقهم للوطن بطريقة مختلفة، فقد حملوا معهم مواقفهم السياسية وخلافاتهم العقائدية، والكثيرون منهم وليسوا كلهم بالطبع، شهروا سلاح الكلمة وسددوا به طعنات مباشرة معظمها مقالات سياسية ملتهبة، وعلى الرغم من تفوق الكثيرين منهم في النثر والشعر والأدب إلا أن إنتاجهم ظل شحيحاً، وانشغلوا بمصادمة الحكومات.
وكلنا مارسنا الكتابة ونقد الأوضاع الداخلية من دار الهجرة، ولكن يعتبر د. منصور خالد من أكثر الكتاب السودانيين الذين وجهوا نقداً للأوضاع السياسية الداخلية في السودان، وتقديم ما يعتقد أنه تشخيص للحالة السودانية من خارج البلاد في فترات مختلفة من تاريخنا السياسي منذ مقالاته بعنوان «حوار مع الصفوة» عقب ثورة أكتوبر، و «لا خير فينا إن لم نقلها» و «السودان والنفق المظلم» و «الفجر الكاذب»، و «النخبة السودانية وإدمان الفشل»، وحتى التحولات الثورية التي دفعت به إلى الغابة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، ومن المؤكد أن ما طرحه من أفكار وآراء بحكم تجربته وذكائه قد كان له الكثير من التأثيرات في مسيرة الحياة السياسية في السودان، وتاريخ السودان السياسي المعاصر ليس فيه إيجابيات كثيرة، ومنصور خالد على الرغم من تجواله واغترابه ونضاله مع الحركة الشعبية يعيش الآن في هدوء بمنزله في قلب الخرطوم وليس في واشنطن أو لندن أو القاهرة، ومنصور خالد قالها مرات ومرات، والطيب صالح قالها، ولكن السياسيين في السلطة لا يسمعون، ولا شك أن مساهمات منصور خالد ومواقفه السياسية كانت في النهاية مثار جدل كثيف، خاصة ارتباطه بالحركة الشعبية وانفصال الجنوب بعدها، ولكن مهما طال السفر كما قال شاعرنا العظيم الراحل صلاح أحمد إبراهيم «ضل الدليب أريح سكن».
د. منصور خالد ليس وحده بين السودانيين في نقد الأوضاع الداخلية من خارج البلاد بعيداً عن الوطن، فهناك حواريون كثر ساروا على ذات النهج والطريق بصورة ملفتة للنظر، وتعتبر ظاهرة جلد الوطن ظاهرة شاذة مقارنة مع دول الجوار خاصة في عالمنا العربي، الذي يندر أن يخرج فيه مثقف ليلعن بلاده ويشتمها ويجرحها وهو آمن بالخارج.
وفي العادة ينشغل أساتذة الإعلام والمهتمون بشؤون الإعلام الخارجي بصورة البلد في الخارج كما ينقلها الأجانب عنهم وعن بلدهم، وفي حالة السودان قليلاً ما ينشغل الإعلام الأجنبي بالقضايا السودانية، حتى في القضايا التي تمثل أجندة مهمة عند السودانيين، مثل قضية الجنوب خلال ايام الحرب أو قضية دارفور، وغيرها من المشكلات في النيل الأزرق وجنوب كردفان وحلايب.
والسودان بشكل عام لا يمثل رقماً مهماً في أجندة الأخبار الدولية، فهو ليس دولة مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وهو ليس دولة مؤثرة في إنتاج الطاقة والاقتصاد والسياسة الدولية، وهو ليس دولة مهددة للأمن والسلم الدوليين بالرغم من تعدد النزاعات المسلحة داخله، لذلك لا يشغل حيزاً معتبراً في تدفق المعلومات والأخبار عبر وسائل الإعلام الدولية، وحتي قرارت الأمم المتحدة المرتبطة بالسودان لا تشغل حيزاً مهماً في الصحافة ووسائل الإعلام الدولية، ولكن يتم تضخيمها بواسطة الأقلام السودانية والإعلام المحلي وصداها داخلي أكثر منه خارجي، وعادة لا تخصص لأخبار السودان مساحة أو وقت ملفت في وسائل الإعلام الدولية باستثناء بعض القنوات الإخبارية العربية التي تأتي أخبار السودان فيها في ذيل القائمة.
