الدّبلوماسيّةُ نِظامٌ وَبَعضُ فوْضَى

أقرب إلى القلب:
( 1 )
ذلك الزعيم القبلي المعروف في دارفور، رجلٌ مثيرٌ للجدلِ بلا شك.
لقد كان وهو في الظلِّ محوراً لاتهامات خطيرة، أودعت اسمه عند المحكمة الجنائية الدولية، فصار من نجومها المطلوبين. ربطتْ تطورات الأحداث اسمه- يقيناً أم غير ذلك- بظاهرة مليشيا الجنجويد التي أضرمت النيران في دارفور، وهو زعيم قَـبَـلي مُستعرب. ومعروفٌ أنّ الصراع الدائر في دارفور- وضمن شبهاتٍ كثيرة أخرى- فيه شبهة تميّيز عنصري بَيْنَ من سمّوا أنفسهم “عرب دارفور”، والقبائل الأخرى التي ساكنوها وصنّفوها “أفريقية”.
تناقلت الصحفُ السيّارة، ومنها صحيفة رصينة معروفة، أنّ الرجل وقّع اتفاقاً مع “اليوناميد”، وهي البعثة المشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور. معروفٌ أن هذه البعثة أنشئت في عام 2008، بعد مفاوضات مضنية جرت في أديس أببا، إثر صدور قرار مجلس الأمن تحت الرقم 1769 في يوليو من عام 2007. صيغ ذلك القرار الخطير استناداً على الفصل السابع، وهو أخطر فصول ميثاق الأمم المتحدة، الذي يمنح صلاحيات واسعة تبيح التدخل لفرض السلام وفض النزاعات. ذلك فصل في الميثاق أعدّ لمعالجة شئون البلدان الفاشلة والحكومات الضعيفة. وقف السودان طويلاً يقاوم فرض مثل هذه الإجراءات عليه. غير أنّ تفاقم الأوضاع في دارفور، وتجاوزها خطوط الخطورة الحمراء بمراحل، لم يترك لحكومة السودان مجالاً للمناورة، أو فسحةً للتحايل المحمود، فأجبرتْ آخر الأمر، على قبول الخضوع لأحكام الفصل السابع ولكن بشراكة مع الاتحاد الأفريقي. جعل هذا “التهجين” الفريد في القرار الخطير، لقمةً سهلَ ابتلاعاها عبر حلقوم الخرطوم المخنوق، وتيسّر هضمها بعد ضغوط تشبه الإذلال، إذ حُجبتْ عنها رئاسة الاتحاد الأفريقي وهي تستضيف قمته على أرضها عام 2006.

أقف مستعجباً لنواحٍ ثلاث : أوّلها ناحية تتصل بالصحافة السودانية والثانية بوزارة الدبلوماسية، والثالثة تتصل بالزعامات السياسية.
( 2 )
عن الصحافة وقع استسهال في استقاء الخبر من مظانّه، وينبغي أن تكون هذه المظان في مثل هذه الحالة، هي من أوضح ما يكون. نحن في عصر أبرز علاماته التواصل المباشر والفوري، توثيقاً للخبر، ورصداً لردود الفعل عليه، ثم التحقّق من تداعياته. للمهنية في الصحافة أصول وقواعد، وأغلب العاملين في هذه الصنعة نالوا التأهيل الأكاديمي الرّاسخ مثلما عملوا على صقل مواهبهم بهمّة نابعة من تطلعهم للوفاء بمتطلبات مهنة الصحافة وفنياتها وتقنياتها ومعيناتها. لم يعد أكثر جهد الصحافة الحقيقية اليوم هو اصطياد المادة الخبرية، إذ كادت صفحات الرأي أن تكون هي عصب الصحيفة الرصينة، تهبها لونها ومزاجها وتفرّدها. وما ذلك إلا لأن صيد الخبر لم يعد شغلا يشغل، إذ الخبر والمعلومة، قديمها وحديثها، هي ممّا يتوفّر عبر الوسائط الإعلامية التي برعت في عرضها المواقع الالكترونية في الانترنت، وما تتناقله الفضائيات من وقائع في عين المكان، صوتاً وصورة.
