مَنْ يَسبِق الآخرَ: الديمقراطيةُ أم الانقلابُ العَسْكريّ. . ؟ .. بقلم

أقرب إلى القلب:
( 1 )
هل نحن في حاجة لتعريف جديد للديمقراطية أم لتعريف جديد للانقلاب العسكري. . ؟
عرفنا في السودان عام 1958، ثالث انقلاب عسكري في منطقة “الشرق الأوسط وشمال افريقيا”، وهو الإقليم الذي يقف فيه السودان بامتداداته العربية والأفريقية. ولأنّ اعتماد السودان جزءاً من عالم عربي أو عالم أفريقي، هو ما شكّل معضلة في تصنيفه من قبل العديد من اللاعبين الدوليين، فإنّي أميل لتمييز السودان ضمن هذا التصنيف الجغرافي، إذ يعفيني من الركون إلى التمايز الملتبس بين هويّات تتصارع في تمرين متواصل، ستعبره أجيال وأجيال لتشكيل “هوية سودانية”، لم تخرج بعد في كامل طبيعتها. في خضم هذا التمرين المتواصل رأينا كيف انقسم السودان منذ عام 2011 إلى دولتين تتشاكسان بلا هوادة . عبر هذه الجراحات التاريخية، تتواصل تمارين تشكيل الهوية بين فتقٍ ورتقٍ، إلى أن نهتدي إلى ما يخرجنا من دوّامات الانقلابات العسكرية . لقد تشابهت علينا الانقلابات العسكرية، تشابه البقر على قوم موسى. لكن دعني أعينك على النظر في أحوال انتماء السودان، قبل أن ندلف للنظر في أحوال الانقلابات العسكرية فيه.
أشرتُ في مقالٍ سبق أن نشرته في فبراير من عام 2011 ، بعد إعلان نتيجة استفتاء جنوب السودان، إلى ملاحظة مُهمّة جاءت في رسالة بعث بها الكولونيالي النبيل “دوقلاس نيوبولد” إلى كولونيالي آخر هو”جلوب باشا”. ومعروف أن “نيوبولد” أفنى عمراً كاملاً في السودان، منذ قدومه في العشرينات من القرن الماضي وحتى وفاته عام 1945م في الخرطوم. أشار “نيوبولد” في سطرٍ واحد من تلك الرسالة، إلى أن (لا أحد يعرف بوجه التحديد إذا كان السودان يعتبر من بين دول الشرق الأوسط أم لا !). . جاء ذلك في صفحة 175 من كتاب “كيف أعدّ السودان الحديث” تأليف ك.د.د. هندرسون، عن حياة ورسائل السير “دوقلاس نيوبولد” وترجمه الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، وهو من منشورات مركز عبدالكريم ميرغني في أم درمان.
( 2 )
البديهيات التي يعتمدها الدارسون لعلم الاجتماع، تؤكّد أنه ليس كافياً أن تعرّف نفسك أو تفصح عن هويتك، ولكن من الضروري التعرّف على الوجه الذي يراك عليه الآخرون، أي كيف تتعرّف إليهم وكيفَ يتعرّفون إليك… ولربما لا يكون ميسوراً على المحلل، استقصاء تشكّل مثل هذه الصوّر في مخيّلات الشعوب ، غير أن الرؤية الدبلوماسية الرسمية من طرف الآخر، تعطي مؤشراً مهماً، يعين في التوصل إلى إجابة تقارب الواقع، وتوفّر تصنيفاً يتقبله العقل الموضوعي. الرؤية الدبلوماسية لا تقع في فخاخ التمييز العنصري أو التفاضل اللوني، بل هي نظرة تقترب من الموضوعية، وتعتمد أكثر ما تعتمد المعيار الجغرافي، فكيف كانت ترانا وزارات الشئون الخارجية في بلدان مثل الولايات المتحدة أو مصر أو بريطانيا .. مثلاً لا حصرا. .
