عندما يكون البلطجية جزءا من مؤسسات الدولة

( البلطجة) مفردة متاحة في صفحات السواد الاعظم من القواميس المحلية لجزء كبير من الاقطار العربية فهي ظاهرة اجتماعية قديمة تتفاوت في مسمياتها وتتفق في التفاصيل والمعنى .. البلطجة.. من الخليج الي المحيط وإن إختلفت المسميات الا اننا نجدها لا تختلف كثيرا في مقاصدها ومضامينها فمعناها شبه متفق عليه لا خلاف كبير حوله .. بناءا على التعريفات ( قبل الربيع العربي ) فإن شخصا بلطجي يعني شخص بلا هدف .. ( بلا ) مسؤولية.. ( بلا ) برنامج .. ( بلا ) مصدر كسب واضح أو مهنة يشار إليها تتجسد فيه كل مستلزمات الفاقد التربوي يعيش في فراغ متمدد ، لايهمه كثيرا أين تشرق به شمس الحياة أوتغرب فاين ماوجد ملزات هواه وجد متكئه واستكان ، فهو شخص يخضع لمصالحه وذاته ، وعادة ما تكون مصالحه الذاتية ( هذه ) متواضعة ليس بالضرورة عنده أن تكون ذات ثمن أو قيمة بل بقدر إستجابتها لما يملأ فراغه .. إذا .. البلطجي وفقا لما زكرناه نجده يهرب دائما من مواجهة الجانب الرسمي من الحياة يستمتع العيش في هامشها ، يفضل التجاوب مع الجانب الفوضجي منها .. ربما .. ثمة خاصية يشترك فيها كافة البلطجية وهي إستعدادهم لاستجابة الدعوات التي يكون الطعام فيها يجلس في سلم الاجندة .. ثم .. أتذكر في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم ونحن نتحلق حول ( جدنا ) نتسامر وبينما الحديث ينثال وفقا لمداخلات ( الونسة ) في أمسيات القرى البعيدة تمت الاشارة الي شخص في القرية يمتاز بخفة الدم وباهتمامه بمظهره مهندما منعما نظيفا على الدوام جريئا ولكنه لامهنة له يهرب دائما من مواجهة العمل فقال جدنا : ( خلونا منو ده زول بلطجي ساي ) .. إذن .. هذا هو البلطجي بمعناه العام ( القديم ) ( المتفق ) أو ( المختلف حوله ) .. ولكن .. بعد ظهور ثورات الربيع التي غشيت بعض بلدان العالم العربي أخذ مسمى البلطجة يتجاوز مضابط الشرح السابق الذي أشرنا إليه ، فاضيفت له جينات السياسة فاستنسخت نوعا جديدا من أنواع البلطجية فاصبح لاول مرة بإمكان الانسان الواعي المسؤول المتعلم الفاهم صاحب النفوز أن ( يتبلطج ) لصالح القيادة العليا في البلد المعني . فصار لكل طاغوت بلطجية ، ولكل دكتاتور حائط صد قوامه هذه الشريحة التي أصبحت بعبعا في طريق رغبة الشعوب التي تبحث عن الخلاص . فبعد أن كان البلطجي شخصا يحلق على هامش الحياة أو المجتمع يرضي رغباته على طريق الحد الادني من كل شيئ بلا تكليف ، أصبح جزءا من مؤسسات ( الدولة أو الدول ) له تطلعاته يتمتع بحصانات مطلقة يستخدمها بلا وازع أو ضابط على الطريقة التي نشاهدها في مسرح الاحداث بارض مصر حيث إختلط حابل البلطجية بنابل الانقلابيين فكانت النتيجة هذه المحصلة من الدماء والموت المسترسل .. إذا .. البلطجي بشكله أو مسماه الجديد أصبح عنصرا لايمكن غض الطرف عن مقعده على طاولة الممارسة طالما إنه إرتقى لمستويات تجاوزت السطح بكثير وصار ظاهرة لها ماقبلها وبعدها على مستوى الساحة .. ووفقا للمعطيات .. ونحن هنا نتخذ راهن الحال في ( سوريا ومصر نموزجا ) فإننا نجد جميع مكونات المجتمع بمختلف الرتب ( أن لم ترعوي ) يمكن ان ترتدي ثوب البلطجة الذي إتسع ليشمل حتى الخارجين عن القانون ، ففي سوريا تم إطلاق سراح بعض النزلاء بغرض الوقوف بجانب الشبيحة للتمترس أمام