السودان وحيرة التاريخ

لقد بلغ السودان مرحلة من التردي سياسياً واقتصادياً وحتى اجتماعياً تستوجب العلاج السريع داخل غرفة العناية السياسية والاقتصادية المكثفة!!
سياسياً تنحصر قضية السودان ـ أو تم حصرها ـ في زوايا معينة، أحزاب تقليدية تستحضر الماضي وهي أشبه بتحضير الأرواح الذي لم يعد مقنعاً!!
والأمر الآخر أو الزاوية الأخرى التي حصر فيها السودان هي زاوية العسكر، والتي دائماً ما تعلن أنها لفترة مؤقتة تستتب فيها الأمور ويعود العسكر إلى ثكناتهم!! يجد المراقب للأحداث في السودان نفسه في حيرة. وهذه الحيرة ليست حيرة المراقبين فقط بل هي حيرة كثيرين، وربما حيرة للتاريخ نفسه في نظام ظن أتباعه أنهم يعرفونه وقد تبيَّن لاحقاً أنهم لا يعرفون شيئاً عنه!!
مجرى الأحداث في الظاهر لا يكفي لكشف ما يدور تحت السطح، فالظاهر رتيب راكد ومتردٍ، وهذه السمات التي تغلب على اتخاذ القرار في البلاد.
لكن ماذا يجري في العمق، هل هناك تفاعلات تتسارع حركتها وتتصارع عواملها بحيث لا يراها أحد، رغم أن آثارها ما تلبث أن تطفو على السطح.
كثيراً ما يظن أعداء العسكر قصر عمرهم ولكن تجارب التاريخ تقول إنه ليس هناك ما هو أقدر على طول البقاء من نظام يتصوره الناس انتقالياً ومؤقتاً!!
أقل الأنظمة العسكرية عمراً نظام عبود فقد حكم ست سنوات، وهذه المدة تعادل كل السنوات التي حكمت فيها الأحزاب ديمقراطياً!!
سقوط نظام المرحوم عبود لم تكن أسبابه اقتصادية بل كانت سياسية تمثلت في قضية جنوب السودان.
أما سقوط نظام المرحوم نميري فقد تكالبت عليه أسباب عدة منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأخلاقية!!
ولا أتحدث عن سقوط النظام الحالي الذي لن يكون سقوطه كسابقيه إنما سقوط أمة جمعها دين واحد ولغة مشتركة وثقافة وفرقتها العنصرية والقبلية المنتنة!!
لقد أصبح السودان الأكثر قابلية للتفكك منه للوحدة، وما كنت أظن أن الأمراض يمكن أن تكون سياسية، ولكن في حالة السودان أجده وقد أصيب بحالة نادرة من مرض التوحد السياسي!!
فالذي يحكم السودان لا يهمه إلا بالقدر الذي يمتد إليه نفوذه، لذا لن تجده نادماً على خروج ثلث مساحته من نطاق سيادته، أو مساحات احتلتها دول الجوار من أراضيه!!
الأحزاب التقليدية ـ أحزاب تحضير الأرواح ـ وقد تقوقعت في الماضي، وجدت أن ذات الماضي الذي عاشته ما عادت قواعد اللعبة تستوعبه بل لفظته، وهذا هو أحد أسباب تشظي هذه الأحزاب، بل أن شبابها كان صيداً سهلاً لأحزاب الإسلام السياسي والأحزاب العقائدية وحتى الطرق الصوفية نالت جزءاً غير يسير!!
ولنقف عند أحزاب الإسلام السياسي التي وجدت المجال مفتوحاً بعد أن انهارت الأحزاب العقائدية الأخرى كالشيوعية والبعث. الأحزاب الإسلامية التي تقول إن الإسلام دين التجديد ــ وهي قولة حق ــ نجدها هي الأخرى قد سلكت ذات طريق الأحزاب التقليدية، تنظر لماضيها دون استشراف للمستقبل، وهي بذلك تمارس عملية تحضير الأرواح التي تمارسها الأحزاب التقليدية!!
