إفضاء

كرسيان أخضران في حديقة المقرن
يتباهيان بخضرتهما الزاهية !!؟….
على النجيل السندسي الذي
يقومان عليه.
بينهما طاولة صغيرة ، ينسدل عليها مفرش مشجر بألوان مبهجة .
كان الوقت أصيلاً …..
الشمس تتآفل صوب المغيب ،
تنسج بأشعتها الذهبية الواهية معزوفة الإنحدار نحو السقوط !!؟….
تتكاثف الظلال وتبدأ في إسدال أستارها الرمادية الآخذة في الإظلام ، بينما شرع رواد ” كازينو”
حديقة ” المقرن ” يتوافدون في تواتر…..
لم يمض طويل وقت ، حتى ضج المكان بحركة الحياة !!؟….
“النوادل “يعبرون بين الممرات وأرجاء وأركان الحديقة في خفة وفقاً لطلبات الزبائن …..
الكرسيان الأخضران في عزلتهما
الموحشة ، بلا أنيس !!؟…
أمواج النيلين ، قبل إقترانهما يختلجان في إرتعاش !!!!…..
كأنهما يخشيان هزة الإنتشاء ، لدى لحظة الإمتزاج والفناء في الآخر !!!.
ثريات النيون الملونة ، تساقط ضوءها
الحالم الشفيف ،على مكونات المكان.
عند مدخل الحديقة يقف ” عطا ”
متلفتاً وعيناه تجوسان بين وجوه الرواد بحثاً عن ” حكيم ” ، يتقدم
متوغلاً ثم ينعطف يساراً حيث ينتحي الكرسيان الأخضران جانباً قصياً من أرجاء الحديقة في عزلتهما الموحشة ، ” عطا ” يملأ صدره بالهواء المخضل بندى الحديقة الذي أعاد له شيئاً من حيويته السليبة بفعل رهق
الحياة وتكاليفها !!؟….
أخذته قدماه أخذاً ، وأقعدتاه على
أحد الكرسين الأخضرين ، فظل الآخر خالياً ينتظر قدوم ” حكيم ”
صدى ثرثرة الرواد تصل الى سمعه
مقرونة بضحكاتهم الجوفاء التي تمتزج بهسهسة أوراق الشجر مع
إختلاج أمواج النيلين اللذان يطويان
بين أعماقهما سراً مبهماً ، فيتخلق من كل هذا تجليات النوازع البشرية و صراعاتهم الوهمية من أجل قبض
الريح!؟. ، مخزون البوح يكاد يهدم
المتاريس ويجرفها جرفاً ويفيض !!…
” عطا ” في ركنه الركين قابعاً في إنتظار ” حكيم ” كأنه ينتظر ” جودو ” لا يجرؤ على الإفضاء !!؟….غ
– لمن يفضي ؟
والأمر يبدو جد خطير !!!….
– هل ثمة من يصغي إليه ؟
الإفضاء والإصغاء …..
– من يفضي ومن يصغي ؟…
الكل يريد أن يفضي ولا أحد يريد أن يصغي !!!!…
كبا القمر وإلتمع النجم …
الغيوم بحر من الإظلام …
الإنطفاء يعجم قناة الألق ….
والكرسي الأخضر لازال خالياً
يثرثر ولا يصغي !!!…. كل الناس الذين حوله يخرجون ما في أجوافهم من كلام ويقذفونه في وجهه ، ولا يتورع “سيد الدكان “ولا الحلاق ولا سائق سيارة الأجرة أن يبثونه معاناتهم في سبل كسب العيش … حتى ” روضة ” قرينته ، لا تكف عن البوح و أيضاً الصغيرة ” ندى ” هي الأخرى ، ثرثرتها بلا إنتهاء ومطالبها لا تنتهي !!؟.
ظل ” عطا ” في حالة كمون منتظراً
يرصد الغادي والرائح ….
يتسلل بصره بين أسجاف العتمة الى ما خلف أسيجة الحديقة ولكن
سرعان ما يرتد وهو حسير !!!….