الاسد ولا فرق هنا بين الشبيح والبلطجي إنطلاقا من تفسيرات المصطلح فكلاهما يعمل لتوفير الدعم والحماية لنظام غير مرغوب فيه .. يلاحظ من خلال حراك البلطجية في البلدان التي غشتها ثورات الربيع العربي بانهم يوظفون للعب ثلاثة أدوار في ثلاثة مراحل أداءهم فيها تختلف أهدافه من مرحلة لاخرى .. ففي المرحلة الاولى مرحلة إرجاع الشارع وهي المرحلة التي تتحرك فيها الشعوب في طريق التغيير يظهر البلطجية للعب دور متناسق مع الدور الذي تلعبه المؤسسات ذات الصلة بفض التجمعات واذا تأملنا صورة ظهور البلطجية بلباسهم المدني بين الشرطة والجيش المصري ، يحملون عصيهم وسكاكينهم ومسدساتهم اذا تأملنا هذه الصورة فإننا نكتشف حجم التنسيق المذكور وهو تنسيق يصل مرحلة الالتحام ، وفي هذه المرحلة يكون دور البلطجية نشر الترويع باستخدام العنف بطريقة عشوائية بلا سقف ، ومعروف ( وفقا لوجهة نظرنا ) إن الشخص المتظاهر من الناحية النفسية لا يرسل إهتماما للذين يظهرون باللباس الرسمي أسناء المظاهرات لتفريقها أو قمعها بل الاستفهامات عنده تتمدد تجاه الذين يظهرون بالزي المدني بين رجال الشرطة ، ولذلك اذا تأملنا عملية فض التظاهرات في سوريا ومصر وتونس نجد صورة البلطجية واضحة يتمترسون يعملون بجانب الشرطة يتصرفون وفقا لمقتضيات القناعات أو التعليمات المنزلة عليهم وفي هذه المرحلة يظهر على المسرح خليط من البلطجية ( المؤدلج وغير المؤدلج ) ولا يفوتنا في هذه المرحلة نشير الي أن البلطجية في إنواعهم ( خشم بيوت ) منهم النفعي الذي يتحرك وفقا لمصلحة محدده ، ومنهم المهووس الذي يعجبه الدور الذي يمثله الان ، ومنهم المؤدلج وهو الذي يدافع عن النظام بناءا على قناعات فكرية وهو أخطرهم .. أما في المرحلة الثانية وهي المرحلة التي اذا نجح فيها دحر التظاهرات فيلعب البلطجية دورا أكثر فظاعة بغرض بث الرعب والتخويف وهنا يصل الامر بهم امتلاك حق التصرف بصلاحيات واسعة ، ليس بالضرورة أن تصدر لهم أو تملى عليهم الموجهات فيمكن لاي أحد منهم أن يشرع ويصدر الاجراءات ، ففي هذه المرحلة يمكن أن يداهم البلطجية البيوت ويصدرون أوامر الاعتقال والظهور في الطرقات بغرض الاستعراض أو حسم الشارع ، ولتقريب الصورة فالنستمع لما قاله أحد المصريين لأحدي القنوات بعد فض إعتصامي رابعة العدوية والنهضة : ( في ناس في الشارع مش شرطة ، مش جيش ، مش أمن دولة ديل اذا بصيت على واحد في عينيه يناديك ويبهدلك ) .. أما المرحلة الثالثة وهي الاخطر وهي المرحلة التي اذا قدر فيها نجاح ثورة المتظاهرين وحصل التغيير ، فهنا يتحول البلطجية الي زعزعة الامن والاستقرار ومحاولة خلق ثورة مضادة وإرباك المشهد وبث الفوضى لدرجة أن يتمنى الشعب عودة النظام السابق على نموزج الذي يجري في ليبيا وجرى في مصر أسناء حكم مرسي ، وفي هذه المرحلة ( غالبا ) مايقود البلطجية الجزء المؤدلج منهم ويتساقط فيها السواد الاعظم منهم وسبب ذلك إن البلطجي ( بإستثناء المؤدلج ) نجده سرعان ما يجمد نشاطه ويتلاشى بمجرد شعوره بضعف وتهاوي الجهة التي توفر له الحماية .. إذا .. البلطجة بمفهومها الجديد صارت ظاهرة يصعب غض البصر عنها تحتاج الي وقفة من الذين يهمهم الامر سيما الشعوب التي تبحث عن تحول تتبادل فيه الاشياء بإيقاع سلس .

الطاهر ابوجوهرة
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..