يزيد عجبي أن يصدر بيانٌ من بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي المشتركة ينفون فيه بلغة واضحة، أنّهُ لم يقع اتفاق ولا جرى توقيع أيّ وثيقة بين “اليوناميد” والزعيم القبلي المشهور في دارفور، حول التزام قبيلته بالعزوف عن تجنيد الاطفال وتوريطهم في النزاعات المسلحة في الولايات الغربية الملتهبة. نفى ممثل “اليوناميد” أنهم وقّعوا مع الزعيم القبلي أيَّ اتفاق حول الموضوع، وأضاف أن الوثيقة تخصّ ذلك الزعيم وحده، غير أنهم في بعثة “اليوناميد”، يرحّبون دون تحفّظ بكل جهد يصبّ باتجاه منع تجنيد الأطفال. هذا النفي يبعد عن البعثة شبهة التعامل مع رجل تشتبه المحكمة الدولية في تورطه في مخالفات تتطلب محاكمته. رأيت في مثل هذا النفي- على تعدّد مقاصده- قدحاً في مصداقية صحافة لم تزن الأمور المهنية بما هو متوقّع في مثل هذه الحالات، إذ جاء الخبر منقولاً من طرفٍ واحد ولم يستقصَ الطرفَ الثاني عنه.
( 3)
ثم نأتي لناحية جهاز الدبلوماسية السودانية. كما هو معلوم فإن الدستور الانتقالي فصّل صلاحيات مؤسّسات الدولة بكلِّ دقّة، ولم يترك أمراً يتصل بإدارة الدولة، للصدف أو للاجتهاد أو للمقايسة. أعطى الدستور لرئيس الجمهورية صلاحيات الإشراف على السياسة الخارجية للبلاد، وفصّل ذلك في المادة 58 ? 1 ? ك من الدستور الانتقالي لعام 2005 ، والتي تقرأ عن صلاحيات رئيس الجمهورية أنّـهُ:
(( يوجّه السياسة الخارجية للدولة ويشرف عليها ويصادق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية بموافقة الهيئة التشريعية القومية. .))

وفي مجال وزارة الخارجية، فقد فصل الدستور الانتقالي مهامها في المادة (17) كالتالي:
(أ) ترقية التعاون الدولي، خاصّة في إطار أسرة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية الأُخرى، وذلك من أجل تعزيز السلام العالمي واحترام القانون الدولي والالتزامات التعاهدية وتطوير نظام اقتصادي عالمي عادل،
(ب) تحقيق التكامل الاقتصادي الأفريقي والعربي، كل في إطار الخطط والمنابر الإقليمية القائمة وتعزيز الوحدة الأفريقية والعربية والتعاون الأفريقي العربي كما هو مرسوم في تلك الخطط،
(ج) ترقية احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في المنابر الإقليمية والدولية،
(د) تشجيع حوار الحضارات وبناء نظام عالمي قائم على العدل ووحدة المصير الإنساني،
(هـ) ترقية التعاون الاقتصادي بين دول الجنوب،
(و) عدم التدخل في شئون الدول الأُخرى، وتعزيز حسن الجوار والتعاون المشترك مع جميع دول الجوار، والحفاظ على علاقات متوازنة وودية مع الدول الأُخرى،
(ز) مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، الدولية منها وعبر الوطنية

ولعلَّ القارئ المُطّلع سيحكم لأوّل وهلة، أن ما أقدم عليه الزعيم القبلي المشهور، سواءً وقّع الوثيقة أم لم يوقعها، يعدّ تجاوزاً وتوغّلاً سافراً في عملٍ هو من صميم مهام وزارة الخارجية التي فصلها لها الدستور. لقد ترك الدستور الانتقالي أمر العلاقات الخارجية يدار عبر وزارة الخارجية، وهي وزارة اتحادية تعدّ واجهة للسيادة، ولم يخوّل المشرّعُ لحكّام الولايات- ناهيك عن زعماء القبائل- أيّ صلاحيات تتصل بملفّات وزارة الدبلوماسية، إلا في نطاق ضيّق لولاة الولايات الحدودية. تلك بديهيات لا يتجاهلها إلا غافلٌ لا يُحاسَب، أو مُتعمّدٌ يتوجّب أنْ يُستتاب. والذي أعلمه أنّ في وزارة الخارجية إدارة مُتخصّصة تعالج أمر بعثة “اليوناميد”، وتتابع تنفيذ الاتفاق المبرم مع الأمم المتحدة والاتحاد الافريقي بشأن مهامهما في دارفور، فكيف لا نسمع صوتاً من وزارة الخارجية يصحّح ما تناولته الصحف عن توقيع اتفاق بينَ بعثة أممية وإقليمية مشتركة مع زعيم قبلي في دارفور؟ ولنا أن نتوقّع أن تمضي الوزارة إلى أبعد من ذلك، فتمحّص ما ورد عن هذه الوثيقة، والتي تتصل بالتزامات قومية تتابعها إدارة من إداراتها، ولربّما كان عليها أيضاً أن تراجع مجلس الحكم الاتحادي، لاستجلاء الأمر وبالصورة العاجلة، حتى لا يسبق جهاز الدبلوماسية طرفٌ أجنـبي له معها تعاقدات، فيكون صاحب الشأن الأوّل، آخر من ينفي. .
