دارفور بلدنا

شئ من حتي
دارفور بلدنا..
د.صديق تاور كافي
جرت حملة اعتقالات واسعة بداية شهر نوفمبر المنصرم لعدد من ابناء وبنات اقليم دارفور الناشطين في المجالات القانونية والاعلامية وحقوق الانسان بلغ عددهم 14 حسب المعلومات المتداولة في الاوساط السياسية والاعلامية ، بينهم سيدات وآنسات، ومن الذين تعرضوا لهذه الحملة الاستاذ عبدالرحمن قاسم، وعبدالرحمن آدم، وضرار آدم ضرار، وكوثر عبدالحق، وعزيزة عبدالله، ومنال حسني وجعفر السبكي المحرر بجريدة (الصحافة) وآخرين.. وقد تشكلت هيئة للدفاع عنهم برئاسة الاستاذ مصطفى عبدالقادر المحامي، حيث فوجئت هذه الهيئة عند اتصالها بنيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة لمعرفة التهم والاتصال بالمعتقلين، فوجئت برد هذه النيابة الذي يفيد بعدم وجود اسماء المعتقلين لديها وانه لا توجد بلاغات ضدهم بالتالي ، وحسب أُسر هؤلاء فإنهم لم يتمكنوا من مقابلتهم او حتى معرفة مكان احتجازهم والاسباب والظروف ، وكل ما هو متوفر مجرد تسريبات من هنا وهناك..
وتبعا للتسريبات المتداولة فإن هؤلاء قد جرت حملة اعتقالهم على خلفية علاقتهم بـ (راديو دبنقا) الذي يبث من هولندا منذ اكثر من ثلاث سنوات، ويجد متابعة واسعة وسط مجتمع دارفور، وكذلك على خلفية اتهامات بالتخابر لصالح المحكمة الجنائية الدولية.
يقول امين حسن عمر وزير الدولة برئاسة الجمهورية: لا يوجد كيان اسمه (راديو دبنقا) بالنسبة لنا.. هم عبارة عن مجموعة معارضة تتخذ من هولندا مقرا لها وتتعاون مع مجموعات داخلية وتخدم اغراضها الخاصة.. وهذا الراديو بالنسبة لنا يهدد الامن الداخلي ويعمل على بث التحريض ويتسبب في الفتنة، وهم يدركون انه غير مرخص لهم العمل من داخل السودان، لذا تدثروا بأسماء منظمات انسانية، هي هيئة اذاعية غير مسموح لها واغراضها مناقضة لأسباب الاستقرار الاجتماعي والسلام.
ويسترسل امين حسن عمر بقوله: اذا ثبت خروج اي شخص عن القانون سنتعامل معه وفق القانون، وسيُقدم كل الذين اعتقلوا للمحاكمة، كل من ادخل اجهزة بث غير مسموح لها بالدخول، والقانون رأى فيه خرقا سيُقدم الإدعاء في حق من ادخلها واستخدمها.. الصحافة – 2010/11/11م، العدد (6224) . وهذا الحديث يعتبر التصريح الرسمي الوحيد في هذا الخصوص، ولو انه لم يصدر من الجهة صاحبة الاختصاص في مثل هذه الحالات، وبالتالي فهو حديث سياسي وليس قانونيا او رسميا وإلا لكان قد صدر من النيابة او من وزارة العدل او من وزارة الداخلية او من الناطق الرسمي باسم الحكومة وكل هذه الصفات لا تتوفر حاليا للسيد امين حسن عمر، وبالتالي فإن اول ما يُفهم من هذا الحديث هو ان الاجراء الذي تم بحق هؤلاء المعتقلين هو قرار سياسي صادر من دوائر حزب المؤتمر الوطني الحاكم وليس من دوائر رسمية في الدولة.. ويُفهم ايضا من الحيثيات التي اوردها امين في حديثه بخصوص (راديو دبنقا) من حيث تهديد