تدعو للتجديد بذات القيادات القديمة التي مازالت تمارس عملية تحضير الأرواح، وإذا ظهرت فكرة جديدة أسرعوا إلى وئدها، بل يستتاب من يقدمها حسبما تنص شريعتهم!!
من هنا بدأت مأساة السودان ممن حكموه سابقاً ويحكمونه حالياً، فالذي حكم من قبل إنما يظن أنه يحكم بالوراثة، أما من يحكم الآن فإن ما يؤمن به هو أنه يتصرف في ملكية خاصة!!
وهذا هو الشق الأساس في مأساة السودان!!
حال الداخل هذا لفت نظر الخارج الدولي لهشاشة الداخل فأخذت أطماعه تتزايد تجاه السودان، أما الداخل فقد استخدم الخارج الدولي ساتراً لفشله الداخلي الذي نسبه إلى الحصار والعقوبات وغير ذلك!!وطمع الخارج الدولي في الداخل السوداني تم بوضوح شديد بفرض اتفاقية السلام التي وقعها السودان دون أن يدري تفاصيلها والتي فصلت ثلث مساحة السودان متمثلة في جنوب السودان!!
إن العمل الخارجي يجب أن يكون في خدمة الداخل، والسياسة الخارجية مطلبها النهائي الداخل، فالسياسة الخارجية ما هي إلا انعكاس للداخلية، ولكن هل كانت هناك سياسة داخلية ملموسة تعبِّد للسياسة الخارجية للعمل للصالح الداخلي، وكما ذكرت أن الداخل قد حيَّر الاتباع والمراقبين وحتى التاريخ نفسه!!
السياسة الخارجية تهدف إلى التأكيد للخارج الدولي على استقلالية السودان ووحدة أراضيه وحدوده الآمنة المطمئنة، وأن الداخل لن يسمح للخارج الدولي بالعمل على تفتيت السودان!!
إن التوجه إلى الخارج يصبح غير ذي جدوى إن لم يكن في محصلته النهائية في صالح الداخل. نشاهد ونقرأ في أخبار التلفاز والصحف عن وفود عرمرم سافرت إلى الخارج بلا مردود، وهو فقط ظهور على شاشات التلفزة وصور على الصحف مليئة بالابتسامات!!
إن لم يكن النظام حقيقة مدركاً إمكانات الداخل فليذهب إلى الخارج فإنه كان يوظف غير الموجود في طلب غير الممكن، الخارج يتعامل بحسابات القدرة وتحركه المنفعة والربح، وعليه تكون هذه الزيارات لتغطية القصور الداخلي بالظل الخارجي، وهذه نتيجتها صفر، وفي أغلب الأحيان تأتي سلبية تحت الصفر في المحصلة النهائية.
يعيش السودان أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية، أبرز هذه الأزمات هي الاقتصادية التي جرت خلفها بقية الأزمات، كان احتجاج المواطنين على الزيادات في أسعار المحروقات والمواد الغذائية والإستراتيجية منطقياً، ولم يتصدَ النظام إلى هذه الاحتجاجات إلا من منظور أمني، والقضية ليست بأية حال من الأحوال قضية أمنية إنها قضية أوضاع اجتماعية عميقة الأبعاد!!
الإدارة العليا للبلاد لم تكن لتعطي الأبعاد الاجتماعية دوراً بل اعتبرت أن الوسيلة الأمنية هي سبب هدوء الأوضاع، وربما يشجع الدولة على فرض رسوم ضرائبية جديدة أكثر قسوة،لا أظن أن أحداث سبتمبر قد مرت دون أن يتم بحثها خارجياً، من عناصر إقليمية ودولية، وهذا الاهتمام والبحث يفرضه موقع السودان الجيوبوليتكي من جهة ومن جهة أخرى موارده الطبيعية إذ يعتبر السودان ثاني أغنى دولة من حيث الموارد بعد روسيا، وقد ذكرت أن السودان يمثِّل خط الدفاع الإستراتيجي للشمال الإفريقي الذي يمثل الثقل العربي في العالم، كما أنه يطل على غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي والبحر الأحمر. هذه مميزات إستراتيجية وجيوبوليتيكة قلما تتمتع بها دولة في العالم!!
