الخرطوم وجوبا. . صراع الموارد ونذر المواجهة !..الخرطوم: جوبا تريد أن تغير نظام الحكم في السودان عن طريق ورقة النفط!

الخرطوم: محمد محمد عثمان:

بدا فرانسيس اكيج العشرينى والذى يعمل فى المنطقة الصناعية بأمدرمان مرتبكا ، وهو يتناول وجبة الافطار مع زملائه الذين يمازحونه ماذا سيفعل بعد شهر مارس المقبل وهو الموعد الذى حددته السلطات بالسودان للجنوبيين فى الشمال لتوفيق اوضاعهم بعد هذه الفترة، والا سيتعبرون اجانب بعد ذلك. وسبب ارتباك اكيج هو ان جميع خططه التى وضعها لمواصلة تعليمه فى المدارس وخاصة اللغة الانجليزية ستروح ادراج الرياح ، ذلك انه لم يفكر قط فى احتمال ان يعود الى الجنوب خلال هذه الفترة الوجيزة. وفى المقابل يبدو ضو البيت عبد الرحمن الخمسينى والذى يعيش مع بعض ابنائه بلاهوية فى قرية «فريق الشوك» المتاخمة لحدود دولة الجنوب جهة ولاية النيل الابيض ، متوجسا من مستقبل ابنائه الذين تركهم فى الجنوب بعد ان اضطر الى النزوح شمالا قبل نحو 7 أشهر تاركا املاكه ومتاعه وحصاد عمره فى المجهول. وسبب توجس عبد الرحمن يعود اساسا الى الاخبار المتواترة عن توتر العلاقات بين الشمال والجنوب ووجود حشود عسكرية على الحدود وهو مايعنى عدم قدرته على العودة منطقة «الكويك» حيث ترك كل شئ. ومابين ارتباك اكيج وتوجس عبد الرحمن ينظر نحو 40 مليون شخص هم عدد سكان السودان وجنوب السودان الى تطورات الاوضاع بين بلديهما، الذى كان قبل بضعة أشهر بلدا واحدا، بقلق شديد وبخوف أشد!
اقتصاد منهك ومغالاة سياسية:
منذ ان انفصل الجنوب عن الشمال فى يوليو الماضى ، وبشكل سياسى ، ظل النفط الذى ينتج 70% منه من حقول موجودة بالجنوب هو الرابط الرئيس والحيوى بين البلدين الجارين، بالرغم من ان النيل ظل يجرى من الجنوب للشمال منذ بدء الخليقة ولم يشفع له ذلك فانقسم البلد الواحد. وتعتمد الدولتان بشكل اساسى على هذا الذهب الاسود الذى يقدر بنحو نصف مليون برميل فى اليوم ، وليس هنالك اى مداخيل اخرى للاقتصاد فى البلدين فى ظل تهالك المشاريع الزراعية فى السودان الذى كان يعتمد على الزراعة قبيل اكتشاف النفط فى منتصف تسعينيات القرن الماضى. وبقرار حكومة الجنوب الذى اعلنت فيه وقف تصدير النفط عبر الشمال وجعلته يمكث فى باطن الارض حتى يؤسس لبنية تحتية خاصة به بعد اتهامه للخرطوم بسرقة نفطه كما ذهب بذلك رئيس دولة الجنوب سلفاكير ميارديت. وقال وزير النفط بحكومة الجنوب ان بلاده ستتجه لموارد اخرى غير البترول وانها ستعتمد على قروض من دول صديقة لها حتى تتجاوز أزمتها الراهنة. اما الخرطوم فقالت انها لن تتأثر بخطوة الجنوب بوقف النفط وانها اتجهت للزراعة وسيتضرر الجنوب وحده كما ذهب بذلك وزير الاعلام الناطق باسم الحكومة عبد الله علي مسار خلال تصريحات صحافية. غير ان منظمة «قلوبال ويتنس» المعنية بالصراع على الموارد والفساد حذرت الخرطوم وجوبا من ان اقتصاد البلدين معرض للانهيار وان اى ايقاف للنفط سيؤدى الى عواقب وخيمة للاوضاع المالية وصادرات البلدين وشركائهما على حد سواء. وقالت المنظمة فى بيان لها تلقت «الصحافة» نسخة منه «ان على البلدين التوصل الى اتفاق سريع وعادل وشفيف لتفادى توتر اكبر بين البلدين». وقالت دانا ويلكينس المسئولة فى المنظمة التى تتخذ من لندن مقرا لها ان البلدين فى حاجة الى الشفافية الكاملة فيما يتعلق بانتاج النفط ومراحل نقله وتسويقه»واضافت قائلة «انه فى عدم وجود الشفافية فيما يتعلق بكل عمليات البترول وفى ظل عدم وجود جهات محايدة فانه من الصعوبة بمكان التأكد من حجة اى طرف».
