قمة الخرطوم .. سيناريوهات اليوم التالي
نص رأي
قمة الخرطوم .. سيناريوهات اليوم التالي
خالد التيجاني النور
على عجل وبقدر غير قليل من الشكوك سبقت انعقادها ما بين نفي وتأكيد لقيامها مما حفلت به الصحف في الأيام الفائتة، فضلاً عن الغموض والضبابية التي أحاطت بأجندتها الحقيقية، التأمت في الخرطوم القمة الرباعية المصرية، الليبية، الجنوب- سودانية، في سابقة جمعت للمرة الأولى لقاءً نادراً ضم الرؤساء حسني مبارك، والعقيد معمر القذافي، والمشير عمر البشير، والفريق أول سلفاكير ميارديت، وبالطبع لم يكن هناك شئ على أجندة القمة يشغل الجميع غير تداعيات وتبعات اقتراب اللحظة التاريخية الفارقة للمنطقة وللقارة الإفريقية وهي تستعد لاستقبال القادم الجديد الدولة الحادية عشرة في منطقة حوض النيل، والرابعة والخمسين في القارة السمراء.
اجتمع القادة الأربعة وكلهم تشغله أجندة بلاده لمرحلة ما بعد الحدث الزلزالي والذي من المؤكد أنه سيعيد تعريف الخريطة الجغرافية والحقائق والمصالح السياسية التي ظلت سائدة في المنطقة على مدى القرن الماضي، تباينت الأجندة التي تبحث عن نقاط التقاء لكنها تتفق على حقيقة واحدة أن انفصال جنوب السودان لم يعد ممكناً تفاديه، وانه لم يعد ممكناً تغيير مسار الأحداث، ولم يعد بذي نفع طرح مبادرات جديدة ولا البحث عن سبل لإنقاذ وحدة السودان وتفادي تقسيمه، بل جاء القادة الأربعة في محاولة أخيرة للاتفاق على رسم سيناريوهات اليوم التالي للانفصال ليس فقط لتجنيب المنطقة الإنزلاق إلى الفوضى وعدم الاستقرار التي لا مناجاة لأي من دولها من تبعاته إن حدث، بل الاتفاق على أسس جديدة موضوعية للحد من تأثيرات الانفصال السلبية على الجميع، وتأمين فرص لخلق تعاون بناء بين الأطراف كافة يستند بالدرجة الأولى على حقيقة أن قيام دولة الجنوب اصبح أمراً واقعاً ولا مناص من الإقرار بذلك وضرورة التعامل مع المعطيات الواقعية، وليست المتوهمة، التي يخلفها.
وانعقاد قمة الخرطوم الرباعية جاءت بمبادرة وتحرك مصري، فالقاهرة ظلت لفترة طويلة تقاوم فكرة تقسيم السودان، وبغض النظر عن مدى نجاعة تحركها السياسي في منع الوصول إلى أسوأ السيناريوهات بتحقق ذلك عبر انفصال جنوب السودان، إلا أنها ظلت مدركة بحكم عراقة الدولة المصرية مدركة لمحددات ومهددات أمنها ومصالحها القومية التي تتعدى إلى ما وراء حدودها السياسية، إلى أعماق استراتيجية أبعد، خاصة منابع حوض النيل التي تهب ماؤه الحياة لمصر هبة النيل، إضافة إلى عمق وجودها الشرق أوسطي. وتقسيم السودان يجعل مصر مضطرة لإعادة تعريف وتحديد مصالحها واستراتيجيات أمنها القومي التي ظلت لعقود طويلة في باب الحقائق والمسلمات الجغرافية والسياسية.
وعلى الرغم من أن مصر أعادت منذ وقت مبكر، بعد توقيع اتفاقية السلام وبعدما أصبح اللجوء إلى تقرير المصير أمراً محسوباً بالنسبة لجنوب السودان، أعادت قراءة الخارطة السياسية الجديدة التي بدأت تتشكل في عمقها الجنوبي، والتي جرى رسمها بمعزل منها بعدما رفضت الانضمام إلى وساطة «إيقاد» خشية أن تقع في المحظور بالمشاركة في إقرار مبدأ تقرير المصير، ولكن ذلك كان تحصيل حاصل لانه لم يفلح في وقف قطار تقرير المصير المندفع الذي ظل يشكل عصب مبادرة «إيقاد»، خاصة بعد فشل المبادرة المصرية الليبية المشتركة التي حاولت التخفيف من غلواء المبادرة الإفريقية، بسبب تحايل الحركة الشعبية وبسبب فشل شركائها الشماليين في مواجهة ذلك.