الامن الداخلي وبث التحريض وتسبيب الفتنة، ان هناك انتقائية وتمييز واضحين، لأن نفس هذه الافعال (اذا ثبتت)، هو ما تقوم به صحيفة (الانتباهة)وصاحبها ومنبره طيلة السنوات الماضية مما اضطر الحكومة الى ايقافها لذات الاسباب، حيث سبق ان ذكر مدير جهاز الامن والمخابرات ان صحيفة (الانتباهة) قد أُوقفت لأنها عنصرية، وذكر السيد رئيس الجمهورية انها اُوقفت لأنها مخالفة للدستور.. ولكن هذه الصحيفة لم تغير نهجها بعد السماح لها بالصدور مرة اخرى،! وربما تمادت اكثر من ذي قبل…
فما ذكره امين حسن عمر بشأن (اذاعة دبنقا) كان يمكن استيعابه وقبوله عقلا ومنطقا عند ثبوت هذه الاتهامات فعلا، اذا كان الاجراء بحق صحيفة (الانتباهة) وجماعتها قد استمر ، لأن ما يمارسه هؤلاء الآخيرون هو اشد من القتل، اما وان شيئا من هذا لم يحدث، فإن ما جرى بحق ناشطي دارفور يمكن ان يُفهم ضمن اكثر من اطار لأنه يكون حمالا لعدة اوجه، خاصة اذا علمنا ان هذه (الاذاعة) غير المرخص لها ظلت تقوم بالبث منذ اكثر من ثلاث سنوات دون ان يصدر اي حديث رسمي او غير رسمي بحقها، سواء كان ذلك اعتراضا عليها او تحذيرا للناس من التعامل معها.. والسؤال هنا هو لماذا الصمت على هذه الاذاعة طيلة هذه المدة، وكيف للعاملين عليها ادخال اجهزة بث غير مرخص بها، واقامة دورات تدريبية واعتماد مراسلين اذا كانت الدولة غير موافقة ضمنا او علنا على عملها…؟!!
خطورة ما حدث لناشطي دارفور انه حتى الآن يبدو اجراء سياسيا وليس قانونيا، وصدور التعليق عليه من رئيس وفد الحكومة (أي وفد المؤتمر الوطني) في مفاوضات الدوحة يجعله كذلك، وبالتالي يضعه ضمن اوراق الضغط السياسي، بمعنى آخر فإن الحكومة تميل الى خيار التصعيد العسكري ميدانيا، والتضييق على الناشطين الاعلاميين والحقوقيين سياسيا وتتصلّب في المفاوضات، وتدعم انقسامات الحركات (الموقعة معها على اتفاقات وغير الموقعة معا).. حتى تحقق تغييرا في ميزان القوى لصالحها وبالنتيجة في طاولة المفاوضات. هذا من ناحية..
ومن ناحية ثانية فإن خطورة هذا الحدث في كونه كإجراء ينحصر فقط في ناشطي اقليم دارفور ، وهذا وحده يكفي لإثارة حفيظة المجتمع الدارفوري كله، حتى منسوبي حزب المؤتمر الوطني انفسهم. لأن الاجراء سواء قُصد به او لم يُقصد، قد اخذ طابعه الجهوي بهذا القدر او ذاك. لذلك كان الاجدر اعادة التفكير مرات ومرات قبل الاقدام عليه.. ولأن المتلقين للحدث ليسوا كلهم من قاعدة مجتمعية او سياسية واحدة فإنهم سوف ينظرون إليه كل من زاوية نظره الخاصة. فهناك من يفسره على انه استهداف جهوي لأهل دارفور في شخص ابنائهم المهتمين بأمرهم اعلاميا وحقوقيا ، وهناك من يعتبر الامر كيلا بمكيالين في حيثيات يمكن ان تنطبق على آخرين مثلما هو الحال بالنسبة لأهل (الانتباهة)، وهناك من يفسره على أنه مجرد اجراء كيدي القصد منه اسكات اي صوت خارج منظومة السلطة وحزبها وهكذا وهكذا..!
