من وحي مقال محفوظ بشرى: هل المعركة في السودان عنصرية أم طبقية..؟

أثار مقال المثقف والشاعر الشاب محفوظ بشرى عن المهمشين الأفارقة في عاصمة دولة الجلابة ما يشبه الصدمة، خاصة في أعماق المستهدفين بالمقال، الذين وصفهم صاحبه بالعنصريين المتسترين، فترى لهؤلاء فرفرة وجقلبة غير طبيعية في تعليقاتهم على المقال على الإنترنت، ذلك أن محفوظاً داهمهم بكلماته دون سابق إنذار، فكشف الغطاء عن بعض مكامن شعوبيتهم الفجة..فأرتج عليهم.
وما يجعل لكلمات محفوظ قيمة فكرية وثقافية، أن محفوظ ينتمي اجتماعياً وجغرافياً إلى قلب مراكز دولة الجلابة، لكنه ينتمى طبقياً إلى بقايا الطبقات الوسطى في السودان، بينما ينتمى فكرياً وثقافياً إلى تيار الحداثة، ما يعني أن رفع محفوظ الغطاء عن المدلولات الثقافية والاجتماعية والسياسية الصراعية لأسماء الأحياء في العاصمة، لا يمكن له أن يكون عنصرياً على الإطلاق، بل هو أقرب إلى جلد الذات، إلا أن طابعة تحليلي تأملي ما يجعله نقداً ثقافياًً واجتماعياً في المقام الأول، وليس مقالاً عاطفياً نابعاً من عقدة ذنب ما، فيما نرى.
إلا أننا على اهتمامنا بالجدل الذي أثاره محفوظ، ونظريته التي تستدل باتخاذ الفقراء أسماء أفريقية لأحيائهم، والأغنياء أسماء عربية، على وجود صراع بين المستعربين وغيرهم من أهل السودان، لكننا لا نقبل بفرضيته، ومؤداها أن احتكار الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في دولة الجلابة يقوم على أساس العرق، وأن الصراع في السودان عرقي وثقافي بالمعني الفلكلوري للثقافة، بل نرى أن الصراع الجوهري في السودان هو صراع طبقي، وينقسم أهل السودان فيه إلى قلة عابرة للأعراق والثقافات المحلية تستأثر بالسلطة والثروات والنفوذ والوجاهة، وإلى آخرين خارج دائرة السلطة والثروة والوجاهة، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الجغرافية في السودان، كما هو صراع ثقافي بين ثقافة القرون الوسطي القائمة على المشيخات والزعامات القبلية والحياة الجماعية ومصادرة حقوق الفرد والتعلق بالأوهام، وبين ثقافة الحداثة والحقوق والقيم الإنسانية المعاصرة.
صحيح أن غالب أهل السلطة والثروة والنفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في السودان هم من جهات وأعراق بعينها، إلا أن ذلك في ظننا ليس دليلاً كافياً على أن الصراع في السودان عرقي جغرافي، ذلك أنك تجد العديد من أبناء الهامش الجغرافي والعرقي يمتلكون القصور والأموال في أحياء الخرطوم الراقية، سواء كانوا جنرالات جيش وشرطة أو تجار أو رجال أعمال أو مهنيين أو زعماء قبائل أو سماسرة أومحظوظين، كما أن العديد من أحفاد زعماء قبائل مستعربة، ناهيك عن السواد الأعظم من أفرادها العاديين، يعيشون حياة الفقر والبؤس في أزقة وأحياء الخرطوم الشعبية..ناهيك عن القرى والفرقان خارجها..!
إن الوجاهة الاجتماعية في سودان اليوم تقوم على الثروة، كما تقوم الوجاهة السياسية على القوة والبندقية كما هو معلوم، صحيح أن القبيلة أخذت تلعب دوراً متصاعداً في السياسة، إلا أن النفوذ السياسي يقوم على القوة الغاشمة ما يزال سواء عند السلطة أو أمراء الحرب، فيما أخذت الوجاهة الاجتماعية تبتعد عن معطياتها القديمة ومن بينها المعطى الجغرافي العرقي، لتمضي في اتجاه تحديدها عبر المعطيات الطبقية.
ولقد كنا أشرنا في مقالنا السابق قبل ما أتى به محفوظ، إلى معضلة الشعوبية في السودان، ذلك أن بعض البسطاء يظنون الصراع صراع شعوبية وأعراق وجهات، يشجعهم على ذلك تلاعب السلطويين وأمراء الحرب والساسة بمشاعر الأعراق والجهات في سبيل مصالح شخصية وحفظ أو نيل مكاسب طبقية.
وإن كنا نتحدث عن دولة الجلابة في مقالتنا هذه وأخرى سابقة، فنحن لا نتحدث عن دولة المستعربين القائمة على جثث الأفارقة، بل نتحدث عن دولة القلة من النخب الإنتهازية من شتى أعراق وجهات السودان، والتي تذيق سائر أهل السودان البؤس والظلم والهوان، صحيح أن ملامح دولة الجلابة مستعربة، إلا أن حقيقتها التاريخية أنها تحالف أوليغارشية وإقطاعيين وتكنوقراط وزعماء محليين على رأسهم جنرال ديكتاتور ، وليست نادياً للمستعربين يحظر دخوله على غيرهم، وإن بدا ظاهرها كذلك.
إننا في مقولتنا هذه، لا ننكر شيوع أشكال مختلفة من الشعوبية والعنصرية في السودان، بين المستعربين بعضهم يستعلى ويتميز على بعض، وبين الأفارقة بعضهم يتميز ويستعلى على بعض، وبين هؤلاء وأولئك جميعاً، بل تطال عنصريتنا جيراننا كالأحباش والمصريين وأهل تشاد، لكن معركة التحرير الكبرى لأهل السودان ليست معركة عرقية ضد مجموعة مستعربين يحتكرون الإمتيازات، بل هي معركة ضد نخب فاسدة تحتكر السلطة والثروة وتهدر وتبيع الموارد، وتصادر الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لأهل السودان، ولا تمثل هذه النخب الفاسدة المتحالفة أو المتناحرة مع بعضها غير نفسها، وإن زعمت أنها تمثل أعراقاً أو جهات بعينها إمعاناً في التضليل والخداع وتفريق كلمة الشعب.
كما أن تسمية أحياء أثرياء الخرطوم بأسماء أحياء راقية في مصر أو دول الخليج ليس دلالة على الاستعراب فقط، لكنها تكشف كذلك أشواق طبقية لأوليغارشية السودان ومجموعات شعبية أخرى إلى أنماط حياة مادية أرقى في دول الجوار، كما أن الزعم بأن معظم أسماء الأحياء الفقيرة والشعبية بالعاصمة أفريقية غير صحيح، والصحيح أن بعضاً منها أسمي أنجولا ودار السلام وأبوجا، مثلما أسمي الآخر جبرونا وزقلونا والعشش والكرتون، ما يكشف وفق نظريتنا عن وعي طبقي في المقام الأول يستبطن مطالب مدنية تتعلق بالحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بأكثر مما يستبطن أحقاداً وإحناً عرقية، وإن اتخذ ذلك الوعي أحياناً اقنعة الإختلاف العرقي أو الثقافي بالمفهوم الفلكلوري، فمطلب الوعي الذي يسمي مساكنه جبرونا وزقلونا وأنجولا ليس إقصاء عرق أو ثقافة محلية أخرى، بل مطلبه حقوقه في الحياة الكريمة والخدمات والاحترام والعدالة والمساواة والحرية بمعناها المدني والإنساني الواسع.
إن محاولة قراءة تسميات أحياء الفقراء والأغنياء وتفسيرها وفق مدلولات عرقية وثقافية محلية هي فتح متقدم يليق بأحد أهم المثقفين الشباب في السودان، لكننا نرى أن محفوظ قد ضل في التفسير، فظن أن هذا الملمح الذي استله من الواقع الإجتماعي يؤكد نظرية الصراع العرقي بين الثقافات المحلية في السودان، والحقيقة أن الصراع في جوهره طبقي بين قلة تحتكر كل شيء وبين كل طبقات وجهات السودان، وتغذي هذا الصراع الجوهري صراعات ثانوية هامشية أخرى، وضع محفوظ آنفاً يده على أحدها.
إن المشكلة ليست في وجود أحياء غنية بأسماء عربية وأخرى فقيرة بأسماء أفريقية، وليس المطلوب أن تصبح الأحياء الفقيرة عربية اليد واللسان، وأن تصبح الأحياء الأفريقية ثرية، بل المطلوب أن يستثمر أهل السودان مواردهم الطبيعية الهائلة في التنمية البشرية، وإدارة عجلة الإنتاج، وتنمية الدخل القومي ووضع آليات عادلة لتوزيعه، وبناء دولة ومجتمع ومؤسسات تقوم على التداول السلمي للسلطان، وعلى العدالة والمساواة واحترام الآخر والقانون والقيم الإنسانية العليا، ولن يتم ذلك بإشعال الصراعات العرقية، ولا بإغماض العيون عن الممارسات والمفاهيم العنصرية في المقابل، لكنه يتم فيما نرى عبر إقتلاع دولة تحالف اللصوص والإنتهازيين أعداء الشعب القتلة من جذورها، وهو إقتلاع أصابتنا الحيرة في تلمس سبيله، إلا أننا سنظل نبحث عنه دون مبالغات أو مزايدة..!