كما دخل الاتحاد الافريقى ، الذى يرعى المفاوضات المتعثرة بين البلدين على خط الأزمة باعرابه عن قلقه البالغ من تطور الاوضاع بين السودان وجمهورية جنوب السودان. وحذر رئيس المفوضية جين بينق في تصريح صحافي له أمس من ان القرارات الآحادية من الدولتين، من خطر «تدمير» فرص تحقيق الوصول الى اتفاق للتعايش بين الدولتين، كما ان تلك القرارات اعادت الطرفين الى حافة الانهيار. وذكر الاتحاد الافريقى ان قرار حكومة السودان باستقطاع جزء من نفط الجنوب، ورد جوبا باغلاق ضخ النفط قد يلحق اضرارا جسيمة بخط أنابيب النفط في الشمال. ورأى ان هذه التدابير من الجانبين قد تلحق أضرارا جسيمة بالوضع الاقتصادي في البلدين.
ويتخوف اقتصاديون من تفاقم الاوضاع الاقتصادية بين البلدين خاصة وان الطرفين لم يضعا بدائل بعد فى ظل اعتمادهما الكامل على النفط ، هذا فضلا عن غلاء اسعار المواد الاستهلاكية فى البلدين خاصة المناطق الحدودية مع احتمال اغلاق الحدود بشكل نهائى. ويرجح الخبير الاقتصادى محمد الجاك من هذه الفرضية بقوله انه فى مثل هذه الحالات ينشط المهربون فى كلا الدولتين ويعملون على تكديس البضائع وتخزينها. واضاف يقول « هنالك سلع اساسية سيشتد الطلب عليها مثل المحروقات والسكر والمواد التموينية الاخرى مثل الزيوت وغيرها». ويمضى قائلا: « اعتقد ان القرار كارثى بمعنى الكلمة وعلى الجانبين النظر الى هذا الوضع بمسئولية كبيرة لأنه سيقود الى مترتبات اقتصادية سيئة جدا».
نذر المواجهة :
ازاء هذه التطورات الجديدة ، وتنفيذ جوبا لوعيدها بالوقف الفعلى للبترول فى بعض المربعات التى تقع فى حدودها الجغرافية ، وفى ظل تعثر المفاوضات بين البلدين حول النفط فى اديس ابابا وعدم قبول الجنوب للمقترحات التى تقدمت بها الوساطة الافريقية ، فان كثيرين يخشون ان تعود رائحة الحرب مرة اخرى لتتسيد الافق بعدما وقفت لسنوات طويلة لاسيما ان المفاوضات بشأن القضايا الامنية لم تنجح لعدم وصول المفاوضين الجنوبيين الى اديس ابابا اصلا. ويضاف الى ذلك ان التوتر وصل مداه ، بعد ان اتهم رئيس حكومة الجنوب بنفسه الخرطوم بسرقة نفطه وقوله انهم غير مستعدين مرة اخرى ليتم استعمارهم من قبل الشمال، على حد قوله. ويؤكد القيادى فى حزب المؤتمر الوطنى ، وأحد قادة التفاوض بين الشمال والجنوب سابقا امين حسن عمر ان الخرطوم لاتريد الحرب مع جوبا ولاتفكر فيها ولكنها فى ذات الوقت مستعدة لها فى حال اجبرت على ذلك. ويقول عمر الذى كان يتحدث الى «الصحافة» عبر الهاتف ان الحكومة السودانية لن ترهن مستقبل شعبها بالبترول ولا بالجنوب موضحا بالقول «اذا كان الجنوب يريد لي ذراعنا لكى نستجيب لمطالبه فهو واهم ، كما اننا ندرك انهم يحاولون تغيير التركيبة السياسية فى الخرطوم من خلال النفط . . ونحن نعرف كيف نقرر فى امورنا وعشنا لسنوات طويلة دون نفط ، ونريد ان نتقاسم الموارد بيننا ونريد ان نتطلع لعلاقات جيدة ولكنها يجب ان تكون عبر الاحترام المتبادل وليس الاتهامات بالسرقة». وبنفس الطريقة يرد القيادى بالحركة الشعبية لتحرير السودان – الحزب