لعلاج العنصرية…آفة السودان الكبري

بسم الله الرحمن الرحيم
لعلاج العنصرية…آفة السودان الكبري

محمد عبد المجيد أمين ( عمر براق )
[email protected]

لم يقوض صرح السودان ولم ينفرط عقده الا بسبب العنصرية ، ذلك السلوك البغيض الذي ذمته وأنكرته الأديان وشجبته كل المواثيق والقوانين البشرية علي مر العصور. والعنصرية لا تقتصر علي تمايز عرق معين علي باقي الأعراق الأخري وانما يمكن ، ان انطلقت شرارته الأولي ،أن ينتشر وبسرعة كالسرطان بين الأعراق الأخري المتعنصر عليها ، اذ سرعان ما ترتد وتتقوقع داخل جذورها لتدافع عن نفسها بعنصرية مضادة. والملاحظة أن ردة الفعل هذه قد لا تأخذ المواجهة شكلا مباشرا لتفادي الصدام وانما يستعاض عنها في البداية بشكل من أشكال التقوقع داخل القبيلة مع اظهار الضعف في شكل ?حياء” المغلوب علي أمره، الا أنها سرعان ما تقرر وفقا لمصالحها وكتدبير وقائي للدفاع عن النفس : اما المواجهة أو الممالئة ، وفي كل الأحوال سيكون المجتمع هو الخاسر الأول ، اذا سيجد نفسه وقد تشرذم بنيه الي كيانات عنصرية يصعب السيطرة عليها ان لم تحدد جذور المشكلة ويعمل علي وئدها . أليس هذا هو ما نصح به رسولنا الكريم ؟.
يعرف في ثقافات الشعوب أن مفهوم الحياء هذا سواء للخير او للشر صفة متجذرة في بعض المجتمعات وتحديدا في المجتمع الياباني ، وفي هذا الموقف لا يستطيع المرء أن يرفع رأسه أمام الآخريين ،اذا فعل أو لم يفعل شيئا أو سمع أو لم يسمع شيئا . هذا ما وثقته عالمة الانثربولوجيا روث بندكيت في كتابها ” الأقحوان والسيف” الذي قارنت فيه الشخصية والثقافة اليابانية بالثقافة الغربية وخلصت الي أن الابتسامة اليابانية ما هي الا ثقافة الحياء وثقافة الغرب هي ثقافة ” الذنب” .* المرجع : بوذية الزن والتحليل النفسي : اريك فورم ، د.ت. سوزوكي ،ريتشارد دي مارتينو( ص 7)
بهذه المقاربة يمكن أن نقحم ثقافة ” الاستعلاء” العنصري في مجتمعنا ، وهي ثقافة شاذة بمعني الكلمة ، اذ لا تجمع بين ثقافة الحياء الياباني الا من خلال الطرف المُتعنصر عليه ، ولا يتعظ منها ” المُتعنصر” نفسه وفقا لثقافة “الذنب” الغربية بل نراه يزداد زهوا وخيلاء وهو يحطم الآخر.
في موقف كنت طرفا ثالثا فيه بين صديقين من مهندسي محطة توليد الروصيرص انهال أحدهما علي الآخر وبحضوري ، بوابل من الكلمات العنصرية البغيضة فما كان من الآخر الا أن أطرق رأسه حياء ووجدت نفسي أفعل نفس الشئ ، ربما تضامنا معه. ظل هذا الموقف عالقا في ذهني حتي اللحظة بسبب تلك القسوة التي تمارس بها العنصرية في بلدنا هذا علي الآخر ، حتي ولو كان صديقا أو زميلا في العمل أو الدراسة . نعم ، قد تكون العنصرية متجذرة في كل فرد فينا حتي بين القبيلة الواحدة وتنبش أظافرها بين وقت وآخر ، حسب المواقف ، ويبرر آخرون بعدئذ هذه المواقف العنصرية وبمنتهي السذاجة ، بأن خمسة وسبعون في المئة منها مجرد “هظار” ولكن ..! أليس الخمسة والعشرون في المئة الأخري التي عادة لا يفصح عن مكنونها الحقيقي كفيلة بأن تكون مدخلا لاشعال نيران الحقد والضغينة والبغضاء من الآخر ولو بعد حين ؟ بل الا يمكن أن تكون تمهيدا للاستعداء وربما الحرب وفي حالتنا يمكن أن تكون سببا مباشرا من أسباب الانفصال ؟.
