بَسْـمَةٌ في ظُـلْـمَـةٍ حَـالِــكَة ..

أقرب إلى القلب:

قال الإمام الصادق المهدي، بعد أن عاد مؤزّراً بجائزة “قوسي” للسلام التي مُنحت له مع آخرين في مانيلا عاصمة الفلبين: “إنها بسمة في ظلمة سودان الأحزان”..
وأقول أنا: إنها بالفعل بريقٌ التمع في نفقٍ ظلمته حالكة. إذ فيما الإظلام يستشري، ويرسل أستاره تحاصر أضواء الكواكب، تتخفّى الأقمار إلى حين، وتنزوي الأنجم في مساراتها، ولكن تبقى السماء على صفائها، ويبقى للأرض طيب أنسامها، في انتظار التحوّل أن يُعيد الأشياء إلى سجيتها الأولى، والفوضى الطارئة إلى نظامها السرمدي المعتاد.
ولك عزيزي القاريء أن تملأ خياشيمك من هواء التفاؤل قدر ما تستطيع، وأن تُمتّع بصَرَك بالنصفِ الملآن من كوب الحياة، فلا يشغلك النصف الفارغ إلا مِن كل شيء قبيح متهالك لا يستساغ.
أطالع في مراصد عالمية ما يرد عن بلادي، فيقف شعر رأسي أسفاً وانزعاجا. كيف تكون البلاد الموعودة على مرّ عقود طويلة، لأن تكون سلّة غذاء العالم العربي وربّما الأفريقي أيضاً، فتكون آخر هذا اليوم، مِن بَين أكثر بلدان العالم جوعا؟ من بين بلدان العالم التي تجاوز عددها مائتي بلد بكثير، نحن البلد الثالث في قائمة المَسغبة. ولنا أن نسأل وربما عرفنا الإجابة وتعامينا: من أورثنا هذا اليُتم المُسغِب، فكأنّ الآية الكريمة جاءت إلينا حصرا: “أو إطعامٍ في يومٍ ذي مَسغبة” .أهي أيّام المَسغبة نحياها الآن، أم هيَ توهّم واهمين ؟
(2)
احتفل الناس في “مانيلا” عاصمة الفلبين بمنح جائزة “قوسي” لأناس مُميّزين، كان بذلهم لافتا على مستوى بلدانهم وعلى المستوى العالمي، وبينهم الإمام حفيد الإمام. ذلك أمرٌ طيبٌ أنْ ينال رجل دولة سوداني تكريماً على مستوى عالمي خارج بلاده. لنا أن نتيه فخرا. على أن الأمر يقف على نقيضِ واقعٍ ماثل، يرى فيه الآخرون بعين الظلم أو عين الرضا، بلداً فاشلا أو بلداً آيلاً إلى عتبات الفشل الذريع، هو بلد ذلك الرّجل المُكرّم.
عدّد الإمام في كلمته الرصينة بعد أن عاد من الفلبين، أنّ السودان يقف في ضفّة معزولاً، لا يستجيب لمقتضيات الحوكمة العالمية، بمستواها الرسمي الذي تعبر عنه الحكومات في المحافل الدولية، ولا على مستوياتها الأخرى اللصيقة بالمجتمع المدني. فيمَا تتماثل قيَم الحوْكمة العالمية ومعاييرها، تجدنا في صممٍ وبكمٍ وعمَى، ولكنّه في واقع التقييم، هو استخفافٌ له ثمنه، بل واستهتارٌ كُلفته عالية. يكفى ما نرى من وجودٍ أممي غريب يقضم من سيادة الدولة، ويكاد يقوم بواجب الحراسة والأمن في أطراف البلاد التي فشلنا في إنهاء النزاعات فيها، وقد كنّا من أوّل البلدان التي خرجتْ من ربقة الاستعمار أواسط أعوام القرن العشرين.
كنّا مثلاً، لم تحتذِ به البلدان الأخرى في منطقتنا الأفريقية فحسب، بل ومثلاً بنَتْ عليه وزارة الخارجية البريطانية التزاماتها وتوجهاتها حول حق تقرير المصير لشعوب وقعت تحت إدارتها قبل الحرب العالمية الثانية، واعتمدته وزارة المستعمرات البريطانية في سياساتها لمنح ما بقي لها من سلطة كولونيالية على أقاليم وبلدان سيطرتْ عليها “فيما وراء البحار”. كانت بلادنا في نظرهم “أكاديمية غير رسمية” لتخريج حكّام بلغوا من الرشد درجات أهلتهم بعد إنجاز مهامهم الكولونيالية في السودان، ليكونوا حكاماً في نيجيريا، أوفي تنزانيا أوفي محميّات الخليج التي صارت فيما بعد دولة الإمارات المتحدة. أحدّثك عن كولونياليين كبار مثل “ماكمايكل” و السير”دونالد هولي” و ك. ك. ك. هندرسن..وكثيرين غيرهم، اكتسبوا خبراتهم في السودان وقد تركوه سالماً متماسكاً فحاق بنا الفشل الذريع في إنهاء نزاعاتنا، وتداعَى العالم لنصرة بلادنا بما يشبه ولاية الكبير على القاصِر الذي لا يُميّز.
(3)
احتفى الناس في “مانيلا” بأيقونة سياسية، رفعوا له الرايات لكونه رجل دولة مسلكه جدير بالاحتذاء، فيما دولته باتتْ كالأجرب المنبوذ في مجتمع الأصحاء. بشّر الرجل بمجتمع ينعم فيه بنو وطنه بحريات تكفل كرامتهم، وهي مما ألزمتنا به المواثيق العالمية، فإذا نحن أبعد الناس التزاما بشرعة حقوق الإنسان، تلك التي صاغها ممثلون عن كافة الثقافات والكيانات السياسية والفكرية في العالم منذ عام 1948، مستصحبة ليس فقط اليهودية والمسيحية والإسلام، ولكن أيضاً الكونفوشيوسية التي شاعت في الصين البعيدة.
في قائمة أقل البلدان احتراما لحرية التعبير وحرية الرأي، احتلت بلادنا موقعاً متقدماً تحسدنا عليه الصومال الشقيقة. في قائمة الحريات الصحفية نلنا قصب السبق، وكأنا من حرصنا على ذلك، عمدنا أن لا ينافسنا بلدٌ آخر. ولقد أفصحتْ بعض قياداتنا العليا أن يكون للحريات مكانها السّامي، وأن ينال القلم احترامه والرأي قدسيته، غير أنّ الممارسات والتطبيق، جعلا من تلك التوجيهات كلاماً خاوياً على عروشه، والحريّات الموعودة أندر من خلٍّ وَفٍ، كما في المثل.

