أخبار السودان

من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية (4)

حول أصول سكان السودان 4

وقدر ابن حوقل الذي كان معاصراً للمسعودي في كتابه (صورة الأرض ص 58 ) عدد الجيش الذي أعده ملك البجة علي بابا ? كما أطلقت عليه المصادر العربية وهي قراءة للاسم البجاوي أولباب كما ذكر ضرار – لحرب المسلين بـ “مائتي ألف ومعهم ثمانون ألف نجيب” وإذا افترضنا أن في هذه الأرقام نوع من المبالغة إلا أنها تعكس واقع قوة الحداربة الضاربة.

وعن تنظيم الحداربة القبلي اتضح أنهم قبيلة كبيرة ذات تنظيم قيادي واجتماعي محكم. فللقبيلة زعامة كبرى ربما مثل ناظر القبيلة الحالي ، ولكل بطن من القبيلة رئيس أو رئيسان ويبدو أن ذلك يتوقف على عدد أفراد البطن، فإذا كان عدد أفراده كبيراً كان لكل بطن زعيمان.

كما أشار ابن حوقل إلى النظام الطبقي الذي ساد مجتمع الحداربة فوضح أن هنالك طبقتين متميزتين، ويبدو من خلال وصفه أن التقسيم اعتمد على الثروة فأطلق على الطبقة الأولى طبقة المياسير وعلى الطبقة الثانية طبقة الضعفاء. وذكر أن طعام المياسير “اللحم واللبن خاصة” وبين أن الضعفاء “يأكلون الوحش كالغزال والنعام والحمار” وبين أنواع الطعام والأعمال التي لا يقربها المياسير فقال: “ومياسيرهم لا يرون أكل الصيد ولا مخالطة آكله ولا استعمال آنية من استجاز ذلك وأستحله، ولا يحلبون فيها ولا يشربون.” فهذه الأطعمة والأعمال خاصة بطبقة الضعفاء.

ووضح ابن حوقل مضارب قبيلة الحداربة الواسعة الممتدة ما بين البحر والنيل، واتضح تنوع مصادر الحياة فيها من الماء والنباتات والحيوان. غير أنه ذكر أن ” لا حاضرة لهم وتكون بلادهم التي تمطر وتزرع وينتجعونها بمواشيهم” وهذا يتعارض مع ما تواتر في المصادر عن مدن الحداربة مثل عاصمتهم مدينة هجر ومدينة سواكن ومدينة عيذاب ومدينة صيحة ومدينة بختة. وسيتم التعريف بهذه المدن بإيجاز لحقاً في هذا الفصل.

ب. الحداربة في المصادر العربية 5 ? 7 هـ
ويلاحظ شح المعلومات المصادر العربية منذ نهاية القرن الرابع الهجري (10 م) وحتى القرن الثامن الهجري (14 م) عن الحداربة بصورة خاصة والبجة بصورة عامة، وحتى ما وصل في هذه الفترة يتصف بالاختصار الشديد وعدم الدقة أحياناً كما سنلاحظ ذلك. ويمكن القول ان المعلومات التي ذكرهت مؤلفو القرنين الثالث والرابع الهجريين مثل اليعقوبي والطبري والمسعودي وابن حوقل وابن سليم هي آخر ما وصلنا من معلومات مفصلة عن قبائل البجة بما فيهم الحداربة.

والسؤال الذي يفرض نفسه هو لماذا قلت المعلومات الواردة عن البجة في تلك القرون – 10 ? 14 م – التي شهدت نشاط المسلمين في العمل في مناطق التعدين، كما شهدت فتراتٍ من نشاط ميناء البجة “عيذاب” كمعبر للحجاج وكميناء تجاري. كما شهدت هذه الفترة ظهور عدد كبير من المؤلفات العربية التي تناولت أحداث المنطقة عاش أغلب مؤلفيها في مصر قريباً من البجة. كان من المفترض أن تؤدي كل هذه العوامل إلى توفر المعلومات عن قبائل البجة ونشاطها في المنطقة، ولكن ما حدث جاء خلاف ذلك.

