زهايمر فى يوم لا ذاكرة له!!

العقل من اكبرنعم الله سبحانه وتعالى التى تستحق الشكر، تلك الهبة الغــالية التى يتمكن الانسان بها من الاستمتاع بمعنى الحياة ،وعمارة الارض فمن لا ذاكرة له لاحضور له ، حتى ولو كان بين الناس حاضرا ومن غيبته نوبـــــة النسيان عن ماضيه فقد اخذت منه كل حاضره وسلبت مستقبله.. (شفا الله كل مريض ).
لسَـان الفَتَى نصف ، ونصف فؤاده
فلم يبق إِلا صـورةُ اللحم والــدم

وبالمقابل يكـون النسيان المــؤقت نعمة كبيرة ، ففى حالات الصـدمات المروعة ،والاحزان المؤلمة ، يصبح النسيان نعمــة يتخــطى بها الانســـان مرحلة ما من الضغط المتراكم ، فيتجدد خلالها الذهـــن البشرى ليسترد عافيته واتزانه ليعاود نشاطه الطبيعى متشبثا باسبـــاب الحياة، ليظـــل يدور فـى فـــلك الاستمرارية والعطاء مرة اخرى.
اصبحت حياة عبد الكريم تعج بمتطلباتها المتزايدة مع اسرته الممتدة، وسوق لا يعرف الرحمة حتى انه لا يستطيع ان يسدد بعض من ديونـه التى اثقلت كاهله.
فحتى على البقال اعتاد ان يتسلل عبد الكريم منه خفية ، عبر الزقـــــاق البعــيد متواريا من كل العيون التى تترقبه كل يوم بفارغ صبر.
طوابير اخرى تنتظر جيب عبد الكريم الخاوى الا من الفلس ،الديون المتاخرة تحاصر كل خطواته فهو دائما فى حالة زنقة حتى اصبحت حيـــاته مجموعة من الزنقات المتواصلة من اصحاب الحقوق .
مطاردة لاتنتهى والراتب الهزيل لا يكاد يترك له متنفسا حتى يستوعب انفراجة بسيطة ، هكذا ظل عبدالكريم منكمشا خائفا متوترا من اختناق لا يعرف التنفس
ايجار البيت كان عليه ان يسدده منذ اشهر ، صاحب اللحمة والخضــــار ينتظــر صديقه امين الذى تدين منه الالاف حتى كاد الاخير ان ييأس من امواله عشرات الديون هنا وهناك ، حتى داخل المصلحة التى يعمل فيها ينتظره صاحب البوفيـه وست الشاى ان يسدد لهما ما عليه.
وفى ارض العجائب والمتناقضات يبقــــى السؤال المحير كيف يعيش الانســــان السودانى من مصدر شحيح اسمه الراتب ، وامامه غيلان من الاسواق وتحكــمه فئة انتهازية امتصت كل حاضره وتحكمت فى الاتى من عمره ،هكذا ضاقت كل الحلول الممكنة حول السيد عبد الكريم
لم يكن يوم الاحد عند عبد الكريم كسائر الايام الاخرى، استفاق من نومــه وفى عينيه تلوح علامات من الحيرة والدهشة والخوف والتردد ، نظر الى زوجتــــه النائمة قربه استنكر وجودها فى غرفته من هذه المرأة من تكون؟
رغم ان الوقت لم يتجاوز الخامسة صباحا ارتدى عبد الكريم جلبابه وخرج ليجد نفسه امام المسجد ،صلى الفجر وعقله فى حالة شرود وهزيان وارتباك كان اول من قابله خارج المسجد على صاحب الدكان : ماشاء الله ماشاء الله عبدالكريم فى صلاة الصبح ؟؟
التفت اليه مستنكرا : انا اسمى عبد الكريم؟( دهش على البقال واعتبره تهربا من سداد ديونه) : لا اسمك الاكلتا قروشنا وداير تزوغ مننا يا عبده!!
عبد الكريم : يازول انا ما بعرفك وبعدين تعال انا متين شلت منك قروش؟؟ والحقيقة ان عبد الكريم اصبح فى عـــالم اخر من النسيـــان التام ، لكل ما حوله ولولا تدخل بعض المارة فقد كادت ان تصل المشادة الكلامية مع على البقال الى حد الضرب.
لم يتمكن عبد الكريم العودة الى منزله حتى سأل احد المارة : هل تعرف منزل عبد الكريم ، ولولا انه سمع على البقال يردد اسم عبد الكريم له لظل فى مكانه يدور حول ذاكرة اصبحت خارج الشبكة، دخل منزله كانها المرة الاولى التى تقع عينه علي اركانه ومحتوياته.
مئات من الاسئلة المحيرة يحاول عبد الكريم جاهدا ان يتذكر ما حوله فلا يفلح لا اجابة لاشىء…لاشىء الا فراغ فكرى،وذاكرة مغيبة تماما لا تستجيب.
ايقظ زوجته من نومها ليسألها من انت ؟
استيقظت زوجته مذعورة : بسم الله الرحمن الرحيم مالك يا عبده ؟
كرر لها السؤال بكل صرامة مرة اخرى انت مين؟ قالت له سوف احضر لك فنجان القهوة ، وربنا يكفيك شر العين ياعبده ، خرجت ترتجف وهى تتحــوقل وتقـــرأ قل اعوذ برب الفلق بصوت مرتفع.
ما لبثت ان عادت له مسرعة وفى يدها القهوة ، وفى الاخرى مبخرا تفوح منه رائحة بخور التيمان ،ولكن عبدالكريم كان فى وادى اخر فما زال يلح كالطفل فى سؤال بما يشبه الصراخ : مين انا انتو منوم مين انتو؟ وين انا ؟ نسى عبد الكريم منذ ذلك الصباح اسمه واسم ابيه وجده وتاريخ ميلاده ، نسى عبدالكريم من تكون المرأة التى عاش معها عشرات السنين ، لم تسعـــفه ذاكرته حتى ان يتعرف على ابنائه…
ربما كان ضغط الحياة الرهيب فى زمن لا يرحم قد دفع ذهن عبدالكريم الى النسيان والانزواء ليظل المسكين بعيدا من قبضة الواقع القاسى .

منتصر نابلسي
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..