لأقرب لك الصورة التي عليها هذا الالتباس، فإني أحيلك سريعاً لمثلين لعب السودان فيهما دورين لهما من الدلالات ما يعين على تقريب الصورة :
1- بعد وقوع ما عرف بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ورفعت مصر شكواها إلى مجلس الأمن، كان الناطق باسم المندوبين العرب في الأمم المتحدة هو وزير خارجية السودان الرّاحل محمد أحمد محجوب. كان ذلك أمراً لافتاً إذ لم يمضِ على استقلال السودان سوى بضعة أشهر، ولكن مثل هذه المبادرة التي تولاها المحجوب، عكستْ توجّهاً فطرياً من طرف مُمثل لتلك النخبة التي تولّت أمر الحكم عشية الاستقلال، للتماهي مع القضايا العربية. لكن بعد نحو خمسين عاماً من تلك البادرة السودانية، مررتُ شخصياً بتجربة لم تكن سارة على الإطلاق. كنت وأنا سفير للسودان في لبنان، أمثّل السودان في اجتماعات اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة لمنطقة غرب آسيا ومقرها بيروت، ألاقي عنتاً كبيراً في اعتماد السودان عضواً بهذه اللجنة، وهي لجنة تضمّ ثلاثة عشر بلداً عربياً من بينها مصر، وقد نجحنا بشقِّ الأنفس، وتجاوزنا أصواتاً تعارض انضمام السودان بينها – ويا للمفارقة- العراق .. تلك التي دفع السودان ثمناً باهظاً نظير مواقفه المشهودة دون كل العرب تأييداً لرئيس العراق وقتذاك حين استولى على الكويت. . !
2- مثلٌ آخر لدورٍ إيجابي لعبه السودان باتجاه انتمائه الأفريقي، برز بعد إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 ، واعتماد الأمم المتحدة لجاناً اقتصادية إقليمية للقارات والمناطق، فقد لعبَ السودان دوراً رئيساً في إنشاء اللجنة الاقتصادية لأفريقيا( ECA). ليس ذلك فحسب بل كرّمت القارة الناهضة السودان في شخص مكي عباس، فكان أن اختارته أوّل رئيسٍ للجنة الاقتصادية في أفريقيا.
برغم ما في هذين المثلين من دلالات لالتباسٍ يستوجب التحوّط عند إقرار تصنيف للسودان، وتحديد شكل انتمائه بمعايير لا تغفل عن التاريخ ولا عن الجغرافيا، فإن الأمم المتحدة أقرّت أن يكون السودان ضمن منظومة البلدان الأفريقية دون تردّد أو لبس. في جانب آخر نجد أنّ الولايات المتحدة تعالج علاقاتها مع السودان في دائرة الشئون الأفريقية في وزارة الخارجية الأمريكية، فيما اعتمدت بريطانيا، والتي ظلّت تعالج الشأن السوداني في إدارة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” ( MENA) لسنين عددا، عمدتْ إلى إنشاء دائرة خاصة في وزارة الخارجية البريطانية تعنى بالشأن السودان، وتضمّ الآن- وبعد ذلك الاستفتاء المجروح- شئون دولة الجنوب إلى جانب شئون السودان الذي عرفوه وحكموه منذ 1898م. ذلك يعكس فهما عميقاً وأشمل للشأن السوداني، ويضمر رؤى مستقبلية ثاقبة، من طرف قوة كولونيالية كانت في السابق تتحكّم في الشأن السوداني، لما يزيد عن خمسين عاماً، قبل نيله الاستقلال في عام 1956. ذلك في ظني لا يضعف ميلي لاعتماد انتماء السودان لمنطقة “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، تلك التي يرانا عبرها أغلب “الآخرين”، وتكاد تقترب من رؤيتنا نحن لأنفسنا.
( 3 )
ثم نجيء لمسلسل الانقلابات العسكرية في إقليم “الشرق الأوسط وشمال افريقيا”. شهدت سوريا أوّل انقلابٍ عسكري قاده “حسني الزعيم” في أواخر أربعينات القرن العشرين، وكان انقلاباً محدوداً، دفعته إليه حالة الوهن السياسي الذي كانت عليه سوريا، إثر هزيمة العرب في حرب عام 1948والتي أفضت إلى هذا الشتات ? ولعل الشتيت أدق معنى- الفلسطيني الماثل. وبرغم قصر فترة الحكم الانقلابي الذي قاده “حسني الزعيم”، لكنه شكل بداية لتاريخ طويل لانقلابات عسكرية في سوريا، كان وراءها حزب البعث خلال سنوات القرن العشرين، في بلد تتجاذبه طوائف سنّية وعلويّة في جانب، ومسيحيّة في جانبٍ آخر. خلال العقود الثلاثة التي أعقبت استقلال سوريا، كانت تتوالى محاولات الانقلابات العسكرية بمعدل انقلاب عسكريّ واحد كلّ عام تقريباً.
