حرب الوعول واقتصاديات القنفد

بقليل من التفاؤل وكثير من التشاؤم أتابع مع غيري المهمومين بقضايا هذا الوطن في هذا المنعطف الخطير حوار قاعة الصداقة ..وهو حوار يجرى بحماس طاغ من حزب المؤتمر الشعبي ومائة حزب لا أحد يعرف وزنها الحقيقي في خارطة السياسة السودانية مع مقاطعة تامة من حزب الأمة (الأصل) ومشاركة رمادية من الاتحاد الديمقراطي (الأصل) ..ولكن السلام الذي نلهج كلنا باسمه ليس نزهة بحرية على شاطئ لازوردي ولكنه تسديد لكلفة غالية الثمن مهرها إرادة فولاذية وشجاعة نادرة وجاهزية فريدة لتقديم التضحيات والتنازلات والاستحقاقات المستحقة المؤلمة حد الاستقطاع من اللحم الحي ..وفي ظل الماثل أمامنا من مخاطر محدقة ومهددات أمنية في محيطنا الإقليمي من حروب أهلية انتهت بدول شقيقة لأشباح انتفي فيها حتى مفهوم السيادة والمشهد المرعب للحركات المتطرفة التي تحيط بالسودان الآن إحاطة السوار بالمعصم يبدو السودان أشبه بوعول البراري التي تتقاتل على مناطق النفوذ دون أن تنتبه للكواسر التي تتربص للانقضاض عليها من وراء الاكمات .
(2)
الحماس للحوار الوطني من قبل المؤتمرين دافعه الخروج بمخرجات تنتهي لحكومة مؤقتة ولكن قابله في الاتجاه المعاكس تصريحات منسوبة الى متنفذين في الحزب الحكم وصفوا الحكومة المؤقتة بأحلام اليقظة ..ولكن الرئيس حسم الجدل بتصريح قوى أعلن فيه استعداده التام بقبول المخرجات أيا كانت نتائجه مؤكدا كلامه باللهجة الدارجة (الراجل يمسكوه بلسانه ما بكراعو ) ..نعم الموقف لا يحتمل المزيد من المناكفات والمزايدات فالملايين التي طال فجر صبرها تنتظر على أحر من الرجال حدا أدنى من الوفاق يوقف نزيف الدم ونزيف المعاناة في كل شيء ولكن السلام المطلوب في تقديري لن يتم إلا بتقمص روح الراحل المقيم الشيخ على بيتاي الذي حقن الدماء في حرب أهلية كانت مرشحة بحرق الأخضر واليابس بين قبيلته (الجميلاب ) وقبيلة الأشراف حينما عفا عن رجل قتل احد أبناء قبيلته وأبدى استعداده لدفع دية قتيل القبيلة المناوئة ..هذه هي النوعية المطلوبة للرجال في هذه المرحلة ولكن أين الرجال ؟
(3)
مرة أخرى تعلو على سطح قضية الجرافات المصرية في ولاية البحر الأحمر التي تم التعاقد معها والتي كثر الجدل حولها ..لى ثلاثة ملاحظات هنا :
1- يبدو وفي ضوء النقاش الساخن حولها في مجلس تشريعي ولاية البحر الأحمر الذي يستنجد الآن بالمركز إن الغلبة كانت للصوت الرافض لآثارها التدميرية على البيئة البحرية مقارنة بضآلة العائد من ورائها .
