مقالات سياسية

ما تبقى من السودان !

عدنان زاهر الساداتي

تأبطت مقولة أحد أبطال أفلام الغرب الأمريكى و هو يجيب على سؤال قائده العسكري المندهش و المستعجب لطلبه……….. ( أريد أن أذهب الى هنالك لأرى ” الحدود ” القديمة قبل زوالها )!…..
ارتسمت تلك المقولة فى ذهنى و أنا أغادر الى السودان فى اجازتى السنوية بعد غياب دام ثلاث أعوام ……….كانت الرحلة مكرسة بشكل محدد لمشاهدة آخر ما تبقى من السودان القديم الذى أصابته القنبلة الأنشطارية التى أطلقها ما يسمون أنفسهم دعاة التوجه الحضارى” الاسلامى ” فدمروا (لخبطوا و ساطوا ) كل ما هو قيم و جميل فى تلك الأرض.

( 1 )
زارع الحقل

أقوم مبكرا يوميا لممارسة هوايتى و هى ” صيد الأسماك “،ساعد على ذلك سكنى قرب نهر النيل ( البحر ).كنت فى مدخلى لشاطئ النيل أمر بجرف صغير لمزارع يقوم فيه بزراعة بعض الخضروات البسيطة مثل القرع،الطماطم،الأسود و العجور…الخ.نمت بينى و بين ذلك المزاع الستينى العمر، علاقة بدأت بالسلام و من ثم تطورت لمعرفة الأحوال العامة وأحوال الزراعة.كنت أتسأل و أنا أبادله الحديث – دون الافصاح عن ذلك -… كيف يمكن لذلك الحقل الصغير تغطية احتياجاته فى هذا الزمن الذى عزت فيه كل الأشياء و أنعدمت ؟!
كنت أشاهده فى عمله الشاق و هو يحفر الأرض،يزيل الحشائش،يعيد مسارات المياه أو ” يحاحى ” الطيورلمنعها من التعدى على محصوله.
فى مرة من المرات سألته هل يمكن شراء بعض الخضروات منه….اجاب بنعم،بالفعل قد قمت بشراء قرع ،طماطم و أسود منه بمبلغ لا يتعدى العشرة جنيهات وفقا لطلبه، و هو مبلغ زهيد مقارنة بأسعار السوق.
بعد مدة من الزمن طلبت منه مرة أخرى بعض الخضروات،بعد حصدها و احضارها رفض استلام سعرها قائلاً( المره دى خليها علينا )……رفضت بالطبع و بعد ” مجابادات ” و أصرار من جانبى طلب فقط مبلغ عشرة جنيهات.أعطيته العشرة جنيهات ثم أضفت عليها عشره جنيهات أخري باعتبار أن قيمة الخضار أكثر من ذلك.حلف مغلظاً أن لا ياخذ أكثر من عشره جنيهات…ثم ذاكرا و هو يتوغل بعيداٍ فى جرفه ( العفو و العافية )!

(2 )
ست ” اللقيمات ”
كانت أمر بقربها و هى تجلس أمام تلك المؤسسة التعليمية تبيع ” اللقيمات ” للطلبه و لرواد الصباح الباكر و هم فى طريقه ل ” تلقيط ” الرزق الحلال الذى أصبح عسيراً،أبادلها تحية الصباح و أنا فى طريقى الى ” البحر ” .عند عودتى بعد سطوع الشمس اشترى منها بعض الليقيمات لاحضاره للمنزل لشاى الصباح.يبدوا أنها لاحظت أنى لا أحضر معى سمكا بعد عودتى من الصيد فقامت بسؤالى ( انت قاعد تقبض سمك )؟!
أجبت ( نعم، لكن السمك الصغير أرجعه للماء ليكبر) …قالت ( مالواالسمك الصغار…… ده ما فيهو شوربه سمحه )!
كنت فى طريقى ذلك الصباح كالعادة ماراً بقربها مصبحا، ردت على التحية ثم سمعتها بصوت خافت ترجوا من أن الله أن أوفق فى الصيد.كانت صاحبة اللقيمات متعاطفة معى فى مطاردة الرزق…..لكنها لم تكن تدرى انى امارس صيد السمك هواية !!

(3 )
مرافق ” ركشة ”
كنت فى طريقى الى سوق أمدرمان مع شقيقتى الصغرى لشراء بعد الهدايا للاصدقاء و الاقارب عندعودتى ،هممت باستئجار ” أمجاد ” أو ” ترحال ” عندما ذكرت لى شقيقتى انه يمكن الوصول الى هنالك عن طريق ركوب ركشه ” طرحه “، و قد كان.
كان الثالث فى الركشه شاب فى مقبل العمرمتواضع الثياب يبدو عليه انه خريج جديد يعمل فى السوق أو باحثا عن عمل.عند وصولنا الى نهاية الرحلة، نزل من الركشة و اعطى السائق أجرة المشوار .يبدو أن سائق الركشة لم يكن يملك المبلغ المتبقى لارجاعه له، عند ذلك أخبر الشاب السائق أن يأخذ الباقى نظير ترحيلنا.نظرت الى شقيقتى و السائق مندهشا و رافضا .رد الشاب بلطف و أدب ( يا خال ما فيها شى ) ثم ذهب…….أيده السائق أيضا ذاكرا لى ( دى ما فيها حاجه…دى بسيطه )!
أجابت شقيقتى على دهشتى ( دى كتير بتحصل فى المواصلات )!!
صاحب الزرع الذى سوف ينزع منه الجرف قريبا لصالح ” اللصوص الكبار ” و المفسدين لاقامة مطعم لبيع السمك المشوى و المحمر،ست “الليقمات ” التى تتعرض يوميا للكشات، ابتزاز شرطة النظام العام لها و قطع رزقها فى احيان كثيره، ذلك الشاب ممشوق القامه مرتفع الرأس الذى يبحث له عن مكان فى الحياة …..
تفكرت متسائلا و ذاكرا لنفسى
( كل هؤلاء يجمعهم شئ واحد ضارب بجذوره فى هذه الأرض، و لن يستطيع هؤلاء الحاكمين العابرين اليوم طمسه، ليس فقط لانهم لا يملكونه و لا يعرفونه، و لكن لأن ذلك الشئ لا يمكن شراءه بالمال أو ارهاب السلاح ) !
[email protected]
1 ابريل 2018

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..