محاولة لاغتيال الرقم سبعة 7

*(إذا بدأ الإنسان بقناعات فسيصل إلى شكوك،
أما إذا بدأ بشكوك فسيصل إلى قناعات..).
-فرنسيس بيكون-
.. إن البوابات السبع التي غصّتت برموزها، بعد أن خطا الأب المحترم آدم خطوته الأولى، وثنّى ثمّ ثلّت على هذه الأرض، وتبعته خطوات ذراريه، وكان الذرء الأول الذي ملأته دهشة الوجود، هذه الدهشة الناجمة عن طفولة التجربة، التي لم يتأسّس فيها التراكم المعرفي بعد، فاصطدم ذلك الذرء بالليل والضياع والغربة والاعتساف والقهر وأخيراً بالموت، فأخذ يبحثُ عن بوّابةٍ ما، لخلاص ما، غائم، غير واضح…، وانهالت الرؤى والتخمينات، وما يلوح في مطاوي الروح من صُوَر، ونجم عن ذلك السّد الوجوديّ بوابةٌ من أمل، فبوّابتان فثلاث… ثم سبع، وأخذ الأسلاف يجتهدون.‏
قالوا: إن بوّابات النعيم سبع، والتي لا يدخلها إلا المظلومون والمحرومون، والذين ديست كرامتهم، وامتُهنوا عبر الآلاف من السنين.‏
كذلك كان للجحيم سبع بوّابات، وقد فُتحت خصّيصاً لأولئك الأوغاد، الذين ظلمونا وظلموا آباءنا، وكسروا ظهورنا بسياطهم وسيوفهم، وإيديولوجياتهم التي ما كتبوها في ألواحهم إلا لكي يسترقونا ويستعبدوا أبناءنا.‏
وعلى ما يبدو فإن هذا الرقم سبعة 7، وما يتشعب عنه من رموز، قد فعلت فعلها في أرواح الملوك أيضاً، تروي لنا كتب الأدب قصّة الملك الجبّار: عمرو بن هند، والذي كانت تلقبه العرب (بمُضرط الحجارة) لشدة بأسه، وكان هذا الملك يضع ستوراً سبعةً بينه وبين مواطنيه، إمعاناً في إذلالهم من جهة، واختفائه وخفائه عنهم وما يمثله ذلك الاختفاء من هيبةٍ في نفوسهم من جهة أخرى، وحين وفد إليه الشاعر: الحارث بن حلّزه وكان أبرص، وأنشده المعلقة من وراء تلك الستور، والتي بدأها بـ:‏
“آذنتنا ببينها أسماءُ رُبَّ ثاوٍ يُملُ منه الثواءُ”‏
وكانت أم الملك عمرو ـ ولها دالة عليه ـ حاضرةً ذلك الإنشاد، وحين أعجبتها القصيدة، قالت له: يا عمرو.. لا ينبغي أن يُسمع هذا الشعر من وراء الحُجُب، فأمر الملك رفع ستار، وما زالت أمه تكرّر قولها، وعمرو يرفع ستاراً تلو ستار، حتى استوى الشاعر جالساً إلى جوار الملك.‏
وما زلنا في فلك الرقم سبعة، فإنّ عدد المعلقات التي كُتبت بماء الذهب وعلّقت على جدار الكعبة في يوم من الأيام كان سبعة، والأكثر من ذلك فإن عدد أيام الأسبوع هو: سبعة، وأنّ عدد السماوات في المأثور الديني هي سبع وكذلك الأراضين، والطواف حول الكعبة هو سبع أيضاً.‏
وفي العرف الأسطوري فإنّ قضاة العالم السفلي هم سبعة، وكان هذا الرقم العجيب يرتفع أحياناً إلى تسعة 9، وينخفض أحياناً أخرى إلى ثلاثة، ولكنه هو بعينه كان يمتلك وجاهةً وحضوراً طاغيين، لا يختلف عليه الأسلاف.‏
وحين اكتُشفت الأرض بقاراتها الست، وما فيها من جبال وصحارى وجُزُر وبحار، ولم يبق فيها ما لم يُكتشف، ارتفعت أصوات لتقول: إنّ هناك قارةً سابعة مفقودةً قد ابتلعتها مياه المحيط في الغابر من الأيام.‏
والله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، وفي اليوم السابع استراح (كما تقول التوراة في سفر التكوين).‏
الشعراء الذي هم عرّافون، وأصحاب حدس عميق بما سيأتي، ولا يضيرهم (أن يكونوا أنبياء كذبة) كما يقول أراغون في كتابه (مجنون إلسا)، وهم قبل هذا وبعده (في كلِّ وادٍ يهيمون)، كانوا يستخدمون هذه البوابات السبع وما زالوا، كحالةٍ استفزازية لأرواحهم وأرواح متلقيهم، ويخلقون من تلك الحالة ما لا أذنٌ سمعت ولا عين رأيت، ويُدخلون من خلال بوّاباتها وامتثالاً لرغبات أرواحهم ما يشتهون.‏
