لعنة سيزيف

المشهد العربي في مجمله يثير الحيرة.. فالثورات التي انطلقت لتكتب واقعاً عربياً جديداً، تحولت إلى مناحة ولم تحقق لا الحرية ولا العدالة الاجتماعية، وما زال الصراع محتدماً بين القدامى والقادمين الجدد.. فالدولة العميقة كرست عبر سنوات طويلة واقعاً يصعب الهروب منه، وأفرزت مصالح وأوجدت طبقات ما زالت تقاتل من أجل بقائها واستمراريتها، وترفض التنازل للقادمين الجدد، بل وتستخدم كل الوسائل والأساليب لتفشل الخطط الجديدة حتى يبقى الواقع الأعرج يرقص بساق واحدة.. والطبقات التي تجذرت عبر السنين تفلح في صنع الكمائن ونصب الفخاخ للقادمين الجدد الذين أسكرتهم نشوة الانتصار وتوهموا أن الأمور قد دانت لهم، وهم ما زالوا في بداية الطريق.
الخدعة الكبرى التي لا يريد الجميع الهرب من فكاكها هي أن التأهيل والممارسة والقدرة على إدارة دفة الأمور ليست بالأمر الهين، والذين توهموا أن الأمر لا يحتاج كثير عناء كانوا واهمين، فالشعارات والهتافات ومحاولة بيع الوهم للجماهير المتعطشة للتغيير لم تعد تجدي.. فالمسألة أعمق من ذلك بكثير.. فالهتاف وحده لا يسقط صنماً ولا يبدل واقعاً، ولابد من توفر الرؤية والقدرة.. الرؤية في معرفة المطلوب وإمكانية الوصول إليه باليسر والجسارة، والقدرة على تبديل الواقع ببدائل أكثر اقناعاً وقبولاً لدى الجماهير.. وعلينا أن نعرف ابتداءً ماذا نريد وكيف نحقق ما نريد، فالغضب وحده لا يصنع الثورة وكراهية الآخر لن توفر القدرة على الصعود إلى القمم والبقاء والاستمرار هناك.
ما نراه الآن على المسارح العربية هي بروفات ساخنة لانتفاضات أسقطت رموزا، ولكنها لم ترق لمستوى الثورات التي تقتلع واقعاً وتستبدله بآخر يشكل انطلاقة حقيقية باتجاه الحرية والعدالة والتنمية.. فقد خرجت الجماهير ولكنها عادت خالية الوفاض.
وهذا يذكرني بما حدث في السودان في أعقاب ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985.. فالثورة انطلقت ولكن المخاض أسفر عن لا شيء، فالنهابون والقوى التقليدية التي امتهنت الانتظار حتى تهدأ الأمور عادت لترث كل شيء ولم يبق في سمائنا سوى الهتاف المشروخ والحلم الكسيح الذي تناثر في فضاء واقعنا ولم يترك لنا سوى الندامة.
ما هي المحصلة الأخيرة لانتفاضات الربيع العربي؟
لا أحد يجزم بالقول أن أياً من تلك الانتفاضات قد حصلت على الدرجة الكاملة 10 على 10، وأنها ما زالت تصارع جيوش القدامى الطامحين في العودة إلى مقاعد السلطة، لتدور الساقية من جديد وتتسع أبواب النهب والسلب وإفقار الأوطان، لتنطلق ثورات جديدة تؤول للمصير ذاته.. وهذا يذكرني بمصير سيزيف أو لعنته، عندما حكمت عليه الآلهة بحمل الصخرة إلى أعلى الجبل، وفي كل مرة عندما يوشك على بلوغ النهاية تتدحرج الصخرة من جديد إلى أسفل.. وليحفظنا الله من السقوط.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. ما اروع هذا المقال وما اعظم ما يجسده من مفاهيم وما بعكسه من تجارب.لقد أوجزت فأبدعت. يا استاذ بابكر . ان حالة الفوضى التي تشهدها كل من مصر واليمن وسوريا وليبيا وتونس ، وما سيشهده السودان ، كلها تؤكد ان التغيير لا يأتي بالصراخ ولكنه يحتاج الى الفكر … ومن المؤسف ان البلاد العربية تعول كثيرا على ممارسات الصراخ وتعجز تماماً عن اعمال الفكر السديد. وكما قلت في ختام مقالك ، فإننا نأمل الا ندمن السقوط بما نحمله من اثقال على ظهورنا . لك خالص المودة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..