بعد الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء محمد نجيب وجماعة الضباط المصريين الأحرار في مصر عام 1952 وألغى النظام الملكي فيها، أرسى جمال عبدالناصر نظاماً سياسياً صارماً، وحكم مصر عبر العديد من الطروحات السياسية، تطرّفاً في آن واعتدالاً في آونة أخرى، فرسختْ “ثورة” يوليو المصرية أنموذجاً جاذباً لشباب منتمٍ للمؤسسات العسكرية في البلدان القريبة من مصر. هو انقلاب عسكري لكنه قلب أمور “الملكية” على رؤوس أصحابها فسمّاها عبد الناصر ورفاقه أوان ذاك: “ثورة يوليو”. مع أنها بدأت انقلابا عسكرياً كامل الدسم على الملكية، لكنها تواصلت لتحدث تغييراً كاسحاً في الدولة المصرية والمجتمع المصري.
تتالت انقلاباتٌ كثيرة، وتياراتٌ تفاوتت توجّهاتها تطرفاً واعتدالاَ، سعتْ بشبابها لتجاوز القيادات التقليدية المرتخية، حتى تحقق تطلعاتها المشروعة في الإسراع ببناء أوطانٍ أنهكها الاستعمار، وإعطاء معنىً حقيقي للاستقلال، حسب ما زعم أكثرُهم. مشتْ على دروب “الناصرية” انقلابات عديدة تتالتْ في المنطقة بعد ذلك. في فبراير من عام 1958 وإثر تصاعد حملات النظام الناصري ضد الأنظمة “الرجعية” في المنطقة، والتي سعتْ بإيعاز أمريكي، لإنشاء حلفٍ يناهض دعاوى عبدالناصر لجمع البلدان والشعوب العربية تحت راية القومية العربية، وقع انقلاب عسكري في بغداد وجرتْ محاصرة القصر الملكي وقتل الملك فيصل وهو في عشريناته، وتهاوت الاحلام الأمريكية في المنطقة، على أيدي الانقلابيين اليساريين الجدد في العراق وانهارت بوقوع انقلاب العراق ركيزة أساسية كانت موالية للغرب. الانقلاب اليساري في العراق زعزع “مبدأ آيزنهاور” ، ذلك الرئيس الأمريكي الذي دشن سنوات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
في نوفمبر 1958 وقع انقلابٌ عسكري في الخرطوم قاده اللواء ابراهيم باشا عبود. . كان ذلك هو الحلقة الرابعة في مسلسل الانقلابات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتلته انقلاباتٌ أخرى تمدّدت من الخليج إلى المحيط. انقلاب الخرطوم- قصد مدبّروه أم لم يقصدوا- أتى برياحٍ رافقتْ السفين الأمريكي، لا السفين العراقي- الناصري.
( 4)
في معظم أحوال الانقلابات العسكرية في هذا الإقليم المترامي الأطراف، فإنّ ضعف مؤسسات التعليم خاصة، وضعف مقومات وهياكل إدارة الدولة بصورة عامة، وهي من موروثات حقبٍ استعمارية سادت ثمّ بادتْ، لم تساعد في النهوض وانجاز تنمية اقتصادية واجتماعية مطلوبة، كما اشارت إلى ذلك تقارير الأمم المتحدة في أعوام لاحقة. وقد أفضت كلها إلى واقعٍ مزرٍ، فضعفتْ عوامل الاستقرار في المنطقة، وانكشفتْ هشاشة الأنظمة السياسية القائمة، ليس في بلدان الشرق الوسط فحسب، بل استشرت العدوى إلى دول عديدة في القارة الأفريقية. زكام هنا وعطسٌ هناك فإذا بدائرة الانقلابات العسكرية تتسع لتلحق بدولة تقع في أطراف الشرق الأوسط وفي قلب القارة الأفريقية، هي السودان. ولا نحتاج لكثير دلائل إلى أن التجربة الديمقراطية لم ترسخ بما يجمع الشارع السوداني عليها، بل أن التيارات السياسية فشلت عبر تحالفاتها الهشة في إدارة دفّة الحكم في بلاد شهدت ربوعها الجنوبية تمرّداً اتسعت رقعته ليكون أوّل وأكثر النزاعات الأفريقية دموية وأطولها عمرا. نجح اللواء إبراهيم باشا عبود (الفريق عبود لاحقاً) في أن يقود في نوفمبر من عام 1958، أوّل انقلاب عسكري في القارة الأفريقية – جنوب الصحراء. ذلك كان أول انقلاب شهدته القارة والتي تجاوزت انقلاباتها العسكرية الستين، ونحن بعد في أعتاب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. .
