ثورة التغيير وآلية التغيير المرتقب !!

إن المجتمع السوداني بصورة عامة، في تاريخه القديم، كان مجتمعا تقوم حياة المواطنين فيه على قيم إنسانية رفيعة، من شجاعة، ومروءة، وصبر، وكرم، وعفة، إلى آخر هذه الفضائل السلوكية التي توجه حياة المواطنين، وهي فضائل وثيقة الصلة بالمجتمعات القبلية وبالفروسية كإطار أخلاقي.. ولقد لعب التصوف الإسلامي، في السودان، دوراً كبيراً في تعميق، وتأصيل، وتنمية، وتهذيب تلك القيم، إذ أعطاها محتوى دينياً ربطها بالغيب، وجعل لها منهاجاً عملياً يعين على تنميتها وصقلها، لتصبح في اتجاه خلاصة القيم الإنسانية الرفيعة التي جاءت أديان السماء لتحقيقها.. وهكذا فإن التصوف والقيم الموروثة من المجتمعات القبلية هما اللذان حفظا على المجتمع السوداني أصايل الطبائع، وهي طبائع لم تتأثر كثيراً بتيارات خارجية، ولذلك هي لا تزال في جوهرها باقية.. وقد انتشر التصوف في السودان على عهد الفونج انتشارا كبيراً حتى أصبح هو الطابع العام للتدين في جميع أنحاء البلاد.. وقد أثرى الواقع الإفريقي في السودان، التصوف الإسلامي، فجعل له نكهة خاصة، فهو قد أمده ببعض القيم الأصيلة، مثل العاطفة القوية المتأججة، والحس الفني، الذي جعل المواطنين كلفين بالموسيقى والرقص، حتى إنهم أدخلوهما في العمل الديني، في شكل الأذكار الصوفية ذات الطبول، والنوبات، والآلات الأخرى، التي تصحب هذه الأذكار.. وقد جذب ذلك المواطنين للدين، وساعد على انتشاره، وساعد على تعميق، وتأصيل، القيم الدينية، والحس الديني..
وقد كان لقادة الطرق الصوفية، حضورا فاعلا، بفضل تحقيقهم الروحي، فهم بما حققوا من تغيير داخلي في نفوسهم قدموا نموذجا مميزا في التقشف والزهد عن دنيا الناس، وكانوا يتفانون في خدمة الناس بتجرد ومسئولية، فالصوفي في مسيده يعلم الناس شتى صنوف المعرفة والحكمة.. أكثر من ذلك كان يقدم العلاج للمرضى بفعالية ولا يزال الناس بوحي من تلك التجربة، يلجأون إلى بقع المتصوفة يبحثون عن العلاج الناجع الذي يسمعون عنه من أسلافهم.. ثم كان الشيخ الصوفي مدخلا على مجتمعه، فهو الحكيم الذي يلجأ إليه الناس في أوقات المحن خاصة عندما تنشأ الحروب والنزاعات..
وعلى هذا يمكننا أن نقول إن الصوفي كان نموذجا حقيقيا لفعالية التغيير من داخل النفس البشرية، في تأهيل الإنسان ليغير الخارج..
وإذا نظرنا إلى الإنجازات التي أشرنا إليها، وقارناها بثقافة عصرنا، نجد أن الصوفي العارف بالتعليم في خلوته قام بدور وزارة التعليم، وبالعلاج قام بدور وزارة الصحة، وبالوساطات في فض النزاعات قام بدور وزارة الخارجية، يضاف إلى ذلك الدور الذي يقوم به في داخل مجموعته في حفظ الأمن وهو دور وزارة الداخلية، فكأنه “دولة” تكفل الأمن وسائر حقوق المواطنة لجميع مواطنيها على قدم المساواة!!