2- حكومة الولاية اتخذت قرار تجريف البحر على أعلى مستوياتها مجبرة دون عرضه على مجلس الوزراء كما تقول الروايات شأنها شأن كل الحكومات الولائية التي تعاني من شح الإيرادات بعد أن تصحرت البدائل الأخرى كالأراضي مثلا وهو خيار لم تسلم منه الولايات الأخرى فقد قيل إن والي الخرطوم الفريق ركن عبد الرحيم محمد حسين اشتكى إن عبد الرحمن الخضر الوالي السابق لم يترك له شبرا يبيعه .ولعل هذا هو السبب وراء تمرير القرار على طريقة الغاية تبرر الوسيلة . أما الثالثة وهي ثالثة الأثافي كما يقولون هو إن القرار صدر دون مشاركة من الذين يفترض أن يكونوا أصحاب المصلحة الحقيقية ..فقد كان المفترض أن تقوم الأجهزة الإعلامية وعلى رأسها قناة البحر الأحمر الفضائية بتسليط الأضواء على مثل هذه القضايا الخطيرة بسلبياتها وايجابياتها تبصيرا للمواطن ..ولأن هذا لم يحدث فلا أحد يستطيع تحميل الحكومة وحدها وزر التعتيم ..بل صوت عتاب نوجه للفضائية صادقين راجين تقبله بصدر رحب .أن المرء كان يتوقع أن تتبنى الفضائية مثل هذه القضايا الحيوية وغيرها وما أكثرها .. تتولاها بالتغطية والتحليل والنقاش عبر الندوات والمنتديات التي يشارك فيها المسئولين والصيادين وخبراء البيئة والسياحة مثلها مثل الفضائيات الأخرى التي تعج بها السماء السودانية وصولا لبر الأمان ..ثم ما هو الضرر من تنظيم مواجهات حتى ولو كانت ساخنة طالما تعبر عن نبض الشارع وتصب في خانة المصلحة العامة ؟ ..كان الأمل ولازال ابتكار برامج هادفة تجمع المسئول بالمواطن وتطرح رؤاها بجرأة سقفها الأمانة والموضوعية والشفافية ..مثل هذه البرامج تبني أرضية للثقة تجاه العمل المشترك ولكن ماذا نقول في غيابها ؟ يشهد الله إنني لا أفتئت على جهد العاملين الذين يجدون منا كل التقدير والعرفان في ظل الإمكانيات المتاحة ولكن بكل أمانة أقول إن المعروض لا يلبي الطموحات ..نحن والله على علم ودراية تامة بالالتزامات تجاه الغير من قمر صناعي وتكاليف التشغيل المتعددة وهي مسئوليات تئن من تحتها الجبال ولكن صدقونا لقد تجرعنا حتى الثمالة من البرامج والدعايات المكررة المملة أشبه بالاسطوانات المشروخة التي لا تتحدث إلا عن نفسها حتى اختلط علينا البقر ولم نعد والعياذ بالله التفريق بين الترويجي والتثقيفي فهل من مخرج ؟.
(4)
جزي الله الشدائد كل خير فمن حيث لم يحتسب أحد تلاعب حيوان بري وديع مغمور الدور ضبابي الأهمية وهو القنفد وأزاح ورقة التوت عن عوراتنا وكشف فاضحا كيف إن الوعي الجمعي السوداني هو حاضنة لروايات ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان لدور مزعوم له في علاج السرطان ولكن يبدو إنها راسخة رسوخ الجبال في الوجدان رغم هشاشتها .. وقبل سنوات وفي نفس هذا المنحى انجذبت لجمهرة من الناس في أحد أحياء مدينة بورتسودان ظننتها محاضرة في الهواء الطلق لأحد المشايخ يتحدث فيها عن أمور الدين والدنيا ولكن خاب ظني ..فقد وجدت رجلا يتوسط الجمع ..يروج لمادة شمعية في كيس بلاستيك احكم ربطها بإتقان ويزعم إنها من شحم الأسد ..هل قلت الأسد ؟ نعم ملك الغابة الذي انقرض من غابات السودان بسبب الحروب الأهلية وفقدنا بسببه موردا استثمارا قيما فيما تفرض عليه الحكومات الأفريقية حماية لصيقة كمنتج سياحي ضمن ما يعرف بسياحة السفاري ولكن صيدلى آخر الزمان هذا لم يكتفي بالشرح النظرى بل كان يوزع روشته مكتوبة للأمراض التي يعالجها شحم الأسد أحصيت منها 20 مرضا بعضها عجز العلم الذي وضع المركبة (كيوريزتي) على سطح كوكب المريخ بعد رحلة طولها 570 مليون كيلومتر قطعتها في ثمانية أشهر بسرعة بلغت 20 ألف كيلومتر في الساعة أي 20 مرة سرعة طائرات البوينج أو 17 مرة سرعة الصوت ثم ألحقها خبراء (ناسا) برحلة المسبار (هورايزون) الذي اكتشف آثار ماء على سطح الكوكب الأحمر أقول رغم هذا فقد وقف الانجاز والإعجاز العلمي رافعا راية الاستسلام أمام أمراض تحصد الآلاف من أرواح البشر يوميا ولكن ما حيلتنا مع دجال ديم سواكن ..