ولذلك عادت مصر للقبول على مضض باستحقاقات عملية السلام السودانية خاصة في ظل الدعم الدولي الكثيف الذي حظيت به، وكانت مصر تأمل في أن ذلك التحول في موقفها، والتعاطي بصورة أكثر انفتاحاً واقتراباً من الهموم الجنوبية، والعمل عبر مشروعات تنموية واقتصادية لتعزيز فرص الحفاظ على الوحدة عند الاستفتاء على تقرير المصير، ولكن لم يكن مقدراً لهذا التحول وهذا الجهد في دعم الوحدة الجاذبة في تغيير مسار الأحداث بدون أن يقترن بجهد سوداني تتوفر له الإرادة الوطنية الكاملة والعمل الدؤوب بلا حدود لتغليب خيار الوحدة فانقضت سنوات الانتقال وسط تشاكس بين الشريكين غابت فيه الرؤى الاستراتيجية والخطط المدروسة بعناية لتفادي الاحتمال الأسوأ، انفصال الجنوب.
ولعل مصر نجحت في تفادي أن تصنف ضد رغبات وطموحات الحركة الشعبية في المضي قدماً لتأسيس دولة مستقلة على الرغم مما يعنيه ذلك من تغيير جذري في معادلات مصالحها وأمنها القومي، ولكن ذلك ليس كافياً وحده، فلئن تجاوزت القاهرة موقفها الرافض لمبدأ تقسيم السودان وتعاملت مع التطورات بواقعية، عبر محاولات تطبيع العلاقات مع دولة الجنوب الوشيكة، فإن الأمور لا تقف عند هذا الحد فالانفصال يأتي محفوفاً بالمخاطر في ظل عدم وضوح الرؤية لسيناريوهات اليوم التالي، وفي ظل خلافات محتدمة بين الشمال والجنوب بشأن القضايا العالقة وكلها شديدة الحساسية، وكل واحد منها كاف إن بقي بلا حل لجعل الانفصال حدثاً سلمياً أمراً بعيد المنال مما ينذر بعودة الحرب، وربما يقود لفوضى تعم السودان.
والمعضلة بالنسبة لمصر لا تقف عند حدود دولة الجنوب، فحتى لو تم الانفصال سلمياً ومضت الأمور باتجاه التطبيع بين الشمال والجنوب، فإن ما يقض مضجع القاهرة هو أن مشاكل الشمال ليست فقط مع الجنوب، بل تلك التعقيدات في داخله أيضاً إذ ليس مسلماً به أن ما يتبقى من السودان مستعد بشكل كامل لامتصاص صدمة تقسيمه، لا سياسياً ولا اقتصادياً، فالأجواء السياسية الداخلية لا تزال محتقنة وهي مرشحة للمزيد من التوتر في ظل غياب توافق وطني حقيقي على أوضاع سودان ما بعد الانفصال، بيد أن المشكلة الاكثر تعقيداً هي أزمة دارفور التي بقيت شاخصة بلا حل، وليس واضحاً تماماً مستقبل مسار محاولات تسويتها المتعثرة والمفرق دمها بين أكثر من صعيد. ومن الواضح حسب المعطيات المتاحة حالياً فإن أزمة دارفور سيتم ترحيلها إلى ما بعد ذهاب الجنوب في حال سبيله آمناً حسب الأجندة الامريكية التي تريد أن تجعل منه ورقة ضغط تستخدمها ضد الخرطوم لضمان ألا تعمل على عرقلة الانفصال لأي سبب من الأسباب، وكما اسلفنا في المقال السابق فإن واشنطن أبلغت الحكومة السودانية صراحة في خارطة طريقها لتطبيع العلاقات بين البلدين أن ذلك لن يحدث قبل انقضاء أجل الفترة الانتقالية منتصف العام المقبل وبعد ضمان حصول الجنوب على دولته، وأن ذلك رهين بحل أزمة دارفور.