* * *
الوقت غير الوقت …
المكان ربما لم يتغير كثيراً …
كان ” عطا ” طليق اليدين …
يداه تروحان وتغدوان خلفاً و آماماً ،
ضابطاً لإيقاع خطوه المتسارع
الشوارع تبدو فسيحة وتكاد تخلو
من السابلة …
الأشجار على جانبيها تتسامق ،
وتتشابك أفنانها لتنسج من تداخلها
شبكة وارفة الظلال …
وقتها الزمن كان متسعاً !!؟…
البوح كان متاحاً …
ثمة من يصغي …
الفعل كان يسبق القول !!؟…
تتناسل الفكرة وتلد فعلاً …
قبل أن تصدر الكلمة !!؟…
* * *
في ذلك اليوم ، من ذاك الزمان ، أقام طلاب جامعة الخرطوم”ندوة” لمناقشة مشكلة الجنوب ، تدخلت آلة القمع ، فقُتل القرشي ( شهيدنا الأول ) … إنداح الحدث ……
في وسط “ميدان أبوجنزير” إجتمع
رهط من سواد الناس ، صوت يعلو ،
يرفده صوت آخر ثم تنهمر الأصوات
وتهدر الجموع الغفيرة ، يتشكل الحدث ، يكبُر ، يتخطى سور الجامعة ، يعبر شارعها الشهير ،
يتكور ككرة النار ، يتدحرج بطول
شارع النيل ، يصطدم مرة أخرى بآلة القمع ( الأحداث الجسام ، يصنعها من يضع نفسه في وجه المدفع !!!؟؟…)
* * *
رفع ” عطا ” عينيه صوب القادمين
ثم أسقطهما على الكرسي الخالي،
إصطدم بصره بالفراغ … أحشاء الفراغ تتخايل له كأنيس ، فيهم بمناجاته ليبثه شكواه ، لكن يبدو كل
شيئ باطل وقبض ريح !!؟…
بغتة ينصرف ” عطا ” بكل جوارحه
الى صدى وقع أقدام مقبلة صوبه ،
يتأهب لملاقاة القادم ….
تشرئب أذناه وتطولان لإلتقاط النأمة
وفك رموزها ، لكن الأقدام تعبره ،
دون أن تعيره إلتفاتاً ….
إنتقل ” عطا ” الى الكرسي الآخر ليلاحق أدبار العابر حتى توارى خلف الأشجار …..( الأحداث الصغيرة كلحاء الأشجار تخفي اللباب ) !!!؟؟؟…….
كان ” عطا “كغيره من صانعي
الأحداث الصغيرة ، ينتظر وقوع الحدث الجسيم مقروناً بالفعل النبيل !!؟ …..
إصطدم الشارع السلمي برجال الأمن ….
إنجرف نظام ٰقُدت ثيابه من قُبلٍ غير
مبكي عليه !!!؟….
* * *
علا العشب شطآن الوديان وإنبسطت السهول سندساً….
لكنها ظلت مرعى بلا رعيان !!؟؟…..
كان الرعيان يحيطون بتجار الكلام
سُيس ٍالخطاب وتياسرت الرعية ، وتوسطت وتيامنت وتطرفت وتولد داء
الخلاف وبدأ سباق المسافات الطويلة
صوب “تورتا” السلطة !!!؟؟؟….
طال تباين المواقف بين الفرقاء ، حتى صارت المواجهات بلا ملامح ،
وأصبحت الفرادة والخصوصية عملة
صعبة في سوق سوداء. * * *
على حين غِرة أعتم المكان ….
ظل ” عطا ” كالأعشى ، يمد يديه
متخبطاً ، يتحسس بها سبيلاً للخروج !!؟….
لم يكد يخطو خطوتين ، حتى تعثرت
قدماه على قوائم الكرسي الخالي ،
وقبل أن يستوي واقفاً … بددت الثريات الكابية أستار العتمة الدامسة ، إستوى جالساً على أحد
الكرسيين وقبع منتظراً قدوم الذي
سيأتي دون أن يعلق بذهنه توصيف
محدد بأبعاده !!؟…. المهم أن يأتي ” حكيم ” أو غيره ، فقط أن يجيد الإصغاء ولا يكتفي بالحديث عن نفسه ( كنت وعملت وتركت وسأفعل !!… )
تذكر أنه لم يطلب شيئاً !!…
طرقع بأصابعه عدة مرات دون أن
يجد إستجابة …
كرر فعل الطرقعة مجدداً …
تحول بكل كيانه الى سليل الفراديس
يستلهم من أغواره خبايا التاريخ
أخذ في محاولة فاشلة يكوّر الأزمنة
في قبضته ويسقطها على واقع الحال !!؟؟….
