عبد الله الطيب .. العلامة الذي ظلم نفسه ..

بسم الله الرحمن الرحيم
في منتصف ستينيات القرن الماضي اصدر الأستاذ حسن نجيلة مجلة “القلم” التي لم تعش طويلا, حشد لها في عددها الأول نخبة ممتازة من الكتاب العرب اذكر منهم الكاتبة المصرية الدكتورة عائشة عبد الرحمن “بنت الشاطئ” ومن المواضيع التي لفتت نظري في المجلة موضوع لأحد الكتاب اللبنانيين اسمه “الحوراني” لا أذكر أسمه الأول. و كان عنوان الموضوع “أبعد من السودان”. ذكر الكاتب في مقاله أنهم في صغرهم كانوا يعرفون معظم نماذج الأجناس العربية إلا النموذج السوداني و لكنهم كانوا يسمعون أمهاتهم عندما يضقن ذرعا من تصرفاتهم وشيطنتهم يصحن في ضجر((الله يصرفني عنكم و يرميني في السودان)). فارتبط السودان في أذهانهم بالبعد والإبهام. كتب الحوراني انه وبعد الحرب العالمية الثانية ظهر على السطح موضوع تقرير المصير، و أن وفدا من السودانيين ذهب إلى الأمم المتحدة لعرض قضية السودان، حينها بدت صورة سودان وادي النيل بالظهور. وفي زمن بعد ذلك عقد مؤتمر للأدباء العرب في بيروت وكان من ضمن الوفود وفد من السودان. وفي حفل الاستقبال دخل اثنان من الوفد السوداني، شاب وشابة. فاستقبلهم منظم الحفل وصاح في الحضور:( أقدم لكم الشاعر السوداني الكبير فلان). فتبسم الشاب في أدب وخجل وقال:( معذرة يبدو أن المدام نسيت الشاعر بالفندق) وجلس. قال الأديب الحوراني:( وعندما أنتظم المؤتمر اكتشفت أن الشاب أديب أدهش الحضور بحديثه وعلمه .. ودهشت أنا لماذا لم يعرف نفسه عندما التبس على أمر تقديمه في حفل الاستقبال. و بمرور الزمن توثقت علاقتي بالسودانيين وعرفت من خصالهم أنهم يخجلون من تقديم أنفسهم أو قل أنهم يأنفون من تسويق مقدراتهم إن صح التعبير). تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ موضوعاً للدكتور طه حسين كتبه في صحيفة الجمهورية المصرية ضمن مواضيع أخرى جمعت في كتاب بعنوان ((أدباؤنا المعاصرون)) في طبعته الثانية عام 1959. كان الموضوع أو المقال عن ديوان الدكتور عبد الله الطيب ((أصداء النيل)). كلما قرأت هذا المقال تجاذبتني الظنون. فان قلت شهادة فقد فاقتها، وإن ظننتها مجاملة لا أجد لهذا الظن مسوقاً. فالدكتور طه حسين لا يلقي القول على عواهنه عندما ينقد ويحلل ويدقق. فملكة التركيز عنده من بصيرة هي أقوى من البصر، واطلاعه ودراسته العميقة للأدب العربي القديم مهدت لها دراسته في الأزهر. ثم إنه درس فنون النقد وعلومه، وتاريخ الآداب والفلسفة في الجامعات الفرنسية وحاز أعلى الدرجات. أما نشاطه و إسهاماته ودراساته الأدبية فقد أهلته لعمادة الأدب العربي. و من كل ذلك يجيئ نقده و تحليله قوياً صادقاً واميناً. كما أن ليس هناك ما يدفعه دفعاً لمجاملة شاب سوداني تجاوز في ذلك الوقت الثلاثين بقليل، وفي موضوع اختلف عليه الأدباء وما زالوا، ألا وهو موضوع الحداثة وما تبعه من تجديد في الشعر العربي. ذكر الدكتور طه حسين في بداية مقاله أن شعر الديوان جديد كل الجدة ولكنه مع ذلك قديم ممعن في القدم. فمواضيعه يألفها الناس ولا تنبو عنها طباعهم. إلا انه اختار لها من الأساليب لا يذوقها إلا الأقلون الذين يذوقون الشعر القديم جداً، وأمعن في هذه الأساليب كأنه خلق لها وكأنها خلقت له. و يستطرد الدكتور طه حسين حتى يقول “و العجيب من أمره أنه وفق من ذلك إلى أروع ما يتاح لشاعر أن يبلغه من الإجادة والإتقان. و أعجب من هذا أنه طوع الحضارة الحديثة للغته القديمة أو طوع لغته القديمة لهذه الحضارة الحديثة، فلاءم بينها ملاءمة لا تحس فيها نبواً او اعوجاجا”. لم يلحظ طه حسين تصنعاً أو تكلفاً في شعر عبد الله الطيب بل وجد فيه جزالة في اللفظ والأسلوب تنساق له انسياقاً، بل هي من طبعه وذوقه وبيئته ونشأته البدوية. عزيزي القارئ انظر إلى هذا القول الذي تعدى حد التقريظ إلى الشهادة