الأنكى والأمر إن قوة العين بلغت بجزار (الكيري) هذا أن كتب هاتفه الجوال على الروشته نظير المراجعة والاستشارة ولا عزاء للإخصائيين والاستشاريين و(مافيش حد أحسن من حد ) . وحينما رأيت نفاد مادته السحرية مع حماس المتجمهرين حوله سألته بعفوية ومن باب حب الاستطلاع ..هب إن الكوتة انتهت هل ستدخل الغابة مجددا وتغتال أسدا لتبيعنا شحمه ؟ هنا أطلق ضحكة بلهاء تردد صداها في المكان وهو يقول ” لا..لا ..أنينا ما نكتل ..هكومة ..هكومة تكتل ” .. هاجت في نفسي مشاعر غاضبة وقتها وأنا أبتعد متمتا ” روح يا شيخ ..حريقة فيك وفي حكومتك “. ولكن يبقى السؤال ما هذا ؟ هل هي الحاجة التي دفعت الناس للبحث عن بدائل للعقاقير الطبية التي تعذر اللحاق بأسعارها المتصاعدة عنان السماء ؟ هل هي محاولة التفاف لظاهرة البطالة التي تعتصر الناس دون رحمة وتدفعهم للاستثمار حتى في لحوم القنافد وشحوم الأسود أم هي ردة غير مبررة لعصور ما قبل الكهوف ؟؟
) 5 )
أتحدى من يفتينا عما إذا كان الرمزان الوطنيان الذين يمثلان الحزبين العريقين (الأصل) وهما الإمام الصادق المهدي ومولانا محمد عثمان الميرغني خارج أم داخل حوش الحكومة فالزعيمان يحاولان إقناعنا بأن الأبناء الذين جاءا من صلبهما لا يمثلانهما الصادق المهدي أعلنها على رؤوس الأشهاد ..ولكن الصورة مربكة مع مولانا الميرغني الذي تفرق أبنائه ومريديه وأنصاره أيدي سبأ ..إبن شقيقه إبراهيم الميرغني وهو الناطق الرسمي بإسم الاتحاد الديمقراطي (الأصل) لا يعترف بالانتخابات وربما لا يعترف بحوار قاعة الصداقة أما الابن الأكبر محمد الحسن فهو متآلف مع الحكومة وكان قد أعلن الحرب على المختلفين معه في الحزب خلال تلك المواجهة المشهورة التي أشهر فيها البطاقات الحمراء في وجه قيادات تاريخية ضمن حملته التي وصفها بالحرب على الدواعش وهناك أيضا مساعد رئيس الجمهورية جعفر الصادق..نفس هذا ينسحب على قيادات الحزب في الداخل ..استوقفني هنا حوار أشبه بالشجار جرى قبل فترة بين معتصم حاكم وطه على البشير في قناة الشروق فالأول مؤيد وداعم لبرنامج الوثبة المطروح من الحكومة والثاني رافض ولا يعترف بها .. الخلاف في الرأي يبدو طبيعيا ولكن اللغز الذي يحتاج لفك الطلاسم إن الرجلين يزعمان إنهما ينطلقان من مرجعية واحدة وهو مولانا الميرغني فطه البشير يبرر معارضته لبرامج الحكومة إن الزعيم يبعث بتوجيهاته مكتوبة في كل قضايا الساحة للأخذ بها وهو أمر لم يحدث حتى الآن أما الثاني الواقف في خندق الحكومة فيزعم إن هناك اتفاق بينه وبين مولانا بالتقيد والالتزام حتى الصادرة بالتوجيهات الصادرة شفاهة .وهذه شفرة عصية على الفهم لا احد يفك رموزها سوى الزعيم (اللابد) في عاصمة الضباب . البعض يقول ان سياسة وضع قدم في حوش الحكومة وقدم خارجها قد تم بالاتفاق الكامل بين الآباء والأبناء ضمن محاولة ذكية لترويض الوحش الجاهز للتدمير والمصادرة والملاحقة ولسان الحال يقول الطشاش ولا العمى.
(6 )
كشف مكتب اليونسيف في السودان عن صورة بائسة مخيفة لأطفال شرق السودان وأمراض سوء التغذية الشائعة هناك ..القرار ذهب بأن حالهم أسوأ من حال أطفال دارفور الذين يجدون العناية من المنظمات والمانحين والدول الراعية للاتفاقيات ولكنه تجاهل عمدا قضية هؤلاء الضحايا ربما لعلمه إن هناك شيء أسمه (صندوق تنمية شرق السودان) ..ولكن تبقى المحصلة النهائية .. فقر مدقع وإنسان بائس يموت في صمت ..ليت حكومة الولاية تتبني مشروع تشجير نخيل يكون رأس الرمح فيه وزارة الزراعة على أن يتم تقييمها بمدى نجاحها في مثل هذه المشروعات ..الوالى السابق ايلا تحدث لنا عن مجاهدات قام بها في هذه القضية الحيوية ولكنها لم ترى النور حينما اصطدمت بثقافة الواقع الرعوي للإنسان هناك .. نعم القضية ليست سهلة وتحتاج لصبر ومثابرة ومتابعة ونفس طويل فهل تمتلكها هذه الوزارة ؟