إلتفت ليجد النادل بزيه المميز … ينتصب أمامه ، كان قد نسي مراده
وأراد أن يصرف النادل ، لكنه إستدرك قائلاً
– أي شيئ ؟
إستدار النادل دون أن ينبس ببنت
شفه كأنه قد إعتاد على أمثال هؤلاء
الزبائن المهووسين !!!…
ظل ” عطا ” منتظراً وقد غاب عن ذهنه كل ما حوله ….
كان فقط يصغي لصدى أمواج النيل
المتكسرة على رمال الشاطئ …
ترن كطبول آتية من أقاصي مساقط
الينابيع !!؟…….
إنحنى وأمسك بحزمة من عشب النجيل وإنتزع جذورها إنتزاعاً
إشتم ذرات الطين العالقة بها ، مستنشقاً رائحة الطمي ، عاركاً حفنة منه بين أنامله ( ما أطيب هذه
الأرض السمراء ) !!؟…
ممتثلاً للأمر الواقع ( في هذا الزمن
الأغبر ترتهن الأوطان الكبيرة مفاتيحها لدى حملة الأبواق
والواقفون خلف مكبرات الصوت وماسحي الأخفاف وملمعي واجهات القابضين على أزمة الأمور !!!؟؟……
يبقى ” عطا ” هناك كالسمكة التي
أٌخرجت قسراً من ملتقى النيلين …
الفارس القديم …
جُرد من دروعه …
كٌسر سيفه …!!؟…
فظل كخبال المآتة يحرس سنابل القمح من أسراب الجراد والطيور المغيرة !!؟؟…
* * *
الكرسي الأخضر تلتمع حباله البلاستيكية بين الحين والآخر وفقاً لإهتزازات الثريات المتدلية من أفنان
الأشجار ، لكنه يظل خالياً موحشاً ،
بينما ” عطا ” يرسم في خياله لوحات زاهية الألوان و مذهبة الأطر
غير أنه سرعان ما يدلق عليها بقعة
سوداء (ما أبعد السماء من الأرض)
مازال بصره معلقاً بمدخل الحديقة ،
وداخله يمور متنازعاً بين القنوط
وبصيص نور آتٍ !!!…
أبصر من بعيد ” حكيم ” ….
بهرول نحوه وكلمات الأسف تسبقه
لم يهتم ” عطا ” كثيراً بمرراته
فقط كان يرقبه وهو يقتعد الكرسي
الأخضر الخالي ( الآن فقط ، ثمة من يفضي وثمة من يصغي ) ، ثم مردفاً في همس لنفسه ( الخواء…
الإمتلاء… ما أبشع الخواء !!؟… )

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. من فيض عمق المعاني التي تنداح عبر تلاوة وتأمل هذه اللوحة الفنية النفيسة..خلت نفسي داخل إطار الحدث…وانتابتني نشوة العائد الي الوطن كما رسمته الطاقة الانفعالية الوجدانية ابان تلك الفترة الخصيبة الزاهية من عمره…
    ليتها تعود …
    ويعود للوطن شموخه الممتلئ زهوا ببطولاته…وقدرته علي المواجهة ولا يأبه لتمزق قميصه من قبل وهو في مواجهة التقتيل..!!
    كم أنت جميل…وأنت تطوف بنا وتنتقل بنا عبر الة الزمن الي عهد أكتوبر الأخصر..في صورة أنيقة ..تستثير الوجدان سعادة وشموخا مستحق بماضي يطرب بذكره من عاشه أو اطلع عليه من كابد وقاسي الام واحباط فترة الغثائية (ان جاز التعبير)التي تعيشها الأمة الأن…
    هنيئاً لنا باعتلائك صهوة الادب فاعبر بنا حواجز الإحباط الحالي الي فضاءات الأمل بعودة الوطن الي مجده التليد…
    ودمت…

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..