المؤكدة ((إني لا أعرف معاصراً عربياً تعمق مثله في دراسة الشعر العربي و أوزانه وقوافيه ودقائقه و موسيقاه. وقد درس هذا كله و أوفى دراسته و أشملها في كتاب ضخم يقع في جزأين عظيمين هو المرشد لفهم أشعار العرب و صناعتها)). لقد استعذب عميد الأدب العربي شعر عبد الله الطيب وأحبه ورضي عنه ولكن كما يستعذب شعر جرير و يرضى عنه. و قد أوصى الأدباء وصية قال فيها((و من حق كل مثقف في الأدب العربي أن يقرأ هذا الديوان فسيجد فيه متعة لا شك فيها و روعة قلما يظفر بها في شعر معاصر و لكنه محتاج دائماً إلى أن يكون المعجم قريباً منه)). و قال:-“لو كنت شاعراً لما سلكت طريق شاعرنا الأديب لأني أوثر أن أصل إلى قلوب الذين يقرأونني وأذواقهم” ولكن يا دكتور ما ذنب عبد الله الطيب إذا كانت القلوب و الأذواق لا تسمو صعداً كما سما هو؟. لا أريد أن أخوض في لماذا يكتب الكاتب؟ و لمن يكتب؟ و بأي لغة يكتب؟. و قد يكون هناك بعض اختلاف بين الكاتب و الشاعر عندما يكتبان. ليس هذا هو موضوع المقال والمجال لا يتسع له. لم يتكبد عبد الله الطيب عسراً ليبلغ حد هذا النبوغ و النضج، فقد نبغ ونضج وهو في عشرينيات عمره، و كان أمامه من الزمن ما هو كفيل بأن يجعل مكانته الأدبية والعلمية تسير بها الركبان, و يكون له فضل الريادة والزعامة في الأدب العربي. قد يكون المرء عالماً ولا يكون أديباً. وقد يكون أديباً ولا يكون عالماً. ولكن عبد الله الطيب كان عالماً وأديباً ومعلماً. كان عليماً بالتراث الشعبي السوداني من شعر و مديح وقصص وأحاجي و ألف فيها و لكنه لم يكن مكتفياً بالمحلية منكفئاً عليها عرف الآداب الغربية كما عرفها أهلها ولكنه لم يفتن بحداثتها، ينقاد إليها انبهاراً كما انقاد لها آخرون. ولكنه عزف عنها موقفاً واختيارا. رجل كهذا كان لا يستعصى عليه غمر كبريات المجلات الأدبية العربية بسيل من الإنتاج الوفير كما فعل من هم أقل درجة منه في العلم. و ما كان يستعصى عليه المشاركة مع العلماء في مؤتمرات الآداب و الفنون والإستشراق و الإستغراب في مواضيع له فيها رأي أصيل. و لكنه لم يفعل كما كنا نرغب له ان يفعل. من منا من المتعلمين من لم يقرأ كتاب الأيام لطه حسين ولا يعرف كتاب المرشد. و من منا من لا يعرف عبقريات العقاد و دواوينه ولا يعرف دواوين عبد الله الطيب. من من الكتاب العرب من لم يجمع إنتاجه الأدبي و العلمي وحتى أوراقه الخاصة وأحاديثه في مجلدات تعرف “بالمجموعات الكاملة” ومؤلفات الدكتور عبد الله الطيب لا نجدها في مكتباتنا ناهيك عن مكتبات البلاد العربية إن الكتاب في البلاد العربية يلهثون وراء الشهرة و يتحينون الفرص لبلوغها، و ربما افتعلوا الخصومات السياسية والأدبية ليكونوا دائماً في دائرة الضوء في حين إن شهرة الدكتور عبد الله الطيب الحقيقية لم تتجاوز قلة من علماء اللغة العربية و أدبائها وتلامذته و مريديه ثم جمهرة السودانيين الذين فسر لهم القرآن الكريم بلغتهم التي يعرفونها . لقد ظلم الدكتور عبد الله الطيب نفسه و ظلمنا نحن الذين نبحث عمن يبث فينا الأمل في زمان تفخر فيه كل أمة بحصادها.
[email][email protected][/email]
هكذا خلقنا نحن السودانيون
نكره الأضواء ، وتظل “الأنا”
السودانية متوارية خلف الغيوم
بينما تتضخم لدى أشقائنا الآخرين
كل مبدعينا لا ذكر لهم بين من هم أقل
شأناً منهم !!؟….
من من العرب يعرف” التجاني يوسف
بشير “كما يعرف أبو القاسم الشابي”
مثلاً ، وهلم جرا
يا لك من كاتب أجاد فأرج موضوعا مفيدا أشهد أني لم أقرأ مثله في رصانة اللغة وفصاحتها مما يليق بأن تكتب مثله عن البروف الطيب . وأوافقك تماما أن البروف لم يف نفسه حقها ولم ينتج الانتاج الذي كان يمكن أن يقوم به .فقد كان ذا ملكة وعلم ومقدرة.
موضوعك جميل ولكن يقولون ان فلانا ظلم نفسه اي خسر العاقبة وليس الدنيا او قلل من شأن نفسه كما رميت له!