أكثر من ذلك، يقول الأستاذ محمود إن الصوفية كانوا يفدون الناس من الأوبئة الفتاكة، والفتن، بأنفسهم فالوباء يقع في الناس، فيصاب الشيخ، وبإصابته ينتهي الوباء، أو الفتنة، وقد كانت المناسبة التي قيل فيها هذا الكلام، هي مواجهة نظام مايو الذي ولغ في فتنة الهوس الديني في أخريات أيامه، واتجه ليفتك بكل معارض، وبالمواطنين بحجة تطبيق الشريعة، من أجل تثبيت السلطة، حتى صار شره مستطيرا، فتصدى له الأستاذ محمود بوقفته التاريخية، وفدى الشعب السوداني من شروره في 18 يناير 1985م..
وقد وثق شاعرنا خليل فرح لهذا التاريخ الناصع بقوله:
يا بلادي كم فيكي حاذق غير إلهك ما أم رازق
من شعارو دخول المآزق يتفانى وشرفك تمام !!
فكأنه أشار بعبارة “غير إلهك ما أم رازق” إلى تحقيق التوحيد عند هؤلاء الحذاق، وكذلك أشار إلى الفداء الذي يقوم به الصوفي العارف بنفسه بعبارة “من شعارو دخول المآزق”، والمآزق هي التحديات الكبيرة..

والمواطنون غير المسلمين، في السودان، إلى جانب قوة العاطفة، والكلف بالفن، وهي خصائص أفريقية أصيلة، يمتازون بتعلق شديد بالدين، والنواحي الروحية.. فهم، كما هو الشأن عند الإنسان البدائي بصورة عامة، يعتبرون لكل شئ روحاً، وينطلقون، وفي معظم تصرفات سلوكهم اليومي، من اعتبارات روحية ودينية، وهم كوثنيين أساساً، يقيمون الشعائر الدينية لمختلف المظاهر الطبيعية، ولهم اهتمامات كبيرة بأرواح الآباء.. وهم يؤمنون بإله واحد، يسمونه بأسماء تختلف من قبيلة لأخرى، وبعضهم يعتقدون أن أرواح السلف تحل في زعمائهم الدينيين (الكجور).. والكجور يلعب دوراً هاماً في حياة المواطنين يشابه، إلى حد كبير، دور العارف الصوفي في التصدي لقضايا المجتمع..
خلاصة الأمر، إن لغير المسلمين في السودان استعدادا طبيعياً للتدين، وتعلقاً كبيراً بالقيم الروحية..
وقيم الفروسية هذه التي أشرنا إليها، والقيم الدينية والروحية السائدة في جميع أنحاء السودان، إلى جانب الحياة البسيطة، القريبة للطبيعة والفطرة، كل هذه الخصائص، هي العناصر الإيجابية التي بتهذيبها وتنميتها يتم تجاوز الخلافات، ويتم الانصهار في بوتقة واحدة هي القومية السودانية، وبذلك يتم الحل الحضاري الجذري لمشاكل أطراف السودان المختلفة، بل إن هذه الخصائص الأصيلة هي التي ترشح السودان ليلعب الدور الطليعي في مستقبل الحضارة الإنسانية، في مرحلة الإنسانية المقبلة..
هذا هو تاريخ المجتمع السوداني، في كيف كانت آلية التغيير تعمل في حل مشاكله، وقد رأينا كيف كان التغيير في مجمله يدور حول تغيير داخل النفوس ثم يعبر عن محتواه الحقيقي في التغيير الذي يظهر في الخارج.. لكن نحن الآن خارج ذلك التاريخ الجميل، ولم تعد الطرق الطرق ولا الملل الملل، فقد انحرفت الطرق عن مسار التصوف لأن حكم الوقت أكبر من الطرق، ولم تعد تملك الأنوار التي يعرفها الناس عن تاريخ التصوف، وتغيرت المسارات التي كانت منارات في الماضي، فمن يتمحور داخل مسائد الطرق اليوم فلن يتعلم التعليم المطلوب اليوم، ولن يجد العلاج كما هو في الطب الحديث، وأسوأ من ذلك قد يقع في شرك الدجل والشعوذة، كما أن شيوخ الطرق، في عمومهم، بدلا من أن يفدوا الناس من الفتن كما أشار شاعرنا الخليل، صاروا يؤيدون كل أفاك يستولي على السلطة باسم الدين، وتاريخهم في السودان الحديث خير شاهد على ذلك..
