الخياران

… جئ به مخفورا .. مكبل القدمين .. مقيد اليدين .. مطأطأ الهامة .. عيناه طافحتان بالقهر من فرط الإهانات التي تلقاها من جلاديه .. كان الشارع غاصا بالجماهير .. تدفقوا في تقاطر من كل حدب و صوب إثر سماعهم لنبأ (عقوبة الخيارين).
… كان موكبه .. يشق عباب بحرهم .. بصعوبة بالغة رغم سياط الجند (العنجية) التي تلهب ظهورهم في سادية ظاهرة !!؟ ..
و في قلب الساحة التي يشرف عليها قصر منيف توقف الموكب .. و أخذت الجموع الغفيرة في التراجع .. صانعة من أجسادها طوقا !!.
… أهو تطويق له أم عليه ؟
… أطل من شرفتي عينيه أمل باهت !!؟
… أم تطويق بهدف الفرجة و الإمتاع ؟!!
… أسقط بصره منكسرا نحو الأرض ؟!! …
… لم يمض طويل وقت حتى أطل موكب آخر رغم ضآلة حجمه مقارنا بالأول إلا أن المهابة كانت تحف به من كل جانب !.
… خيم الصمت على المكان و كأن الأنفاس قد حبست في قمقم !!.
… وقف ممتثلا لقدره أمام الحاكم في انتظار منطوق الحكم ..
… جرت العادة في ذلك العهد أن يخير المذنب بين ضربين من العقاب .. أحلاهما علقمي المذاق .. كواجهة براقة لديموقراطية الحاكم .. و فرط إنسانيته في تطبيق لوائح حقوق الإنسان على معارضيه من مرتكبي كبائر شق عصا الطاعة عليه !!؟ ..
… إشرأبت الآذان .. و كادت الأبصار أن تخرج من محاجرها من شدة إطالة التحديق ..
… عند مركز الدائرة .. كان هناك الحاكم و حاشيته يمشون على الأرض في خيلاء و ينظرون إلى الرعية في صلف .. بينما الهتاف بحياة الحاكم و طول بقائه و عدله يرج الفضاء رجا .. و يكاد أن يعانق عنان السماء.
… جلس الحاكم و من حوله الحاشية .. و قد خفتت الأصوات حتى كادت أن تموت اختناقا على إثر إشارة من سبابته .. أخذ السكون بتلابيب حركة الحياة .. و كاد أن يجهز عليها .. لولا (جعير) الحاجب الذي خرج من بين فوهة فمه الكهفية كصخور تتساقط على سطح بركة آسنة .. منبها الحضور إلى صدور منطوق الحكم .. بينما بعض الحشم يضعون (جوالا) تكاد أشداقه أن تنفجر من جراء الإنتفاخ بجانب جلاد ضخم و سوط (عنجي).
.. تحدث واحد من أفراد الحاشية مبتدرا المحاكمة بقوله :
– هذا المتهم .. إرتكب كبيرة لا تغتفر بشقه عصا الطاعة على (فرمانات) عظمة مولانا الحاكم.
أردف ثاني مكملا :
– إلا أن عظمته بما عرف عنه من رحمة و تسامح و خضوع لمبدأ الديمقراطية قرر أن يتيح للمذنب خيارين.
تقدم ثالث موضحا :
– يعني عليه أن يختار بين عقوبتين و له مطلق الحرية في ذلك دون تأثير من أي جهة أو ضغوط خارجية ..
هتفت الجماهير بأصوات جوفاء :
– عاشت الرحمة.
– عاش العدل.
– عاشت الديمقراطية.
– تابع رابع.
– كما ترون هذه منتهى الرحمة و العدل و الديمقراطية.
… تصدر خامس منفوشا كطاؤوس.
– و الآن أتلو عليكم منطوق الحكم الذي أصدره الحاكم بعد مداولات إستمرت بضع دقائق مع مستشاريه و هو على الوجه التالي [على المذنب أن يختار بين أن يضرب مائة جلدة أو أن يلتهم محتويات هذا الجوال من البصل الأحمر ؟!].
… نظر المذنب إلى الجلاد الضخم و سوطه (العنجي) .. فسقط قلبه بين قدميه .. لاسيما و أن سجانيه لم يتركوا في مساحة جسده الهزيل بقعة صالحة لتلقي مزيد من الجلد .. لذلك سرعان ما استدار نحو جوال البصل الذي هفت نفسه إليه منذ الوهلة الأولى مدفوعا بنداء الجوع الذي كاد يفري أمعاءه !!
… دون روية أو إعمال فكر .. إختار إشباع شهوة البطن ..
