أهي لعنة موارد أم لعنة إلهية ؟

أهي لعنة موارد أم لعنة إلهية ؟

رشيد خالد إدريس موسي
[email protected]

لعنة الموارد Resource curse من المصطلحات التي دخلت إلي مجال الإقتصاد و السياسة حديثاً. و يقصد بهذا المصطلح, الأثر السالب لمورد إقتصادي طبيعي ما , علي الأوضاع الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية للبلد. أي بدل من أن يصبح إستغلال المورد نعمة, ينقلب إلي نقمة في بعض الأحيان , مثل البترول و الماس اللذين تم إكتشافهما و إستغلالهما في بعض الدول النامية, و منها بعض الدول الأفريقية, مثل بلادنا. و ينتج عن إكتشاف و إستغلال الموارد الطبيعية, آثار إقتصادية و إجتماعية و سياسية سالبة, في بعض الأحيان, و منها :
1 / تفجر الصراعات القبلية و الإثنية, داخل البلد الواحد, أي أن كل جهة تطالب بنصيبها من عائدات هذا المورد. لقد تزامن مع هذا , بروز مصطلحي الهامش و التهميش مع بداية القرن الحادي و العشرين, و مطالبة كل جهة بنصيبها الذي تراه في السلطة و الثروة.
2 / إنتشار ظاهرة ما يسمونه المرض الهولندي Dutch disease. و هو تعبير يشير إلي الأثر السالب و الناتج عن إكتشاف و إستغلال المورد الطبيعي , مثل البترول و الغاز,علي بقية القطاعات الإنتاجية, و علي رأسها القطاع الزراعي, حيث يختل معدل التبادل التجاري للقطاع الزراعي, و تقل أهميته النسبية في دعم الإقتصاد القومي. و يقترن مع دخول المورد المكتشف حديثاً, لدائرة الدخل القومي, إهتمام بعض الحكومات و تركيزها علي هذا المورد, لعوائده الضخمة, متجاهلة تنويع المداخيل الإقتصادية, بل إهمال ما كان قائماً, و بذا تجد الدولة نفسها و قد أحصرت بعد حين و أصبحت أسيرة لتقلبات أسعار هذا المورد في السوق العالمي , و هو ما يسمونه أثر الحصر Enclave effect .
3 / إنتشار الفساد المالي و الإداري, نتيجة لزيادة العائدات من العملات الأجنبية, الأمر الذي يغري المسئولين في الدولة, و في ظل غياب المحاسبة و الرقابة, علي إختلاس هذه الأموال, و تحويلها لحسابهم الخاص. لقد تفاقمت هذه الظاهرة في بعض الدول النامية, حتي صدق علي حكامها تعبير ( حكومة الطغمة الفاسدة) أو حكومة اللصوص Kleptocracy . و نجد في الأدب الإقتصادي الحديث , تعبير إقتصاديات الفساد Corruptonomics و هو فرع يبحث في هذه الظاهرة الفريدة, التي صارت تميز الإقتصاديات المتخلقة, مثل بلادنا.
4 / إرتفاع معدلات الإستهلاك, دون أن يقابل هذا الإستهلاك, إنتاج حقيقي, و ما يؤدي إليه من تأثير سالب علي ميزان المدفوعات و الميزان التجاري . و يقترن مع ظاهرة إرتفاع معدل الإستهلاك, لجوء بعض الحكومات إلي الإقتراض و مزيد منه , كل حين , علي أمل أن تسدد القروض من عائد هذا المورد المستغل حديثاً. لكن تجد الدولة نفسها, و قد وقعت في مصيدة الديون.
5 / و ينتج عن إكتشاف و إستغلال المورد الطبيعي, ظواهر سالبة أخري, تتعلق بالأداء العام لنظام الحكم و توجهاته المستقبلية, و منها العزوف عن تطوير الموارد البشرية,بإعتبار أنه لا ينتج عنها عائد ملموس في الأجل القريب, و من ثم يكون الإعتماد في تسيير دفة الأمور, علي العمالة الأجنبية, و التي تستنزف بدورها العملة الصعبة من البلد, عن طريق التحويلات التي تجريها. و بجانب هذا الأثر , فقد نتج عنه آثار إجتماعية و أخلاقية ضارة , و منها عزوف أبناء البلد عن الوظيفة العامة, و عدم إحترام الوظيفة و إنتشار ظاهرة التسيب و التسكع Social loafing , و ( ناس الملح ( Free ridersبين من يعملون في دواوين الدولة و ما يؤدي إليه من هدر للمال العام.
و للأسف , فقد أصيبت بلادنا بهذه اللعنة , التي نتجت عن إكتشاف و إستغلال البترول منذ أحد عشر عام, ذلك أنه ما أن تم إستغلال هذا المورد تجارياً, حتي تفجر الصراع, هنا و هناك, بل حمل البعض السلاح, مطالبين بنصيبهم في هذه الكيكة, و دخل مصطلح المركز و الهامش إلي قاموسنا السياسي, رغم أن الحال من بعضه. و أسوأ من هذا, فإن جزءاً عزيزاً من بلادنا في طريقه إلي الإنفصال, و ما سيقود إليه هذا الإنفصال في حالة حدوثه , إلي بروز مشكلات, تبدو بوادرها للعيان.
و ما أن تم إستغلال هذا البترول, حتي أصيب إقتصادنا بالمرض الهولندي, إذ تراجع الإنتاج الزراعي و الحيواني بمعدلات عالية, و أصاب التدهور المشروعات الزراعية. أين سلة غذاء العالم الموعودة ؟ و أين برنامج النهضة الزراعية المعلن ؟ و أين الأفعال التي تؤيد الأقوال ؟ يقول الأمريكان : Walk the talk, أي أرني ماذا فعلت يا هذا. هذا هو الجانب التطبيقي للسياسة.أي أن هناك خطط و برامج توضع من واقع السياسة المقررة , يتلوها تنفيذ ,ثم متابعة, ثم محاسبة.