والملفت في التغطية الإخبارية لشؤون السودان خاصة التي تحمل نبرة نقدية حادة أو معتدلة للأوضاع الداخلية، أنها تأتي من أقلام سودانية من الذين يقيمون في الخارج ويحملون جنسيات مزدوجة أحياناً أو مازالوا يحتفظون بجنسيتهم السودانية، وعدد السودانيين الذين ينتقدون ويتناولون الأوضاع السياسية الداخلية بطريقة باردة أو ساخنة وهم في الخارج يشكل ظاهرة تسترعي الانتباه، وبعضهم أسماء معروفة، وبعضهم عاد إلى السودان وبعضهم مازال ينتظر. ومن هؤلاء من يكتب في صحف عربية، أو يراسلون صحفاً سودانية محلية، وبعضهم في مراكز بحوث أجنبية وبعضهم في مواقع أسفيرية، وكلهم من الأسماء المرموقة في عالم الكتابة الراتبة، وكلهم يشتركون في الكتابة الناقدة للأوضاع الداخلية بنبرة هادئة أو بخناجر دامية في بعض الأوقات، وبعضهم ربما ينطلقون من رفضهم أو معارضتهم السياسية لنظام الحكم الحالي، وبعضهم من مرارات أو ظلم قد لحق بهم، وبعضهم ربما ينطلق من اعتقاده أنه في وضع يمكنه من رؤية الصورة بكل جوانبها وتفاصيلها من على البعد أفضل من أولئك الذين يعيشون في الداخل، ومنهم من يعتقد أنه يتمتع بحصانة الجنسية المزدوجة وهو في مأمن ويمكنه السب والغمز واللمز، وبعضهم يعتقد أنه ينطلق من واجبه المهني.
وأياً كانت الأسباب فإن الظاهرة تستحق الدراسة والتأمل، لأنه يوجد في العالم الكثير من المثقفين الذين يعارضون دولهم ويعيشون في الخارج خاصة من جنسيات دول الشرق الأوسط والدول العربية من الذين يقيمون في لندن ونيويورك وباريس وغيرها من المدن العالمية، ولكنهم لا ينشطون في الكتابة عن دولهم معها أو عليها بهذه الصورة الكثيفة، وينفرد المثقفون السودانيون الذين يعيشون في الخارج خاصة من الذين لا يمتهنون أو يحترفون العمل الصحفي بالكتابة الراتبة في صحف محلية وعربية تنتقد الأوضاع الداخلية وتسخر منها في بعض الأوقات، ولا يكتفون مثل بقية السودانيين في الداخل من الذين يختلفون مع الحكم الحالي بمجرد الحديث والكلام في التجمعات والمناسبات الاجتماعية، ولن تجد من دولة عربية واحدة عشرات الكتاب الذين ينتقدون وطنهم بصورة راتبة من الخارج إلا في الحالة السودانية، فيمكنك أن تحصي العشرات من «القرفانين» الذين يتقيأون على بلدهم في الصحافة المحلية والعربية المهاجرة، ويعتقدون خطأً أن سهامهم تصيب الحكومة وحدها وليس الوطن والمواطن.
وينسب للكاتب والصحافي المصري المعروف محمد حسنين هيكل قوله إنه لم يسبق له أن كتب أو انتقد الأوضاع الداخلية في مصر على الإطلاق وهو خارج مصر حتى عندما وصل الخلاف بينه وبين الرئيس السادات إلى قمته، وهو يعتقد أن ذلك يتنافى مع أخلاقه وقيمه المهنية.
وحقيقة الأمر نحن هنا لا نناقش سوء أو محاسن نظام الحكم، ولكن نناقش الظاهرة ومدى أخلاقية ومهنية مثل هذا السلوك الذي يمكن أن يسمح لشخص في بعض الأحيان أن يلحق الضرر أو الأذى بسمعة وطنه أو اقتصاد بلده، وبالتالي بالذين يعيشون بالداخل، بينما هو آمن من تبعات كل الضرر الذي يمكن أن تلحقه كتاباته في جوانب متعددة بحياة المواطنين السياسية والاقتصادية مثلاً، والحقيقة أن الكثير من مراكز صنع القرار في العديد من الدول تعتمد على كتابات وتقييم الكتاب السودانيين للأوضاع الداخلية، وإن كان ذلك التقييم خاطئاً ولا يستند إلى معلومات دقيقة. فلماذا ينشط الكتاب السودانيون في نقد الأوضاع الداخلية من الخارج بهذه الصورة الكثيفة؟ هل تدفعهم أجندة سياسية؟ أم ينطلقون من مبادئ والتزام صفوي سببه التنشئة التي تجرعوها منذ المرحلة الثانوية وفي الجامعة؟ والتي تسببت فيها الأحزاب الآيديولوجية التي زرعت في عقل طلاب الجامعات والخريجين أنهم إما أن يكونوا حكاماً وقادة أو معارضين نشطين في الداخل والخارج.