(4)
فيما يُقزّم الآخرون من قامة الوطن، ويتحمّس ذوو الغرض وأصحاب الأجندات لتشويه ملامحه، ويتبعهم الغاوون من وراء البحار ومن أعماق المحيطات، فإن الإمام ? اختلفنا مع طروحاته أم خالفناها- يرفع من قامة الوطن بمقدارٍ يُعيد العِزّة التي كادتْ أن تُهدر، والكرامة الوطنية التي أوشكتْ أن تتهرّأ. ولعلّ المقارنة ستكون ظالمة إن عقدناها بينه وسوداني ذائع الصّيت أجاز جائزة مِن حُرّ مالِ مؤسساتهِ، تُمنح سنوياً لأرشد حاكم أفريقي كلَّ عام. للأسف لم يفُز بالجائزة أيّ رئيسٍ أفريقي في العامين الأخيرين. وربّما لن يصيب السودان نصيبٌ من الجائزة، إلا إذا عدَّل القائمون على أمرها معاييرها من الحكم الرشيد إلى الحكم البئيس. بطريقٍ غير مباشر، أسهمتْ جائزة الحُكم الرّشيد المحجوبة في إبقاء الصورة الشائهة لأولي الأمر الأفارقة على حالها، ولهم أن يتحملوا تبعات أفعالهم التي فيها يعمهون. ساهمت الجائزة المحجوبة في تقزيم القادة الأفارقة، أما الإمام فقد رفع تكريمه لقامة وطنٍ شقي بفعل أبنائه.
التهنئة لرجل قامة، لا يرى الوطن أقلّ قامة منه وكفى. .
==
الخرطوم ? 5 ديسمبر 2013
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الصادق هو من أضاع هذا البلد بحبه وتكالبه المفرط على السلطة وقد اتيحت له فرص عديدة مارس فيها الحكم لكنه فشل فشلا ذريعا وكان سـببا لمعظم الكوارث التي حلت بهذا البلد ومع ذلك يوجد كثير من البسطاء والسـذج يجلونه يعظمونه من غير حياء ومنهم كاتب هذا المقال..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..