( 5 )
لنا أن نقف على حيرة بائنة في أمر انقلاب اللواء عبود.
ثمّة من يرجح أن حزباً رئيساً كان يشارك في الحكم، بادر بتدبير ذلك الانقلاب العسكري. ثمّة من رأى أن ضباطَاً متطلعين هم من بادروا بالقيام بالانقلاب على حكم أحزاب كادت أن تُضيّع الوطن في صراعاتها الخاوية، فكانت الصورة أشبه بالصورة التي عليها حركة ضباط مصر الصغار، واستغلوا قائدهم اللواء محمد نجيب، لفترة وجيزة ثم تخلصوا منه، وأن عبود بالمثل ليس أكثر من واجهة.
ثمّة من ادعى أنّ لمصر يداً طولى في انقلاب الرجل الطيب عبود، بما يشي باستعادة دعاوى تاريخية بائدة، ترسّخ سيادة مصر على السودان، بإيحاءات اتفاق صدقي- بيفن الشهير، قبل نحو تسعين عاما !
لن يكون ممكنا تحليل ما وقع، إلا بعد أن تنجلي الحقائق، عبر تلك المذكرات التاريخية المفصلة التي أوصى الزعيم الوطني الراحل عبدالله بك خليل، أن لا تنشر على الملاء إلا بعد عددٍ محسوب من السنين، ما وصلناه بعد. مؤرخون كثيرون يشيرون إلى أن للبك يداً خفية في ذلك الانقلاب. صديقنا أمير نجل الراحل وحده الذي يملك مفتاح خزانة الأسرار تلك. على كلٍ لن يشغلنا هنا هو من فعلها، بقدر ما ينبغي علينا أن نهتم بتقييم تلك العملية العسكرية، وأن نجهد للتعرّف على المعايير الموضوعية لتوصيفها، حتى نُسمّي الأشياء أسماءها.
عبود نفسه لم يسمِ عمليته العسكرية “انقلابا” بل قال عنها “ثورة”. للتاريخ أقوال كثيرة فاصلة ننتظرها.
( 6 )
انقلاب مايو عام 1969 لم يسمِ نفسه هو الآخر “انقلابا” بل ثورة، هكذا بلا مواربة. لم نقف على معايير التسمية، وصار اسم “ثورة مايو” – لا “انقلاب مايو” ? من الأسماء التي سار بها الركبان ودونتها صفحات التاريخ، بما فيها برامج تدوين السير الذاتية، من نوع “أسماء في حياتنا” لصديقنا الأستاذ عمر الجزلي. .
لعلّي أترجّى أن تتصدّى لتوصيف “الانقلابات العسكرية” أقلامٌ متخصصة في العلوم السياسية والعلوم العسكرية، وقبلهم علماء الاجتماع. ثمّة جوانب فلسفية قد نحتاج أدواتها للتحليل وللتقصي عن طبيعة هذه الظاهرة وقد استشرت كما الأوبئة، خلال النصف الأخير من القرن العشرين، بل تعدته إلى العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، وأغلب أسرار هذه العمليات ماتت في صدور الرجال الذين رحلوا وما فضفضوا بشيء.
من “انقلاباتنا العسكرية ” التي ميّزتْ نفسها ـ ووزّعت التباساتها المريبة، بين كراسي يجلس عليها حكّام وسجون تستضيف مدبريها، ننظر أنْ يأتنا مِن دارسي التاريخ مَن يُمحّص وقائع ذلك الانقلاب ، والذي حرص أيضاً، من دبّره خفية ومن قام به علانية، أن لا يخالف الفريق عبود في تسمية حركته العسكرية البائنة، فسمّاها “ثورة”. .
وهكذا كان للسودان قصب السبق فهو يحتلّ المرتبة الرابعة إذا عدّدنا الانقلابات العربية، وهو البرنجي في أوّل قائمة الانقلابات الأفريقية بلا منازع. في عمر السودان المستقل، شهدتْ الخرطوم أعداداً مهولة من الانقلابات العسكرية الناجحة والفاشلة. ما أحرانا ? إذاً- أن نكون أوّل المنظّرين والدارسين لظاهرة “الانقلابات العسكرية”، فنعين إخوة لنا في شمال الوادي، علّهم يتبيّنون ما يعايشون الآن، فيكون في ذلك ? على الأقل- ما يزيد من أفضالنا عليهم، بعد مياه النيل حتى يرضى عنّا كذلك صديقنا الدكتور سلمان. .
===
20 يوليو2013
[email][email protected][/email]