بتقديرنا ان ما حدث سوف يأتي بنتائج سلبية على الحكومة وعلى حزب المؤتمر الوطني فوق ما هم عليه في الشأن الدارفوري، لأنه يتعلق بالعدالة والقانون والاجراءات القانونية السليمة، فهذه الطريقة من الاعتقال وعدم تحديد مكان المعتقلين او توضيح التهم بحقهم وعدم السماح للمحامين بمقابلة موكليهم والاسر بالاطمئنان على ذويهم، كل ذلك يعيد الى الاذهان صورة (بيوت الاشباح) في عهد (الانقاذ؟!) الاول الذي مثّل واحدة من اسوأ عهود الممارسة السياسية في تاريخ السودان بعد الاستقلال في 1956م. كما ان العدالة في الشأن الدارفوري ظلت تشكل مطلبا معادلا للعملية السلمية نفسها، وبالتالي فإن مثل هذه الاحداث يمكن ان تنضاف الى ملف العدالة الناقصة الدارفوري الضخم بدلا من ان نبحث عن صيغ لتقليص سجل التجاوزات والظلامات في هذا الشأن..
ويمكن للاجراء ان يعمق السخط لدى المجتمع الدارفوري ، ايضا الذي يصعب عليه تفسير ما حدث وفق السيناريو الماثل امامه، من اعتقال لسيدات وآنسات بالطريقة التي وصفناها…
السؤال المهم للحكومة وحزبها في هذا المضمار هو عن النوايا الحقيقية بخصوص الأزمة السودانية في دارفور، هل هي جادة في عملية البحث عن حلول جذرية للأزمة وطي ملفها نهائيا، ام انها فقط تمارس المناورة والمراوغة من اجل كسب المزيد من الوقت…؟! فالوضع في دارفور الآن يزداد تعقيدا على تعقيد، والحريق ينتشر وتتسع دائرته لتشمل مناطق ومجتمعات لم تكن في السابق جزءا من واقع الحرب الاهلية هناك.
كل ذلك بسبب المداخل غير الحكيمة والتي تفتقد للبعد الوطني الحقيقي في التعامل مع الشأن الدارفوري. فبعد التصنيف القبلي العنصري للمجتمع واستمالة طرف ضد الآخر، اندلعت المعارك القبلية بين هذه الاطراف ذاتها، وتفرخت حركات عديدة وأُستبدلت الحياة الطبيعية بحياة المعسكرات بسبب الانهيار الامني رغم مكابرة المكابرين في الحكومة وحزبها، فالاستقرار والطمأنينة مفقودة داخل المدن وداخل المعسكرات، بالمستوى الذي يجعل الحكومة الولائية تفكر في عمل خندق بطول 40 كلم حول عاصمة جنوب دارفور، للحد من التحديات الفوضوية، وتفكر في انشاء معسكر (نموذجي)؟! بديلا لمعسكر (كلمة) ثم تعود بعد بضعة شهور لتقول بأن الاوضاع مستقرة في المعسكر، وكأنما حياة المعسكرات هي الوضع الطبيعي للناس!… هذا فضلا عن انتشار الجماعات المسلحة ومليشيات القبائل خارج المدن وخارج السيطرة وانتشار القوات الاجنبية على طول الاقليم وعرضه. مضافا الى ذلك الاداء الحكومي السيئ على الصعد الادارية والاقتصادية والخدمية ، حتى اضحت دارفور ارضا شبه مستباحة من كل من هب ودب ، وليست عمليات سوق المواسير ببعيدة عن الاذهان..!
في مثل هذا الحال فإن ما يُتوقع من ابناء هذا الاقليم وبناته وكل صاحب ضمير حيّ ان يهتم ويتفاعل مع الواقع المأساوي القائم، من باب تحمل المسؤولية الاخلاقية تجاه اهله وبني وطنه.. وبدلا من التضييق على النشطاء كان الاجدى استصحابهم في عملية البحث عن حل وطني شامل للأزمة في دارفور بل وفي كل البلد. فتجربة الحلول السلطوية الفوقية، او التصعيد والاقصاء او الحل العسكري قد اثبتت انها ليست السكة المناسبة للخروج من الوحل السوداني في دارفور، بل ان المخرج هو في الحل الذي يستوعب الجميع بصدق نوايا وإرادة وطنية مبرأة من الاجندة الخاصة ومن الضغوط الخارجية..!!
الصحافة