غول الغلاء

ارتفعت أسعار الضروريات في الأسواق بطريقة غير معقولة على خلفية حالة الربكة والاضطراب التي لازمت الأوضاع بسبب الأمطار والسيول الأخيرة، ومن الواضح أن السماسرة والمتاجرين بقوت الشعب وجدوا فرصتهم فعمدوا إلى استغلال الوضع المربك ليحققوا أرباحاً خرافية على حساب مصيبة البلد الكبرى المتمثلة في عدم وجود حراك رقابي على الأسواق أو سلطات خدمية تحارب غول الغلاء ووحش الجشع والطمع.
إن الأوضاع في البلاد تسير باتجاه الكارثة الحقيقية المتمثلة في انفلات السوق ورسوخ الشعور العام بعدم وجود حكومة مسؤولة، ومن المهم أن تدرك الجهات التي تأبى وتتمنع من إعلان السودان بلد كوارث أنها تساعد كل يوم في تحقق هذه الصفة، خصوصاً أن الحكومة ليس لديها أدنى علم بالأسباب الحقيقية التي جعلت من القيمة الشرائية للجنيه السوداني تتناقص يومياً أمام العملات الأجنبية أو هي تحس بجرائم الجهاز المصرفي خاصتها، ولكنها تتعامى عن هذه الجرائم لأن اللاعبين الكبار يفهمون أسرار بعضهم البعض، وبالتالي لا توجد أدنى رغبة بينهم لإثارة المشكلات، إن الحكومة تعلم أسباب الفساد والتجاوزات، وأنها فوق ذلك لا تستطيع التعامل مع اية أضرار يمكن أن تضرب البلد والمواطنين، لأنها تعاني من خواء الخزانة العامة بعد انهيار المنظومة الاقتصادية وفشل العملية الزراعية وتذبذب تدفق عائدات النفط على خلفية جمود العملية السلمية بين الشمال والجنوب.
لقد بات في حكم المؤكد أن تسعة وتسعين بالمائة من الشعب السوداني بسبب الضغوطات المعيشية وصعوبة الحصول على الخدمات الأساسية من أمن غذائي وصحة وتعليم ومياه وغيره أصبح ناقماً على الحكومة ولم يعد يصدق شعاراتها وبرامجها وبالتالي من المرجح أن تنعكس هذه الحالة مقروءةً بما يجري من حولنا من أحداث، لتفرض نفسها كحالة من حالات التغيير الوطني المطلوب قبل أن تحل بقية منظومة الكوارث حينما ينعدم الأمن والاستقرار حتى على المستوي المركزي القابض، فليس من المنطقي أن تنعم القلة القليلة من الناس بالأمن الغذائي والطمأنينة فيما يعاني الملايين في كافة الأصقاع من انعدام الأمن والاستقرار والمأوى والغذاء بسبب انعدام او عدم كفاءة الحكومة وانعدام الحكم الرشيد وتفشي الفساد والمحسوبية حتى على مستوى الجهاز التنفيذي وتفشي التجاوزات، وآخرها ما تتناقله الاخبار عن تسرب المعونات التي قدمتها الدول الشقيقة والصديقة للمتضررين وانتشارها في الأسواق، ومن المعلوم أن أجهزة الحكومة ومنظماتها وأذرعها التنظيمية القاعدية هي التي تتحكم في توزيع هذه المعونات، وهذا يعني ببساطة أنه لا توجد حكومة بالمعنى المتعارف عليه، وإنما مجموعات تنشط في التجاوزات ويحمي بعضها البعض الآخر، فلا رقابة ولا محاكمات ولا عقاب، وإنما استمرار في الفساد والتجاوزات فحسب.
إن غول الغلاء تفرضه سياسات الحكومة وسلوكها وتوجهاتها وتحميه سلطاتها الرقابية الكسولة وغير الراغبة في خدمة الجماهير، وإنما تنشط فقط لخدمة مصالح أفرادها عبر الجبايات وفرض الرسوم والتعامي عن التجاوزات، إن غول الغلاء سيأكل الحكومة وليس الحركات المسلحة، وإذا كانت المعارضة تراهن على الحراك الشعبي فإن هذا الرهان ناجح مائة بالمائة في ظل الكوارث الحالية وشعور الجميع بضعف الحكومة، بعد أن بددت موارد البلاد ووجهتها في غير خدمة مصلحة الوطن والمواطنين.
الصحافة