( 4 )
أما الناحية الثالثة فهي تتصل بذلك الزعيم القبلي المُثير للجدل. إن كان في ظنه أنّهُ معنيٌّ بمسألة وقف تجنيد الأطفال في دارفور، وهو اهتمام يحمد عليه، فثمّة مؤسّسات حكومية اتحادية وأخرى ولائية، تُعنى بهذا الملف، وكان الأوجب والأحرَى مراجعتها قبل الاتصال ببعثة “اليوناميد”. ذلك تجاوز لا مبرّر له. لا أرى مسلكاً استقلاليا يشـبه هذا الفعل إلا عند بابا الفاتيـكان، ذلك المستمتع- استثنائياً- باستقلال دولته وســيادتها وهو في قلب روما!
لعلّ المُراقب الحصيف يرى بعض السياسيين وبعض القياديين يتصرّفون أو يطلقون من التصريحات في كثير أحيانٍ، بما يتجاوز حدود صلاحياتهم، فيقحمون أنفسهم فيما ليس لهم به اختصاص. صارت مقولة “مُرَكّب مَكنة وزير، أو مَكنة رئيس”، من المقولات الشائعة التي يكاد الواحد أن يصدقها من فرط ما رصدنا من أمثلة يتغوّل فيها مسئولٌ على شأنٍ أعلى من صلاحياته، وأمرٍ أعقد من أن يملك حلاً له، وإفصاحٍ لا يملك له لسانا. ولستُ على يقينٍ إنْ كان لذلك الزعيم القلبي من صلاحياتٍ تنفيذية جاءته زاهية مُبرأة من طرفٍ خفي، غيرَ أنّ الأوجب هوَ أن تُوضع حدودٌ فاصلة لتبيان الاختصاصات، وإلا فإنّ التغافل هنا غير محمودٍ ويمسّ سيادة الدولة ويقضم من هيبتها. يا لبؤس السياسة عندنا: أبعد كل هذه السنوات الطويلة، ترانا نتعثّر في إدارة أمورنا على هذا النحو الذي يثير العجب، إن لم يثر السخرية. . ؟
إن كانت الدبلوماسية في أصولها، هي النظام والبروتوكول والترتيب والأسبقيات، فما الذي نحن فيه، من مثل ما رأينا من زعيم قبيلة سودانية- مستشاراً اتحادياً كان أم ولائياً- يسعى لتوقيع اتفاق دولي يخصّ قبيلته. .؟ أهي فوضى الدبلوماسية أم دبلوماسية الفوضى. . أم أن المؤسسية عندنا شبعتْ تفلّتاً وهلاكاً وعفا عليها الزمن. . ؟
===
الخرطوم ? أغسطس2013
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. حليلك انت يا البعتة عنقريبك هو ناس وزارة الخارجية فاضين من كشوفات التنقلات الي المحطات الخارجية و استعجال الايام ان تمر باسرع ما يكون عسي ولعل ان يجني مزيد ومزيد من العملات الاجنبية ليمتطي افخر السيارات وبناء العمارات وكذلك الترقيات مع فروق التحسنات والقفز بالزانات ولا ننسي الجلوس بين ست الشاي بعد وجبة الفطور تحت الشجره الناحية الغربية زرناها كم وكم وتمنينا ان نلتحق بها نظرة يا كرتي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..