ما بين الثريا والوحل… هناك دائماً فرق: في وداع مانديلا

كثيرٌ من الناس توسدوا كرسي الحكم في عالمنا الثالث وقليلون منهم من ترك هذا الكرسي ذو الوهج اللعين طواعية. بين النوعين مسافة تبعد بين السموات العلى ووحل المستنقعات. فهناك دائما فرق.

ديدن عالمنا التعيس أن من يعتليه لا يغادره إلا محمولاً على نعش: من جرت رياحه وفق ما يشتهي ورغم أنف شعبه تشيعه عربات تجرها أحصنة وموسيقى عسكرية جنائزية وطلقات تملأ الكون ضجيجاً. ومن تعس حظه وسعد شعبه يموت وحيداً في منفاه القسري بعد أن أُلقى به في المزبلة. بين هذا وذاك إستثناءات: قليلٌ من شيعه شعبه بالدموع وأقل القليل من تجاوزت مراسم تشيعه شعبه وجيشه ليذرف عليه العالم بأكمله دموع الحزن والعرفان. بين الفئتين بون شاسع من ملايين السنوات الضوئية… فهناك دائما فرق.

إستدار الزمان دورته ليطوي صفحة من صفحاته الخوالد.. صفحة وأي صفحة:

مكث في السجن ربع قرن من الزمان أو يزيد. كان يكفيه توقيع صغير في ركن قصي من تعهد مكتوب ليغادر السجن الكئيب فرفض. توسلوا له ليفعل فرفض. آثر السجين الذي يحمل رقم 46664 أن يبقى حراً وأن يحبسهم خلف قضبانه. علَّم الأنسانية معنى أن تكون حراً في سجنك. هل منكم من يعرف جيمس كانتور؟ بالطبع لا. السيد جيمس كانتور هذا كان رفيقه وومن أعتقلوا معه لكنه خرَّ صريع خوفه فأطلق سراحه وبرئ من كل التهم لكنه سقط نكرةً منكرةً في آخرِ جُبٍ في مزبلة التاريخ فالزبد دوما يذهب جفاءاً وما ينفعنا يمكث خالداً في الأرض. ألهم الثائر الفريد من كان معه في السجن الصمود والصبر. أستذكر رفيقه في السجن “أحمد كاثرادا” كيف حدثتهم أنفسهم الأمارة مراراً وسنوات السجن السبع والعشرون تزحف ببطء أن يوقعوا وثيقة التعهد وينجوا بأنفسهم من هذا الجحيم لكن سرعان ما يستجمعوا قواهم ويلعنوا شيطان ضعفهم عندما تلتقي أعينهم بشعاع الصمود المتدفق من عيني مانديلا. بين جيمس كانتور ومستنسخيه المنتشرين في عالمنا ومانديلا ورفاقه بعد المشرقين…… فدائما هنالك فرق.

خرج من سجنه منتصراً حتف أنفهم وكان في مقدوره الإنتقام إلا أنه علمهم معنى أن تتسامى فوق الضغائن فأطلق مشروعه الخالد “الحقيقة والمصالحة”. كان يكفى من أذنب في حق الشعب أن يواجه الناس جهراً بالحقيقة معترفاُ بذنبه أمام التاريخ لينال الصفح. فهل يقدر على ذلك من سامونا سوء العذاب وقد كادت شمسهم أن تغرب على عين حمئة. شتان وشتان فبينهما بعد المغربين.. فهناك دائماً فرق.

عندما تمكنت من رفيقة نضاله وحياته “ويني مانديلا” روح الإنتقام وراحت تسقي جلاديهم من ذات الكأس لم يسامحها. فارقها من دون رجعه فالمناضلون لا يساومون في مبادئهم. قارن ?يا هداك الله- بينه وبين من يحيلون رفيقات حياتهم للمعاش الإجباري ليخلين الساحة لصف القادمات الجدد مثتى وثلاث ورباع “جهراً” و”عرفا” ناهيك عن الخلائل. المقارنة حتماً لا تجوز فبينهما بعد الثرى والثريا.. فهناك دائما فرق.

وبرغم ذل العنصرية بين أبيض أوربي غازٍ ينال ما يشتهي وأسود أفريقي أصيل في أرضه يعيش على هامشها لم ينتقم ولم يقلب الآية. سعى لدولة يعيش فيها الجميع تحت سماء “المواطنة” تلك الكلمة السحرية التي تمكن من إنزالها على أرض الواقع. صنع من التنوع “الأبيض حقيقي البياض والأسود” مزيجاً فريداً لدولة تقفز في مراتب التقدم يوما بعد يوم. أما نحن فصنعنا من طيف اللون الأسود درجات يتم فيها تصنيف الناس على درجات سلم المواطنة الجديدة حيث يتعالى “الأسود الفاتح” المتوهم البياض على “الأسود الغامق” وفي كل سواد. جمعَ شتات قومه فشتتنا سواد قومنا وشطرنا أرضنا. قابل الظلم ب”الحقيقة والمصالحة” فرفعنا في وجه بعضنا السلاح. حقن دماء قومه بينما سالت دماؤنا أنهارا ونحن القائلون “فلترق كل الدماء”. نجح في إمتحان الإنسانية ورسبنا أصفاراً تناطح العدم.

طبت يا “ماديبا” وتباً لنا…… فبيننا وبينك دائما هنالك فرق.

طارق احمد خالد

الجمعة 6/12/2013

تعليق واحد

  1. تبا لهم الذين ضيعونا ليس لنا وكما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لابنة حاتم حين فك اسرها: لو قال ابوك لااله الا الله لترحمنا عليه

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..