هناك أربعة عناصر اساسية في تحديد اشكال العنصرية في مجتمعنا هي : العرق والدين واللغة والثقافة. من خلال سلسلة مقالات سابقة لي بعنوان ” بين عنصرية القبيلة وعنجهية الحزب “حاولت طرح مشكلة العنصرية العرقية من منظور ديني تاريخي وأعتقد أنني لم أوفق كثيرا في هذا الجانب ، لأنني لم ألاحظ حينها أن العنصرية عندنا يمكن أن تكون حالة من حالات الأمراض النفسية !!. فالعنصري غالبا ما نراه يتسلح بأسلحة ( العرق ، الدين ،اللغة ، الثقافة) يراها هو من الأسباب الكفيلة بالتمايز علي الآخريين داخل محيطه المجتمعي والقطري ، في الوقت الذي يصطدم تماما بحاجز ” الدونية” عندما يقارن ” بضاعته” البائرة هذه بما يراه أو يعايشه أو يمارس عليه في محيطه الاقليمي الأكثر تميزا ، ان صح القول، خاصة عندما يقارن هويته بهوية الآخريين الذين يملكون نفس البضاعة ، فيكتشف أنه قد يكون شخصية ” فريدة” حقا اذا ما أعطاها الفرصة فقط لسبر أغوارها بالنقد والتحليل الذاتي الموضوعي ، ثم تحديد ملا محها واعادة صياغة ذاته علي الوجه الصحيح . بل بدلا من ذلك نراه يتقاعس وينتكس ويعوض ” عجزه ” هذا ، بل ويتمادي بممارسة التعالي علي الآخريين دون أن يحل مشكلته الأساس .
لم تفلح بعد الآيات البينات ولا الأحاديث الواضحات ولا العلم الحديث في نشر ثقافة التعايش والاعتراف بالآخر ، وليس لدينا في الواقع اي مصادر حقيقية أخري غير الاصرار علي ما ورد في الكتاب والسنة بشأن نبذ العنصرية بكل اشكالها ولم يعد هناك من حل الا بسن القوانين الرادعة التي يمكن أن تحد من هذه الظاهرة المدمرة للمجتمع وفي نفس الوقت ينبغي دعم ونشر ثقافة التعايش والاعتراف بالآخر والبحث عن الذات وهويتها المفقودة والاعتراف بها كما هي بكل مزاياها وعللها .
لا أحد يطلب منا أن نجلس أمام معالج نفساني لنفرغ له كل الهموم ويحل لنا مشاكلنا ، فهذه مشكلة مجتمعية محضة تنال الكثير منا ويتأذي بسببها الآخريين والدواء لحسن الحظ موجود وفي متناول الجميع . قال تعالي ” وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً “الإسراء82 . هذه آية معالجة واحدة ، وهناك غيرها من الآيات والأحاديث النبوية والمواقف والأمثلة الواردة علي امتداد التاريخ وفي الحضارات البائدة والمعاصرة وفي ثقافات الشعوب كلها كفيلة بالاستفادة منها.
يبقي السؤال الآن .!! من الذي سيتبني ويشرع في هذه المهمة المجتمعية الجليلة ؟ . ورد عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه كان ينتهج اسلوبا فريدا في تغيير مفاهيم الرعية بغية وضعها في المسار الاصلاحي الصحيح ، اذ كان يتبني حسنة ويشرع في تبيانها وتبنيها ويعرض سئية ويشرع في معالجتها وتبيان مساوئها ثم يطرحها بعيدا … وهكذا …تُثبت الحسنات وتُطرح السيئات شيئا فشيئا . هذه المهمة يمكن أن يتولاها أأمة المساجد وأهل العلم والفضل بمبادرات فردية منهم ودون الحاجة الي الحكومة بعقد حلقات ودروس يومية داخل المساجد وفي المدارس والمعاهد والجامعات لتبني وتثبيت الحسنات وتبيان ونبذ السيئات وهذا أمر يستحق العناء المبذول في سبيله ، فهو يجنبنا الوقوع في الزلل والتخبط في دياجير الظلام ، كما أن فيه من الأجر والثواب ما تنعكس آثاره علي الناس وعلي المجتمع.
هذه مجرد دعوة لاعادة ضبط سلوكنا المجتمعي بالتعامل مع الأحداث والمواقف بمزيد من الجدية والمسئولية ، فالدعوة بحد ذاتها عمل جماعي عام نفتقده كثيرا في مجتمعنا ، يمكن أن يقوم به الأفراد من تلقاء أنفسهم اذا كانوا حريصين علي ترقية محيطهم وبالتالي مجتمعهم والنهوض به من هذا السبات الذي طال أمده .
هذا والله اعلم وهو من وراء القصد.