… لم يمض طويل وقت حتى إلتهبت عيناه و فتحت لها على خديه جداول جارية من الدموع .. و ظلت منافسه تصدر أصواتا متتالية من العطس و السعال .. لم يكن في وسعه أن يلتقط منديلا أو ذيل جلبابه ليمسح بأحدهما هذه السيول الحارقة .. فجسده الهزيل عار تماما حتى أسفل الخاصرة بقليل !!.
… نظر إلى الجوال الجاثم على صدره كما خيل إليه و لدهشته .. لم يعتوره الإنتقاص بالقدر الذي ظنه .. يبدو أنه لم يقو على التهام أكثر من كسر عشري لا يتعدى الواحد بأي حال من الأحوال .. بغتة إمتلكه يقين جازم بأن مجرد المحاولة من جديد لحشو فمه بالمزيد من كرات البصل الأحمر .. صارت عديمة الجدوى .. لأنه لن يجرؤ على الإستمرار و إلا تعرض إلى الإنفجار .. إذن فليبحث عن بديل [ألم يتح له الحاكم حرية الإختيار !!؟] و التفت إلى الجهة الأخرى فاصطدمت عيناه بجثة ضخمة .. يكاد العنف و الوحشية يضجان داخل كل خلية من خلاياها !!؟ ..
… و لكن لعل الجلد أخف وطأة على النفس من هذا اللهيب الفظيع الذي يكاد أن يحرق جوفه .. ليته اختار منذ البداية العقوبة الأخرى .. ربما كان الآن قد اغمى عليه و لم يعد يستشعر وقع السياط على جلده المتقيح !! ..
إنتبه لأحدهم يقرعه زاجرا :
– لماذا توقفت ؟ .. ألا تعلم أن التراخي في تنفيذ العقاب يضاعف حجم الجرم و بالتالي يسقط عنك حق الإختيار ..
… حاول عبثا أن يمنع مسيل الدموع و يقطع تتابع العطس و السعال .. فخرج صوته مشروخا يقطر بالمهانة ..
– هل لي أن أستبدل البصل بالجلد ؟
إقترب من الحاكم و أخذ يتهامس معه لهنيهات ثم التفت إلى المذنب و قد رسم على شفتيه الحادتين كشفرتي موس إبتسامة صفراء تكاد تنضح بالخبث.
– سماحة الحاكم بقلبه الكبير و عدله النادر الذي لم يعد له ثمة نظير في هذا العصر .. قرر الإستجابة لضراعتك .. تأكيدا لحرية الرعية في ممارسة حقوقها كاملة .. و الآن لك أن تختار الإستمرار فيما شرعت فيه أو البدء في عقوبة الجلد .. و متى ما أردت الإستبدال .. لك ذلك .. فقط بشرط أن تكمل إحداهما دون انتقاص.
… إجتاحت جسده الدامي رعدة وقف لها شعر جلده إلا أن ذكرى لهيب جوفه المحروق و نيران دموعه المشتعلة جعلته يستسهل الجلد و يفضله على التلظي بين جحيم البصل الأحمر !! زحف على ركبتيه نحو الجلاد و هو يخفي عينيه بكفيه رضا بما وفرته له أريحية الحاكم من حرية الإختيار !!.
… إنهالت عليه الضربات الأولى دون أن تنتقص من قدرته على الإحتمال شيئا .. و لكن حينما أخذت ألسنة السياط تحفر لها أخاديد على سطح متنه الذي استحال إلى ثقوب كبيرة تنبثق منها الدماء !!؟ إنهار تماما .. و لم يعد قادرا على احتمال المزيد !!
مجاري الدموع .. و ثقوب الدماء !! ..
… إنه حقا بين الأمرين (!) .
… لكن لعل سعير جوفه قد خف أوراه نوعا ما .. ربما يكون في مكنته الآن أن يزدرد المزيد من كرات البصل الحمراء .. قطعا إنها أقل بشاعة من وقع هذه السياط (العنجية) .. ثم إنها بسعراتها الحرارية قادرة على منحة القدرة على الإستمرار و المقاومة !! .. و ربما الصمود !! ..
… هذه المرة لا يتوجب عليه أن يحصل على إذن لإستبدال الجلد بالبصل فأريحية الحاكم قد كفلت له مطلق الحرية في الإنتقال من عقوبة إلى أخرى !!.
… و هكذا أخذ (المذنب) يتمتع بحرية مطلقة و هو يمارس تلقي (عقوبتي الخيارين) حتى سقط صريعا مع آخر جلدة ، مستكملا بذلك العقوبة المقررة .. بينما لم يبق من كرات البصل الأحمر إلا القليل !!!؟
فيصل مصطفى*
[email][email protected][/email]
———————–
* قاص و روائي سوداني