وضع كهذا يجعل السودان ذا أهمية قصوى بالنسبة للقوى الدولية التي لا تريد أن تدخل في تجارب فاشلة كالتي دخلتها في الصومال وأفغانستان والعراق. فأمريكا لا تريد التدخل وبريطانيا لا تستطيع، ولكنهما يستطيعان مد الفصائل المتمردة بالسلاح والدعم كما فعلت مع قرنق، والوقت المناسب لهذا التصعيد هو ما بعد الاحتجاجات الشعبية على الضرائب المفروضة!!
أعتقد أن الوضع السياسي السوداني يضع مصير السودان في المحك، يكون أو لا يكون، وأن أية محاولة يقوم بها النظام كتشكيل حكومة جديدة تشارك فيها كل الأطراف السياسية، لا يعدو كونه مساحيق تجميل يمكن إزالتها بمجرد رشة خفيفة بالماء!!
إن النظام الذي بقي ربع قرن لن يتخلى عن قياداته رغم عوامل التعرية السياسية التي جرت عليها في ربع القرن الماضي، يمكن اختيار وزراء جدد وشباب وخلافه، ولكن القيادات لن تتأثر رغم أن دورها في القيادة لم يتعدَ دور تحضير الأرواح الذي لم يعد مقنعاً بعد مرور ربع قرن عليه!!
السودان لا يحتاج لتحضير الأرواح ولا يحتاج إلى أن يجترع ماضياً دون استشراف مستقبلي، السودان يحتاج لبنية تحتية توفر له الماء للزراعة والمرعى وتوفر له الكهرباء لتنير له طريق التنمية، والذين يحكمون الآن لا حاجة لهم في إنارة، فكل ما يقومون به يدبر في الظلام.. أما أحزاب تحضير الأرواح فغاية استخدام المياه لديهم أن يتم تقنينه في شكل محاية!
إن حاجة السودان تتلخص في إقناع المواطن البسيط بتقديم الخدمات له.. ماء نظيف يشربه علاج يدفع عنه المرض.. وتعليم يؤهله ليكون أداة بناء للوطن.. وهذا ما فشلت فيه الأحزاب التقليدية والتجديدية التي لا تجدد الجوهر بل المظهر، والذي يحتاجه السودان الآن هو حكومة تبني ما تهدم، وما تهدم لن يبنيه السياسيون الذين هدموه!!
المطلوب بناء أو إعادة بناء السودان اقتصادياً، وربطه ببعضه البعض اقتصادياً، فالعزلة هي سبب التمزق الأساس، وخطورة العزلة الاقتصادية بين ولايات السودان وخاصة الطرفية منها، أن تعاملها اقتصادياً مع دول الجوار أقوى من تعاملها مع الداخل السوداني، وشيئاً فشيئاً يمكن أن نسمع دعاوى بالانضمام إلى الدولة المجاورة بدلاً من السودان!!
المواطن في أية بقعة من السودان يجب أن يشعر بالانتماء له، والانتماء يُقوى بالمنفعة الاقتصادية، وهذا سبب نزوح أهل الشمال إلى الشرق والغرب وأهل الغرب إلى الشمال والوسط.. وكل هذا بسبب المنفعة الاقتصادية.
كيف سيبقى السودان وكيف يقوى الانتماء إليه وهو بلا اقتصاد، رغم وجود وزارة مالية لا تفكر في موارد السودان الغنية، إنما اقتصر نظرها حصرياً على جيب المواطن الفارغ!!

د. هاشم حسين بابكر
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لن يعير المرضي بداء الحماقة بالا لهذه الوصفة؛ و يا لها من حكمة:
    لكل داء دواء يستطب به * إلا الحماقة أعيت من يداويها

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..