الدمازين في : 2010/12/06م.
محمد عبد المجيد أمين(عمر براق)
[email protected]

تعليق واحد

  1. الاخ محمد لك التحية

    لقد طرقت موضوعا خطيرا وهاما جدا وهو للاسف متجذر فينا بشكل كبير الا من رحم ربي ,,

    لك الشكر عليه واقتراحك جميل وموضوعي ان وجد منا الاهتمام به

  2. اخي محمد لقد تطرقت لموضوع في غأية الأهمية في مجتمعنا السوداني وهو العنصرية وفي ظني الشخصي هي التي أوصلتنا للحالة التي نعيشها الأن،فنحن مجتمع ينضح بالعنصرية في كل جوأنبه وحقيقة لم أحس بهذا الأحساس وانا داخل السودان لانني ولدت وكبرت في مدينة أمدرمان العاصمة الوطنية للسودان فجيراني من جميع قبائل السودان المختلفة ولو قلته ليك من العيب عندنا في امدرمان القديمة تحديدا سؤال الأخر عن قبيلته لهذا نشأنا كلنا وكاننا أسرة واحدة،ولكن عندما سافرت خارج السودان عرفت الحقيقة المرة،لذلك أري تطبيق نموذج أمدرمان علي جميع أنحاء السودان إذا اردنا علاج مشكلة العنصرية في السودان
    ولك كل شكري وتقديري

  3. نعم ذاك هو أس البلاء ؟ 1- نجد أن معظم المشارع التنموية على مر العهود خططت على أساس محلى ضيق بمعنى لم يكن هنالك نظرة لأمر انهاء التعنصر تدريجيا ومرحليا بأقامةمدن وقرى نموذجية لأختلاط الناس مع توفير كافة الخدمات التى هى الهم الأكبر (تعليم صحة ..الخ
    ثانيا مد الطرق وتعبيدها فسهولة الحركة للمواطن تنقله الى عوالم أخرى دون مجتمعه الضيق الذى مقفل فيه للعمل والتجارة وتبادل الثقافات محليا معا؟ثم انهاء الداخليات بالمدارس والجامعات له أثر كبير حصر الغالبية فى ولاياتهم ؟ ومعلوم كلفتها الكبيرة وتلاعب المتعهدين مع البعض ( ومن قال الكل فقد ظلم) وأعتقد اعادتها بطرق مدروسة تعيد شيئا من بناء اللحمة الأجتماعية والمعرفية وتذوب الفوارق؟ واله وراء القصد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..