وأتابع منذ فترة طويلة العديد من المواقع الأسفيرية وفيها أحياناً كتابات جادة، ولكن توجد فيها كتابات كثيرة طابعها تهريجي وشخصي ومحتواها غير منطقي ولا يحترم عقل القارئ حتى إذا كان معارضاً للحكومة السودانية، وهي مواد تصلح للتسلية وتمضية الوقت وبلغة الشارع هي مجرد «شمارات» ومليئة بالغمز واللمز. فقد أتاحت وسائل الإعلام الجديد الفرصة لقطاعات كبيرة من الناس لكي يشاركوا في السياسة العامة وعملية صنع القرار، وكلما كانت الكتابة والتعليقات جادة ومفيدة وبها معلومات، فإن ذلك يساعد الجمهور على التفاعل والمشاركة المفيدة.
والتفاعلية في الإعلام تم اختراعها لعصر النظرية الرابعة في الإعلام «المسؤولية الاجتماعية»، ولكننا في هذه المنطقة مازلنا نعيش في عصر النظرية الأولى في السياسة والإعلام، وهنا تكمن المفارقة بين التكنولوجيا التي نستخدمها مثل الموبايلات الذكية «جلاكسي s 4»، وواقعنا على الأرض، وفي حساب الأعوام المسافة بيننا وبين التكنولوجيا الذكية التي نستخدمها رغماً عنا أكثر من ثلاثمائة عام «ثلاثة قرون» وهي المسافة بين عالم جوتنبرج وعالم بيل جيتس. والكتاب السودانيون الذين يتناولون شؤون السودان من الخارج تبهرهم النظرية الرابعة في الإعلام وعصر الإعلام الجديد ونظم اتصالاتها الحديثة وبيئتها السياسية ويحلمون بمثلها لبلادهم.
ولكن ما أبعد المسافة بين الحلم والواقع، إنها مسافة ثلاثة قرون، وأدباء وكتاب المهجر اللبنانيون علموا قبل أكثر من قرن أن كتاباتهم السياسية لن تحل المشكلة اللبنانية، فإتجهوا إلى الكتابة الأدبية التي تنشر وتعمق الإحساس بالوطنية «وطن الجدود أنا هنا أو تدري من أنا»، أما كتاب المهجر السودانيون فمازالوا يعتقدون أن الأفكار النيرة للإصلاح الداخلي يمكن تصديرها من المهجر، ولكن السياسيين المحترفين وغير المحترفين الذين وصلوا إلى السلطة والذين يقبضون على المفاتيح في الداخل لا يشاركونهم هذا الرأى، وبعضهم يعتقد أنهم عملاء لدول أخرى ويشكك في دوافعهم، والسبب في اعتقادي أن بعض الكتابات تشتم منها رائحة دور احترافي سياسي، الأمر الذي يصيب المصداقية والموضوعية في مقتل، وأرجو أن يترك كتاب المهجر السياسة قليلاً، ومن أجوائهم المخملية أتمنى أن تأتينا منهم رياح مصطفى سعيد ومريا وظلال ضل الدليب، لأنه في خاتمة المطاف أريح سكن لهم وإن طال الزمن.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. بسم الله الرحمن الرحيم….نعلو الله..
    يا جماعه يعني ناس صلاح شعيب وحمدنا الله والضو ما وطنيين وقرفانيين ساكت…وشروني موقف متحضر والسودانيين كسلانين وما بجو من الرياض بوقفو عرباتهم في نمره 2 ويمشو كداري لوسط الخرطوم !!!!!!!!!
    في الرياض في مساج إسلامي ما في دليب وفي شبكات دعاره يقودها جهاز الأمن….اجنده بتاعت فنيلتك واساءه بتاعت قلبك إحنا حكومتنا هي البتسئ لينا واكتر حكومه يمارس عليها لابتزاز حتي من أتفه الأنظمة في العالم..
    كلامك حشو فارغ

  2. لانة ما في بلد في الدنيا حكومتة زلت شعبها وشردتة زي ما عملت حكومة البشير وزمرتة. عشان كدة ما تستغرب يا دكتور كان من المفروض انت نفسك تنضم لناقدي الاوضاع الداخلية من الخارج لانة في الداخل ما في حرية ولا رايك شنو يااااااااااااااا دكتور

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..