سليم الأحمر
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. “ولا تمثل هذه النخب الفاسدة المتحالفة أو المتناحرة مع بعضها غير نفسها، وإن زعمت أنها تمثل أعراقاً أو جهات بعينها إمعاناً في التضليل والخداع وتفريق كلمة الشعب.”

    من المفتبس انا اتفق مع الكاتب النخب الفاسدة لا تمثل اهليها بالدم فعمر البشير لايمثل عرمان ولا على محمود يمثل اشهاص لا يجدون ماء للوضوء ناهيك عن غسل عربات او حمام حصين

    ورغم هذا لا ننكر ان النخب الفاشية لعبت على وتر العرقية امعانا في اجتذاب وخداع ذوي القربى دون ان ينالو الفتات على صلة قرباهم..

    يبقى انه لابد للشعب السوداني جميعه ان يتخرر من هذه الخديعة وهذا المكر ويكون يدا واحدة ضد الظلم الذي لا يحتاج لاستمرار اكثر من هذا ولا ينبغي ان نسمح بضلال الحكم الفاسد ان يواصل التفريق بين الناس وضربهم ببعضهم ضرب الافارقة بالعرب وضرب المعارضين بالموالين المخدوعين بالضرورة.. ولابد من صورةواحدة ضد ظلم واحد حتى لا يتفاقم الامر بنا اكثر مما هو اصلا حاصل

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..