«العطالة ولعب الضالة»

«الضالة» لمن لا يعرفونها وقد يحسبونها كلمة مشتقة من الضلال، هي لعبة شعبية قريبة الشبه بلعبة «السيجة» الشعبية، أو إن شئت أن تربط الأصل بالعصر وتصل الماضوي بالحداثوي، جاز لك أن تقول إنها شبيهة بلعبة الشطرنج العالمية الذائعة، ولكن رغم هذا التشابه ظلت «الضالة» الأخمل ذكراً والأقل حظاً في الذيوع والانتشار من نظيراتها ورصيفاتها الشعبيات والحداثيات، فلم تتعد المعرفة بها الحيز الاثنوجغرافي الذي أنتجها، ربما كان سبب ذلك أنها أصلاً لعبة لا ُتمارس إلا في أزمنة الخمول والخمود والهمود التي يدخل فيها المزارعون التقليديون بغرب البلاد وبالأخص في الجزء الغربي من كردفان الكبرى، وارتبطت بشكل أكثر خصوصية بقبائل البقارة والمسيرية التي تعتبر مخترع اللعبة ومبتدعها، ومنهم وبفعل المساكنة والمعايشة والتأثيرات المتبادلة انتقلت إلى غيرهم فاتقونها وأجادوها وبرز منهم من بزّ مبتدعيها، والأثر البقاري في اللعبة واضح، إذ أن من يستطيع بمهارة وحذاقة أن يحوز على «تور- ثور» يكون كمن حاز على جوكر في لعبة ورق الكوتشينة المسماة كونكان اربعطاشر، وأي نقطة يسجلها اللاعب على خصمه تُسمى «طعنة» وهكذا يستطيع صاحب «التور» أن يمارس الطعن يميناً وشمالاً حتى يتجندل خصمه ويهزمه شر هزيمة، وعلى كل «الضالة» لعبة ممتعة ومسلية وذكية وتحتاج إلى إعمال الذهن واليقظة، غير أن أسوأ ما فيها أن انتشارها والتكالب عليها في وقت محدد من كل عام يعني أن المنطقة قد دخلت في بيات خريفي وساد فيها الكساد والكسل وانتشرت العطالة المقنعة…
وددت بذلك أن ألفت الانتباه إلى هذه القضية المنسية حين لم أجد لها أي ذكر أو إشارة في تقرير عن العطالة وسوق العمل لوزارة تنمية الموارد البشرية كشفت محتواه الوزيرة إشراقة في المؤتمر الصحفي الذي عقدته خصيصاً لهذا الغرض ولم تكن إفادة عرضية، وهذا يعني أن الريف السوداني بما يعانيه من أشكال عطالة تخصه وتختلف عن مشاكل العطالة في الحواضر، لم يكن في دائرة الاهتمام والرصد والدراسة توطئة لايجاد حلول لها في إطار اي معالجة ممكنة لمشكلة العطالة عامة، كما يعني أيضاً أن التقرير لم يحط مشكلة العطالة من كل جوانبها وانها اكبر بكثير من الارقام والنسب التي أوردها، وهذه مشكلة في حد ذاتها، أن يكتنف القصور حتى مجرد تعريف وتوصيف وتحديد حجم مشكلة بهذه الخطورة الكبيرة والافرازات المزلزلة التي قد يتجاوز اثرها زلزلة انظمة الحكم إلى زلزلة المجتمع نفسه.
من المعلوم بداهة ان العطالة والحالة العامة للاقتصاد نقيضان يتناسبان تناسباً عكسياً، كلما ارتفع مؤشر العطالة دل ذلك على سوء الاقتصاد، وليس من حل ناجز لتردي الاقتصاد سوى الإنتاج والمزيد من الانتاج، وتتجلى المفارقة هنا في أننا بدلاً من أن نولي قطاع الزراعة المنتج والذي يشكل مهنة غالب أهل البلد وعماد الاقتصاد الاهتمام الذي يستحقه، نهمله ونهمشه ولا ترد عنه اية اشارة في مسح سوق العمل الذي أعدته وزارة التنمية البشرية، ولعلها لا تعلم أن الريف الزراعي المنتج يعاني عطالة موسمية تمتد لأشهر يقضيها الناس عطالى تحت «الضللة» يلعبون الضالة والسيجة وصفرجت وغيرها ويرتادون المحاكم الشعبية لقتل الوقت والحصول على مادة للونسة والشمشرة فيهدرون طاقة البلاد في أمس الحاجة إليها في «الفارغة والمقدودة»، وذلك ليس ذنبهم فهم لم يجدوا عملاً يمتص هذه الطاقة ينفعهم وتنتفع منه البلاد، ولكن للاسف المستفيد هو «الازمة الاقتصادية» التي تزداد عمقاً ورحم الله شاعر الحكمة أبو العتاهية الذي قال إن الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة…

الصحافة

تعليق واحد

  1. لك الشكر الاخ حيدر لقد اثرت موضوع مهم جدا لنا كمسيريةوهو طبعا منسي من المفترض اولاد المسيريةتعريف السودان بذلك. وانت طبعا واحد من ابناء المنطقة وخاصة لقاوة التي عشت وتعلمت فيها – اخوك احمد على فضل الله ( الكارو)

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..