ومن الواضح أن القاهرة التي أعادت ترتيب أوراقها وأجندتها المستقبلية على ضمان تماسك السودان الشمالي، تخشى أن تتطور الحالة الدارفورية من أزمة داخلية الطابع محدودة المطالب إلى القفز إلى مطلب تقرير المصير، وعلى الرغم من أن الكثيرين يستبعدون أن تصل الأمور إلى هذا الدرك، إلا ان استعادة الحالة السياسية السودانية تؤكد أن كل شئ محتمل الحدوث في السودان، وأن الاشياء غير المتوقعة هي التي تحدث في نهاية الأمر، فانفصال جنوب السودان لم يحدث هكذا ضربة لازب بل تراكمت عوامل الفشل السياسي في إدارة المطالب الجنوبية التي كانت مقتصرة على الفدرالية إلى أن بلغت مرحلة الانفصال وللمفارقة في الوقت الذي اصبحت فيه الفدرالية المنبوذة في السابق أمراً واقعاً، وحصل الجنوب من خلال اتفاقية السلام على وضع شبه كونفدرالي، ولكن عندما تضيع الفرص الممكنة في الوقت المناسب بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية والقيادة ذات البصيرة لا تصبح الاشياء هي الاشياء ولا المطالب هي ذاتها.
ولعل العامل الدارفوري هو بالتحديد الذي جعل مصر تصر على أن تكون ليبيا شريكاً في جهودها لرسم سيناريوهات اليوم التالي للانفصال، وقد شهدت الأيام الماضية اتصالات دبلوماسية مكوكية بين القاهرة وطرابلس لتأمين انعقاد قمة الخرطوم بمشاركة العقيد معمر القذافي شخصياً، وليس سراً أنه كان على القاهرة أن تبذل جهودا مضنية لكسر الجليد بين الخرطوم وطرابلس التي تشهد علاقاتهما في الآونة الأخيرة توتراً مكتوماً بسبب تداعيات عرقلة الرئيس عمر البشير من المشاركة في القمة الإفريقية الأوروبية التي انعقدت بالعاصمة الليبية أواخر الشهر الماضي، وعلى الرغم من أن الخرطوم لم تنتقد ليبيا صراحة إلا أن الكواليس الدبلوماسية تحمل طرابلس المسؤولية الأكبر عن ذلك، فالرفض الأوروبي لمشاركة البشير كان معلوماً، ولكن مع ذلك لم تعمل طرابلس على معالجة المسألة على نحو يجنب الجانب السوداني الإحراج، وبدا وكأنها تعمدت ذلك للرد على ما اعتبرته استهانة بالعقيد القذافي الذي تعرض لهجوم عنيف من الصحيفة المقربة من دوائر الحكم والتي ما لبثت أن عادت للصدور بعد إيقافها الذي برر بأنه بسبب إضرارها بعلاقات السودان بليبيا، ومهما يكن من أمر فإن المقارنة لم تكن في صالح ليبيا بالنظر إلى الموقف المصري الذي رفض استضافة القمة الفرنسية الإفريقية على خلفية تحفظ باريس على مشاركة البشير مما أدى لنقل القمة ممن مصر، لقد كانت الطريقة غير اللائقة التي تعاملت بها السلطات الليبية لمنع حضور البشير لطرابس، ثم إعلان وزير خارجيتها صراحة أن بلاده ليست مستعدة لإلغاء القمة، جعل التوتر إلى مداه في الخرطوم، لأن من شأن ذلك أن يخلق سابقة تقوض جهود الحكومة السودانية لمحاولة المحكمة الجنائية الدولية فرض حصار على البشير، والخطورة هنا أن هذا الموقف الليبي سيحسب خصماً على التضامن الإفريقي في هذه المسألة، وبالنظر إلى تمدد الدور الليبي في إفريقيا فإن مثل هذه السابقة ستكون مهدداً للموقف الإفريقي في قضية المحكمة الجنائية الدولية.