باختصار تحولت الطرق إلى طائفية، يستغل فيها الدين من أجل الدنيا، فهبطت بها الطائفية إلى عهد “الأسياد والأتباع”، بدلا عن “الشيوخ والحيران”!!
والسبب الأساسي في هذا التدهور هو بعد الطرق عن أصلها في النهج النبوي، مما جعلها لا تفهم المطلوب دينا حسب حكم الوقت.. فقد كان النبي الكريم عمدة الصوفية وكان الصوفية في قمة عطائهم يهتدون بهديه ويطبقون سنته في أنفسهم بالصيام والقيام، وهم بما حققوا من توحيد يعالجون قضايا مجتمعاتهم حسب حكم وقتهم بإذن روحي..
وعندما تحقق استقلال السودان، برز قادة الطرق الصوفية في العمل العام وكانت مواقفهم غير مشرفة، كحال الطرق عامة.. ففي جانب الختمية كانت الفكرة المطروحة هي الاتحاد مع مصر، وفي جانب الأنصار كانت الفكرة هي قيام سودان مستقل في تحالف مع بريطانيا، ولم يكن في ميدان الاستقلال التام عن دولتي الحكم الثنائي غير الحزب الجمهوري بقيادة الأستاذ محمود محمد طه، وعندما اجتمعت كلمتهم اتفقوا على وثيقة تطالب بحكومة سودانية في “اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطانيا”.. ولذلك كتب الأستاذ محمود في الصحف ينعى هذه الحالة:
“أسيت للشعب السوداني لأنه شعب بلا قادة، أو قل: لأنه شعب عملاق يتقدمه أقزام احترفوا السياسة في أخريات أيامهم بعد أن أفنوا عرامها في التمسح بأعتاب الأسياد” !!
على هذه الخلفية، يمكن أن ندلف لنتحدث عن الثورتين اللتين حدثتا في السودان- أكتوبر وأبريل.. والثورتان لم تتمحورا حول تغيير من داخل النفوس، وإنما كانت كل واحدة تنطلق من تجمع عاطفي كره الفساد واجتمع على مجرد إزالة النظام الحاكم من غير فكر يهدي التغيير.. ولذلك أجهضت الثورتان، جراء الفشل الذي حدث بعدهما ممن تصدوا للحكم من الأحزاب الطائفية والسلفيين، فقد شهدت كل فترة من الفترتين 64-69 و85-89 دكتاتورية مدنية أهدرت أبسط أسس النظام الديمقراطي، مما مهد لتغييرها، بنظامين عسكريين، بعد الأولى مايو وبعد الثانية الإنقاذ، وهما لا يختلفان عن النظامين اللذين أسقطتهما الثورتان، حتى وصلنا إلى المرحلة الحاضرة..
السؤال هو: هل ما يحدث في الميدان اليوم من مظاهرات سيقودنا إلى بر الأمان أم سيكون تجربة كالتجربتين السابقتين !!؟؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه فيما يلي من حلقات في هذا البحث..

تعليق واحد

  1. يا كاتب هذا المقال من قال ان الصوفيه الموجوده بالسودان هي الدين القويم الله الله انهم ابعد ما يكونون عن الدين والسنه. انهم شرزمه هائمون وهم مرض هذه الامه العضال . اصحوا ايها الناس من نومكم اتركوا الطبول والمزامير عودوا للدين الحنيف وحاربوا الطغاه بكل ما اوتيتم من قوة استعينوا بالواحد الاحد ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..