السودان بين محنتين

نجحت الثورة المصرية في تثبيت أهم انجازاتها وهو ممارسة الحرية السياسية وحرية التعبير في أعلى درجاتها وهو مكسب ديمقراطي هام يجعل من الصعب لأي حاكم مهما بلغت سطوته التمادي في تكريس سلطته أو فرض آليات القهر متى ضاق بتلك الحرية لأن الشارع حينها سيكون سيد الموقف ولعل ما نشهده و ما نرقبه اليوم من مشهد مصري يدلل على ذلك .
أما الحالة السودانية فلا تزال تمارس لعنة الحرج وتلعق المحنة المزدوجة بين من هم في حلبة الصراع . فالحكومة محنة والمعارضة محنة في بعض إشكالها وتجلياتها سيما إن كان البديل بديل آخر مر يشرب من كأسه الشعب السوداني مرة أخرى .
إلا أن الفرق كبير بين الحالتين المصرية السودانية فرغم أن السودان سابق بثوراته وتمرده على السلطة وفي ظروف أكثر صعوبة من حيث آليات الثورة الحديثة إلا أن المصريين الذين سكنوا تحت القهر لثلاثين عاما نهضوا كالمارد في محاولة جادة لإثبات ثوريتهم في مناخ الحرية الذي أوجدوه . أما نحن فبعض المعارضة مشفق مما قد تدفع ثمنه البلاد من تمزق وتشتت وحرب اهلية إن أصبح السلاح سيد الموقف ، وبعض يرى أن لا مخرج إلا من خلال فوهة البندقية أو يأتي على ظهر مركبة مصفحة ليكتسب شرعيته من تلك المركبة أو هكذا يظن .وبعض آخر ينتظر ما سوف تسفر عنه الأحداث إذن تلك محنة المعارضة بشقيها المسلح والسلمي .
أما محنة الحكومة فتكمن في أنها قد تفرقت شيعا وطوائف منهم المتجمد في مواقفه ومنهم السائح في رؤاه ومنهم الصامت للحفاظ على امتيازاته لأطول وقت ممكن ولو كان فيهم رجل رشيد لأدركوا أن العالم والمنطقة من حولنا تتغير وأن لا أحد يرضي بالقهر والقمع وخنق الحريات ولا أحد يقبل بالحلول الأمنية لأزمات البلاد .
ولأدركوا أن السبيل الوحيد لصيانة أمن البلاد والحفاظ على ترابها يكمن في إبرام إتفاق وطني جاد يضع حدا لمبررات حملة السلاح وأساسا لحوار وطني ويضع أيضا نهاية عملية لهيمنة سياسات الحزب الواحد التي خلقت مناخا مواتيا للفساد وأشعلت نيران الحروب الداخلية بلا معنى وأهدرت موارد البلاد في غير جدوى وقزمت من دور البلاد الإقليمي والدولي وجعلته نهبا للقوائم والمحاكم الدولية .
ما يقارب الربع قرن من حكم الإنقاذ ولم يجد الحزب الحاكم الشجاعة للاعتراف بأخطائه التاريخية والتواضع إلى شعبه بفتح صفحة جديدة على أساس ديمقراطية حقيقية تؤسس لتبادل سلمي للسلطة .
ولا يزال قادة النظام الحاكم يتحدثون عن الانتخابات القادمة كأساس للتنافس السياسي والتغيير ولكنهم غير مستعدين لتعطيل القوانين المقيدة للحريات الأساسية ووقف الاعتقالات ووقف الرقابة على الصحافة والإعلام وكفالة حق التظاهر السلمي ووقف توظيف موارد البلاد في الصرف السياسي ووقف الحروب الداخلية وإطلاق دعوة جادة للحوار الوطني بين مكونات المجتمع . ودون تلك الشروط يصبح الحديث عن الانتخابات مجرد سذاجة سياسية في عصر ثورات الميادين .
غير أن البديل عن كل ذلك لن يكون جيدا بالنسبة للحزب والنظام الحاكم في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة والأوضاع الأمنية والاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد والحروب المستعرة التي تأكل من أطرافها وارتفاع سقف المطالب السياسية في الشارع والسودانيون ينظرون إلى جيرانهم الذين أدخلوا مفاهيم جديدة لمعنى الحرية والديمقراطية أو معنى أن تكون حاكما بإرادة الشعب لا أن تكون محكوما بإرادة الحاكم .
ولن يعبر السودان بكل جراحه هذا النفق المظلم حتى تدرك أطراف الصراع فيه وحوله أن شروطا جديدة باتت تخطها الشعوب الحرة التي يرفع من صوتها الظلم فالنظام مطالب بتعلم الدرس من جيرانه خوفا من مصير فخامة الرؤساء المخلوعين وأتباعهم والمعارضة السياسية مطالبة بتحديث آلياتها وتوحيد مواقفها أما المعارضة المسلحة فمطالبة بتعلم أن البندقية مهما كان مبررها لن تمنح أبدا الشرعية في عهد ثورات الميادين .
حسن أحمد الحسن / واشنطن
[email][email protected][/email]