الحاكم فى الجنوب اتيم قرنق عندما سألته «الصحافة» عن احتمالات عودة الحرب بين البلدين فى ظل هذا التصعيد حيث قال ان جوبا لاتسعى لها ولايوجد عاقل يريد ان يدخل الحرب من نفسه. ويضيف قرنق الذى كان يتحدث عبر الهاتف من جوبا ان دولة الجنوب مستعدة لكل الاحتمالات بما فيها الحرب. قائلا: «اذا اجبرنا على الحرب فاننا مستعدون لها ، وجيشنا على اهبة الاستعداد ، والحرب فى حال قيامها لن تكون كما فى السابق ولكن نكون المتضرر الوحيد ، ولدينا مقاتلات يمكن ان تقصف الخرطوم نفسها». كما ان مساعد رئيس الجمهورية، مسؤول ملف الجنوب، العقيد عبد الرحمن الصادق المهدي، كان قد حذر من ان اية حرب قادمة بين السودان وجمهورية جنوب السودان «ستكلفنا على الاقل 100 مليار دولار خلال العشر سنوات القادمة» ورأى ان امام الحكومة خيارين، اما اقامة علاقات حسن جوار ودية مع دولة الجنوب او تركها لتكون «مخلب قط لاسرائيل» . واشار عبد الرحمن الذي كان يتحدث امام لفيف من الباحثين والسياسيين بمركز دراسات المستقبل الاسبوع الماضى ، الى ان هناك عوامل كثيرة لاتزال ترشح العودة الى مربع الحرب الاولى، ابرزها مشاكل الحدود وابيي والمشورة الشعبية والبترول، لكنه بالمقابل اكد ان الحكومة لديها «كروت قوية» يمكن التعامل بها من بينها التعامل السياسي الجيد، وتحويل البلدين لاسواق لمنتجات الاخر. ويرى المحلل السياسى ، ورئيس تحرير صحيفة «ذى سيتيزن» الناطقة بالانجليزية نيال بول ان احتمال عودة الحرب بين الشمال والجنوب وارد بعد ما تحول الصراع مباشرة حول النفط. وقال «للصحافة» خلال اتصال هاتفى ان النفط هو عصب الحياة ، وكما ان هنالك حروبا بسبب المياه فان الخرطوم وجوبا يمكن ان تعودا للحرب فى حال استمرار الوضع على ما هو عليه موضحا « الوضع لايحتمل اى مزايدات اخرى بعد ان نفذت حكومة الجنوب تهديدها وقامت باغلاق الانابيب. . والشعب فى الجنوب سيعانى وكذا الحال فى الشمال وربما يؤدى الى قيام ثورتين شعبيتين فى البلدين» ،ويرى بول ان الحكومتين يمكنهما ان تحركا الجيوش فى المناطق الحدودية، واضاف قائلا: «اصلا يوجد توتر على الحدود وهنالك اتهامات متبادلة بشأن دعم التمرد حاليا ويمكن ان يزداد الدعم لكلا الطرفين وان يتحول الامر برمته الى حالة سيولة يصعب السيطرة عليها ونعود الى ايام سوداء لانريد لها ان تعود».
طريق الخلاص:
ومع ازدياد فرضيات نذر المواجهة، بين الدولتين الجارتين اللتين عاشتا لسنوات طويلة جدا فى دولة واحدة، فان هنالك مقترحات تقدم بها عدد من صناع القرار من كلا الجانبين، لتفادى اصوات الرصاص مرة ثانية، ولبناء علاقات جديدة بين الشمال والجنوب. وفى هذا الصدد يقول مدير جهاز الامن والمخابرات السابق، الفريق صلاح عبد الله قوش خلال ندوة الاسبوع الماضى بمركز دراسات المستقبل، ان العلاقة مع الجنوب ستكون مفتاحا لتحسين العلاقات مع المجتمع الدولي، خاصة اميركا واوروبا، وطالب بتصميم خطاب للمجتمع الدولي من خلال تحسين العلاقات بالجنوب،ورأى ان فشل دولة الجنوب سيكون نقطة سالبة تجاه العلاقة مع المجتمع الدولي.