ولذلك فإن قمة الخرطوم إلى جانب أنها معنية ببحث سيناريوهات ما بعد الانفصال، فإن إزالة الاحتقان بين الخرطوم وطرابلس تأتي في صميم أجندتها، وهو أمر بالنسبة للقاهرة ليس فقط من باب المجاملة الدبلوماسية، ولكن أيضاً لأن وجود علاقات ليست طبيعية وحسب، بل قوية بين العاصمتين أمر لا بد منه في جهودها لتأمين انقاذ باقي السودان من التشرذم مما يعد عامل خطر مباشر على عمق مصر الجنوبي، ولعل التجارب الكثيرة في محاولات حل أزمة دارفور تثبت أن الدور الليبي شديد الأهمية ومحوري في هذا الخصوص، ولعل محاولة تسوية الأزمة بعيداً عن طرابلس هو أحد أسباب بقائها خارج توقعات الحل في وقت قريب، ولعل إدراك الخرطوم أيضاً لمدى تأثير الدور الليبي سلباً أو إيجاباً في دارفور هو الذي يجعلها حريصة على الاحتفاظ بعلاقات طيبة معها على الرغم من أن ذلك لا يعكس بالضرورة قناعاتها الحقيقية.
وهناك الكثير من المعطيات التي تشير إلى أن ليبيا لن تستسلم لفكرة أن يتم تسوية أزمة دارفور، أو تصنع بعيداً عنها، ففضلاً عن أنها تعتبرها امتداداً لعمقها الاستراتيجي بحكم الجوار، وبحكم تاريخ الصراع القريب في هذه المنطقة بين ليبيا وتشاد، والذي جعل من دارفور أحد مسارحه، ولعل بذرة أزمة دارفور الراهنة ولدت في أتون ذلك الصراع، فإن ليبيا المتطلعة لتأكيد دورها الزعامي في الفضاء الإفريقي تعتبر أن تسوية الأوضاع في دارفور حق طبيعي لها. وفي كل الأحوال فإن إدراك كلاً من القاهرة والخرطوم لمحورية الدور الليبي في حل المسألة الدارفورية يجعل وجودها قريباً من الضرورات الاستراتيجية.
ولئن فرضت قمة الخرطوم الرباعية هموماً مصرية وليبية، فإن لجوبا والخرطوم أجندة تسعيان لتمريرها عبرها، وبالنسبة للجنرال سلفا كير فإن مشاركته في قمة عربية الطابع لبحث الشأن السوداني، ما كانت لتحدث لولا أنه رأى فيها فرصة لتحقيق مكاسب، فالحركة الشعبية لا يشغلها في الوقت الراهن سوى هم واحد لا ثاني له، أن يجري الاستفتاء على تقرير المصير في الموعد المضروب له في التاسع من يناير، وأن تعترف الخرطوم بالنتيجة المحسومة بالنسبة لها وهي الانفصال، ثم يأتي بعد ذلك بحث القضايا العالقة.
والمكسب الذي حصل عليه الجنرال سلفا هو الحصول ما يشبه الاعتراف المبكر بدولة جنوب السودان الوشيكة الظهور، فالزعيمان المصري والليبي جاءا بأجندة لبحث تثبيت الاستقرار وترتيب الأوضاع الناشئة عن الانفصال، وليس بغرض العودة بالأمور إلى الوراء، وهو مكسب معنوي مهم للحركة الشعبية، فالتسليم بحقيقة انفصال الجنوب بعدما اصبح نغمة سائدة بين قادة المؤتمر الوطني، ها هو ينال غطاءً من دولتين عربيتين مهمتين لا شك أن ذلك سيسهم في تعبيد الخطوات اللاحقة.
أما بالنسبة للرئيس البشير فإن أهمية القمة الرباعية تأتي من كونها ساعية لتأمين امتصاص سلس لصدمة الانفصال، وتعهدات بالمساعدة على تجاوز هذه الآثار، وتثبيت الاستقرار في السودان ويأتي في قمة ذلك ضمان تسوية أزمة دارفور كصمام امان لتماسك السودان في مرحلة ما بعد الانفصال.
الصحافة
يعني معنى كلامك دا الناس ديل التلموا عشان ادور الابادة الجماعية في دارفور تاني حفاظا علي امن دولهم .