ويبدو معقولاً أن يكون السبب في ذلك هو عدم اهتمام المؤلفين المسلمين بإخبار البجة، حتى الرحالة الذين زاروا بعض مناطقهم ومكثوا فيها لبعض الوقت مثل ناصر خسرو وابن جبير. فهل يرجع السبب في ذلك إلي انعزال البجة ونهاية صلاتهم بالمسلمين؟ لايبدوا ذلك صحيحاً لأنهم كانوا يشاركون في أعمال التعدين حتى توقف العمل فيه في منتصف القرن الثامن الهجري (14 م) كما ذكر المقريزي في كتابه الخطط (موقع الوراق ص 293) وتظل التساؤلات مطروحة والحذر متطلب فيما يرد عن أخبار البجة في تلك القرون كما سنتعرف عليها.

ففي منتصف القرن الخامس الهجري (11 م) دخل الرحالة ناصر خسرو (سفر نامة ص 118) ميناء عيذاب وذكر أنه “خَلْف عيذاب صحراء عظيمة بها مراعي واسعة وخلق كثيرون يسمون البجة، وهم قوم لا دين لهم ولا ملة ولا يؤمنون بنبي ولا إمام وذلك لبعدهم عن العمران. وهم بسكنون صحراء طولها أكثر من ألف فرسخ.” وذكر أنهم ” ليسوا أشراراً ولا يسرقون … يشتغلون بتربية ماشيتهم … يسرق المسلمون أبناءهم ويحملونهم إلى المدن الاسلامية ليبيعونهم فيها”

ورغم أن ناصر خسرو أقام في عيذاب ثلاث أشهر في منتصف القرن الخامس الهجري (11 م) في انتظار تغير إتجاه الرياح ليسافر إلى جدة إلا أن ما أورده عن البجة جاء مقتضباً وغير دقيق مما يوضح عدم اهتمامه بتقصي إخبارهم، كما إنه لم يشر إلى قبيلة الحداربة أو أي قبيلة بجاوية أخرى.

وواضح أن البجة الذين ذكرهم هنا ? من وراء عيذاب ? بأن “لا دين لهم ولا ملة” هم الحداربة الذين قال عنهم المسعودي قبل نحو مائة سنة “وهم المسلمون من بين سائر البجة” وكان ناصر خسرو الوحيد من بين من المصادر التي اطلعت والتي ذكرت غارات المسلمين على البجة وسرقة أبنائهم وبيعهم رقيقاً مما يقلل من مصداقتها.

ثم جاء بعده الجغرافي المشهور الادريسي في القرن السادس الهجري ( 12م) الذي أورد الكثير من التفاصيل عن سكان وبلاد مملكتي المقرة وعلوة إلا أن ما أورده عن البجة جاء مقتضباً وقال عن بلادهم في كتابه (نزهة المشتاق ص 135) “ليس بأرض البجة قرى ولا خصب وإنما هي جدبة” لم يذكر الحداربة بالاسم، كما تناول نشاط بعض البجة ? ربما كانوا من البليين أو الحداربة ? في جمع الذهب من الصحراء على ضوء القمر. وفي النهاية أورد مادته الفريدة عن البليين. وتبدو الصلة منطقية بين البليين والحداربة ونقيس إذ ذكروا كلهم في نفس المنطقة ووصفوا بالقوة والعدد الكبير، فهل كان البليون أحد فروع نقيس؟

أما المؤرخ المشهور ابن الأثير (القرن 7 هـ ) فقد تناول فقط الحروب المبكرة بين المسلمين والبجة. وأمدنا ابن سعبد في القرن السابع الهجري بمزيد من المعلومات عن سواكن وبالقليل عن البجة فذكر في كتابه الجغرافيا (موقع الوراق ج 1 ص 22) أن ” العلاقي هي مدينة ملك البجا” وربما قصد بذلك أنها حاضرة أحد فروع الحداربة الذين يسيطرون على المنطقة. أو مدينة أحد زعماء البليين القبيلة القوية الذين كانوا يشاركون الحداربة الحياة في المنطقة.

وعن سواكن يواصل ابن سعيد: “وحول جزيرة دهلك من جنوبها وشماليها جزائر مسكونة وخالية راجعة لصاحبها، وربما يحارب عليها مع صاحب جزيرة سواكن وهو من البحار [التجار] وهو مسلم، وله ضرائب على المراكب وإنما تعدل المراكب إليه من بر العرب والحجاز واليمن لأن ذلك أرفق لها. وسواكن صغيرة جداً، أقل من ميل وبينها وبين البر الحبشي مجاز يقطع بالسباحة، وبين سواكن وعيذاب في البحر نحو سبع مراحل. وفي غربي سواكن على نيل الحبشة بلاد الباكه [التاكة] وهم أخوة الحبشة الذين على هذا النيل.

أحمد الياس حسين
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..