منظمة «قلوبال ويتنس» تطرح عدة مقترحات لاعادة ترتيب العلاقات فيما يتعلق بملف النفط حيث تدعو الى ضرورة اعمال «مبدأ الشفافية فى كافة مراحل انتاج النفط بما فيها المحاسبة مما سيفتح الباب امام سلام دائم بين البلدين». ويدعو القيادى الجنوبى ووزير الخارجية الاسبق لام اكول الى مناقشة كافة القضايا المعلقة بين البلدين كحزمة واحدة بدلا من تجزئتها. وقال اكول خلال تصريحات صحافية بجوبا « ان على قيادة البلدين الالتفات الى القوى الاخرى فى المعارضة والاستفادة من تجاربها وخبراتها فى حل هذه القضايا. . واعتقد ان كل الموضوعات يجب ان توضع فى سلة واحدة ليتم مناقشتها فى مائدة مستديرة».
اما الاتحاد الافريقى فيرى ان الروح التى سادت بين الطرفين خلال الاستفتاء والانفصال يجب استعادتها بين قيادة البلدين لتجاوز العقبات الحالية بحسب البيان «ان الروح التي أدت الى استفتاء سلمي قبل عام، ومن ثم انفصال ودي قد تلاشت سريعا»، واضاف البيان ان اللجنة الافريقية برئاسة ثامبو امبيكي، وجيران البلدين، الى جانب الامم المتحدة والصين، يمكنها ان تجسر الهوة بين الخرطوم وجوبا، من خلال الاقتراح الذي تقدمت به الوساطة.
نظرة للمستقبل:
وينتظر كثيرون ، ومنهم اكيج وعبد الرحمن ، ان يخرج لقاء القمة بين رئيسى البلدين عمر البشير وسلفاكير ميارديت يوم الجمعة المقبل بالعاصمة الاثيوية اديس ابابا وعلى هامش القمة الافريقية ، بقرارات تفضى الى تهدئة الاوضاع اولا لتمهيد الساحة للتفاوض من جديد. ولكن نيال بول يشكك فى نجاح القمة الرئاسية فى تحقيق اى اختراق على مستوى الأزمة بقوله «سلفاكير يواجه بضغوط مكثفة من قبل القيادات السياسية والتى دفعته دفعا الى اتخاذ قرار ايقاف النفط. . ولا اعتقد انه مستعد بالتضحية بمكانته كرئيس جديد ومؤسس للدولة عندما يتراجع عن قراره الذى اتخذه». اما المحلل السياسى والاستاذ بجامعة جوبا جمعة كندة فيقول ان الرئيسين ربما يستطيعان احداث اختراق حقيقى للأزمة. ويرى خلال اتصال هاتفى مع «الصحافة» ان الوسطاء سيفعلون كل ما من شأنه تقريب وجهات النظر ، مضيفا « اعتقد ان الصين سترسل وفدا على مستوى عال للقمة لتقريب وجهات النظر ، واقناع الجنوب بان يعيد فتح انابيب النفط مرة اخرى. . الصين لاتريد حربا فى المنطقة وتريد لاستثماراتها فى الاستمرار فى كلا البلدين وهى لن تتهاون فى هذا الموضوع».
وبغض النظر عما يمكن ان يخرج به لقاء القمة وتجاوز الأزمة الراهنة باى وقت من الاوقات ، فان اسئلة اخرى ستطل برأسها مرة اخرى على شاكلة هل ستعود الأزمة من جديد بين البلدين؟ وهل فى مقدرة القيادة الحالية – فى كلا الطرفين – قيادة الدولتين الى بر الامان؟ ويجيب على الاسئلة الدكتور عبد الله علي ابراهيم عندما يرى ضرورة ان ننظر الى هذا الامر بواقعية وباعتباره فعلا سياسيا لايحتمل الانشائيات والعاطفيات المبالغة والاسراف فيها. واضاف ابراهيم وهو يتحدث «للصحافة» قائلا « كنت اعتقد واقول ان العلاقة بين الشمال والجنوب كانت مثل العلاقة بين الزوجين المتشاكسين وبالتالى تجد المجازات الدينية على شاكلة امسكوهن بمعروف او فارقهون باحسان محلا لها فى تحديد هذه العلاقة» . ويضيف موضحا « اعتقد انه الان يجب ان نفكر بشكل مختلف لننطلق من جديد لنبنى علائق حقيقية بين البلدين». وتنبأ بذهاب الحكومتين فى البلدين اذا لم تستمعا الى اصوات الناس ولأنهما – فى سياق اخر – ليس لديهما شرعية انتخابية وانما يستندان على شرعية اسلامية فى الشمال وثورية فى الجنوب. بل ان ابراهيم ذهب الى اكثر من ذلك عندما قال انه متفائل بعودة الوحدة بين الخرطوم وجوبا من جديد ، بعد وقت طويل!

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..