أما عجائب الدنيا فهي سبع أيضاً ولا تزيد، .. هل لأن تجاوز الرقم سبعة بات مستحيلاً في المخيال الإنساني؟، والإنسان ما فتئ يستولد في كلّ يوم عجيبة جديدةً، وقد تكون هذه العجيبة الجديدة أكثر خطورة، وأكبر شأناً من تلك العجائب القائمة في ذاكرتنا، ولكن كيف له أن يزيح هذا الرقم الأسطوري ويؤسّس عليه أرقاماً جديدة؟‏
ألا تُزيح الأسطورة الحديثة أمها القديمة، بعد أن تُخلخلها، وتتغذى على مكوّناتها و… تقتلها تماماً، كما يقتل الابن الأب (كما يزعم فرويد).‏
ولكنْ… دعونا نسأل أنفسنا: هل نستطيع فعلاً أن نضيف إلى أيام الأسبوع يوماً واحداً، وإذا أضفنا… فكم سيكون عدد أيام السنة؟ وعلى إثر هذا الحساب، فإن دورات الفصول ستتغيّر, فالصيف قد يأتي في الشتاء، والعكس صحيح….‏
وهل يستطيع أحد منا أنْ يزعم أنّ هناك سماء ثامنة، وإذا فعل ذلك، فكيف سيواجه البطركيّة الدينية، القائمة على الثبات وعدم التخلخل.‏
أما نحن ـ معشر المبدعين ـ فإننا نعرف كم كان آباؤنا متآمرين وبشكل سرّي على تجاوز الرقم سبعة 7، .. بالدوران عليه من جهة، وإلباسه أرقاماً جديدة تلوح وتختفي… فوقه، أمامه، إلى يمينه، عن شماله.‏
لولا ذلك اللف والدوران لما وُجدت الحداثة، الإضافة، الروح الجديدة للعصور المتلاحقة.‏
كم عانينا ـ نحن الشعراء ـ من كسر (تابو) القافية في الشعر الخليلي، ثم تجاوز بعضنا القافية ليكسر العروض نفسه، مؤسّساً عروضاً جديدةً، يستولدها في كل قصيدة.‏
العَجَلة الحربيّة المدوّرة التي اكتُشفت في الغابر من الأيام، كم كانت فائدتها عظيمة في ذلك الزمان، كم تأسّس عليها وفوقها من تجارب ومبتكرات، حتى وصل الأمر بآدم (والمقصود هنا ذراريه) أن يركب السفن الفضائية صاعداً إلى… إلى علّيين.‏
على ما يبدو أن هذا الرقم الأسطوري قد تجاوزه الناس من زمان، ولكنه ما زال قائماً في دواخلنا.‏
هل لأننا لا نريد قتل آبائنا نهائياً، كي لا يقتلنا أبناؤنا في المستقبل؟ أمْ لأنّ للماضي حضوراً ممتداً في أرواحنا، نشمّ من خلاله رائحة التراب العَلِك، الذي جبل الرّب أبانا آدم منه، فندوخ انتشاءً بتلك الرائحة المَهيبة التي تنبعث توّاً من صلصالها كرائحة التراب تحين تسقط عليه المطرة الأولى.‏
أمْ لأنّ الذات القابلة للموت، للتلاشي لم تنوجد بعد، ونحن نعرف جلجامش البابلي وإيزيس المصرية وبو زيدون الإغريقي، ونعيش إلى آخر المدى ذلك الصراع العظيم الذي خاضه (أوديسيوس) إنْ كان في حرب طروادة التي استمرت تسع سنوات، وإنْ كان في ضياعه وتطوافه على البحر وهو عائد من الحرب وقد استمر ذلك الضياع تسع سنوات أخرى.‏
ألا تعيش الأسطورة والشعر والدين وأغنية البوب والزنق وعارضات الأزياء والمسارح والسينما في لحظة واحدة نعيشها الآن.‏
ثمّ كيف لنا أنْ ننسى الأب آدم الذي هبط من … هناك، بسبب العصيان والتجاوز، ولكنّه ما زال يحنّ ـ ونحن معه ـ إلى ذلك المكان العالي، الذي كان مُلكاً لنا ـ نحن أبناءه ـ بحسب قوانين الإرث، فأخذنا نعمل وما زلنا على تخليد وتجذير وتقديس ذلك الرقم!!‏
كل ما ذُكر كان وجوهاً مختلفة لأجوبةٍ مختلفة عن سؤال بعينه: هل نستطيع اغتيال الرقم سبعة؟؟؟‏
هيهات… ثم هيهات، لا أحدٌ منا يريد موته، لا، نتجاوزه… نعم، ونؤسّس عليه، نفترعهُ وننشئ منه، ونستولدهُ توائم… رجالاً، ونساءً لا أبهى ولا أشهى منهن… فلماذا نقتله إذاً؟…‏
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..