لقد تزايدت العوائد من العملة الصعبة, نتيجة لإستغلال و تصدير البترول منذ عام 1999م. و أدي هذا الوضع الذي نشأ إلي حدوث إنتعاش إقتصادي ملحوظ. و لكن من جانب آخر, لازم هذا الإنتعاش, ظاهرة خطيرة, و هي تنامي الفساد المالي و الإداري في أجهزة الدولة, بحيث أزكمت رائحته الأنوف, و صار يشكل خطراً علي الأداء العام للدولة. ما لم تعمل الحكومة علي محاربة و الحد من هذه الظاهرة, فستذهب كل الجهود أدراج الرياح. قد يقول قائل, أن الفساد, هو ضريبة للتنمية, و بالتالي لابد لهذا الفساد من أن ينمو . لكن تنامي الفساد , يعد معوقاً للتنمية,نسبة إلي أن الفساد يسبب خللاً في توزيع الدخل بين أفراد المجتمع, و بالتالي يكون الضرب مضاعفاً. إن محاربة الفساد و الحد منه, هو مسألة قيمية, أي تتعلق بقيم المجتمع, و مدي إيمانه بخطا هذا السلوك. و بالتالي , عندما يصيب الإهتزاز هذه القيم التي يؤمن بها أفراد المجتمع, يصبح ممارسة الفساد , شئي عادي. و الأخطر من هذا , ان تعمل السلطة الحاكمة علي حماية المفسدين, و بالتالي تقنن لهذا السلوك , بحيث يصبح جزءاً من ثقافة أفراد المجتمع. و قديماً قال الإنجليز: أن السلطة تفسد, و السلطة المطلقة تفسد فساداً مطلقاً Power corrupts, and absolute power corrupts absolutely
و من جانب آخر , فقد إزدادت معدلات الإستهلاك في مجتمعنا بنسبة كبيرة, و غالب هذا الإستهلاك لسلع كمالية و ترفية , يستنزف إستيرادها عملات صعبة, نحن في أمس الحاجة إليها. هذا ما يلحظه المرء من واقع الإعلانات التي تبث في وسائل الإعلام , مثل الأثاث الفاخر, و السيارات الفخمة. هذا يشير إلي الإختلال الصارخ في توزيع الدخل, بين أفراد المجتمع, أي في الوقت الذي يعاني فيه البعض من مشقة في سبيل الحصول علي الضروريات, يبث لنا التيلفزيون إعلانات عن سلع إستفزازية. أي أننا لسنا في حاجة إلي إستيراد مثل هذه السلع الإستفزازية, و إنما نحن في حاجة إلي ترشيد مواردنا من العملة الصعبة, لمقابلة تحديات التنمية و البناء. و يبدو أن الحكومة إلتفتت أخيرأً إلي هذا الخطأ, و أعلنت عن ترشيد الإستهلاك. إن إزدياد حدة الشره الإستهلاكي, في مجتمع فقير, مثل بلادنا, يؤدي إلي خلق مشكلات إجتماعية و أخلاقية, نحن في غني عنها.
يؤثر عن أحد الرؤساء الأفارقة قوله,أن بلاده غنية بمواردها الطبيعية, ما يرقد منها فوق سطح الأرض, و ما يرقد في باطنها, و لكنه يفضل, أن يكون الحال كما هو عليه, حتي لا يسبب له إستغلال هذه الموارد وجع رأس , إذا ما أخرج هذا البترول!!
تري هل نؤمن بهذا القول الذي يقول به الفلاسفة و المفكرين علي إطلاقه , عن ما يسمونه لعنة الموارد ؟ أم نؤمن أن هناك قوة خفية تدير هذا الكون ؟
هي لعنة أصابت هذا البلد , الذي كان آمناً , يأتيه رزقه رغداً, و لكن اصاب الفساد منظومتنا القيمية, فصرنا إلي الحال الذي نحن عليه من تشرذم و إحتراب. يقول تعالي في محكم تنزيله ( ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) سورة الروم : الآية 41. و يقول تعالي في محكم تنزيله (( و لو أن أهل القري آمنوا و إتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96) أفأمن أهل القري أن يأتيهم بأسنا بياتاً و هم نائمون ( 97) أو أمن أهل القري أن يأتيهم بأسنا ضحي و هم يلعبون( 98) أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (99)) سورة الأعراف.
هل نتدبر و نتفكر في هذه الآيات , أم علي قلوب أقفالها ؟

الرياض / السعودية

تعليق واحد

  1. كلامك طيب وواقعي لكن تطبيقه على أرض الواقع يحتاج لأولي أمر من ذوي الضمائر الحية التي تخاف الله سراً وعلانية وما تقارير المراجع العام سنوياً إلا وهي براهين على غياب الوازع الديني والأخلاقي والفساد المالي المستشري في وطننا الذي نتحسر عليه وقيم مجتمعنا الجميلة التي غابت ولم نكد نلمس منها إلا ذكرها في مقالات كتاب الصحف الورقية والإليكترونية … لك الله يا بلدي ولك الله يا شعب السودان الصابر والقابض على جمر المعيشة الضنكة وحكامنا يرفلون في رغد العيش هنيئاً لهم إنما يأكلون في بطونهم نارا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..