سلفا كير في جلباب البشير!

(1)

من الواضح أن الصراعَ الذي اندلع في دولة جنوب السودان بين رفاق الأمس يتجه وبسرعة نحو اللحظة الحرجة، ونقطة اللاعودة، التي حذر من خطر الوصول إليها الجميع، في ظل دولة ما زالت في الطور الجنيني تتلمس طريقها نحو بناء مؤسساتها، يعاني مجتمعها من ثالوث الهلاك “الفقر والجهل والمرض”، بالإضافة لمرض إفريقيا المتأصل المتمثل في انتهازية النخب، وضعف نخوتها الوطنية، وطمعها واستعجالها المكاسب، ولو كان ذلك خصما على مصالح شعوبها وحقها في الاستقرار والأمن والعيش الكريم. ونخب الدولة الجنوبية الوليدة ليس استثناء أو بدعة في ذلك، فهي تسير في ركاب من سبقها من نخب القارة الأكثر فشلا في تاريخ البشرية.

(2)

فعلى الرغم من أرقى أنواع النضال الذي خاضته النخب الجنوبية، وصولا لتحقيق حلمها وحلم شعبها في بناء دولة مستقلة، إلا أن ذلك لم يعصمها من الإصابة بمرض إفريقيا العضال الذي أقعد بكثير من دول القارة، وقاد حكامها للخوض في وحل الفشل والتردي المريع في لا مبدئية الممارسة السياسة. وتداعيات الصراع الجنوبي الذي بدأ سياسيا سرعان ما انكفى وعاد مرتدا لبؤس وبدائية الصراع العشائري والقبلي. ومهما حاول الرئيس سلفا نفي هذه الصفة الذميمة عنه إلا أن مجريات الأحداث المتسارعة تفضحه، وتؤكد حقيقة أن مستقبل الصراع الذي اندلع -إن لم يتم احتواؤه- مرشح للتحول لحرب أهلية طاحنة ستدور على أساس قبلي بحت، ومسارعة السيد مشار في الوصول لمضارب النوير لم يكن صدفة؛ بل ضرورة حتمتها قرأته لمستقبل الأحداث.

(3)

إن تفشي الأمية وانخفاض مستوى الوعي في أوساط شعوب الجنوب، وعمق الإرث القبلي المتجذر، بالإضافة لضعف الروافع السياسية والاجتماعية، وعدم اكتمال هياكل ومؤسسات الدولة الحديثة، جميعها عوامل كان يجب التحسب لها في إدارة العملية السياسية، ليس فقط بين الفرقاء السياسيين؛ بل بين رفاق الحركة الشعبية نفسها التي انتقلت من حركة تحرر وطني يسبق شقها العسكري شقها السياسي بحكم النشأة لسلطة حاكمة للبلاد؛ والبون شاسع بين أحلام الثائر ورجل الدولة الرشيد. والعوامل السالبة المذكورة أعلاه تصعب وتحد من سلاسة الانتقال، وتجعل عملية صياغة الهوية الوطنية الجامعة أمرا بالغ الصعوبة والتعقيد، يحتاج لنفس طويل ومساحة لا محدودة من الديمقراطية الحقة، والاعتراف بحق الآخر في أن يكون آخر مهما ضعف سهم نضاله في الماضي، مادام مواطنا جنوبيا كامل الأهلية.

(4)

والمفارقة الأكثر حزنا تتجلى في اندلاع الصراع بين رفاق الخندق الواحد في الحركة الشعبية، مما يثير تساؤلا في غاية الأهمية عن مستقبل وطبيعة العملية الديمقراطية المبشر بها، ومدى استعداد الحركة الشعبية كفصيل سياسي حاكم للالتزام بقواعد اللعبة والممارسة الديمقراطية، وإتاحة الفرصة أمام الأحزاب الأخرى لتنافس الحر والوصول للسلطة وحكم البلاد. فإذا كان نهج الحركة الشعبية في حسم الصراع السياسي بين أفرادها على هذا النحو من البدائية وانعدام الديمقراطية، فكيف سيكون شكل صراعها مستقبلا مع الآخر المعارض، لمجمل مشروعها وبرنامجها وأفكارها المطروحة لحكم البلاد؟

(5)

لقد اتضح جليا أن غياب العامل الوحيد الذي كان يوحد شعوب الجنوب المتمثل في الحد من تمدد وتأثير “جلابة” و”مندكورو” الشمال جنوبا، قد سحب بزواله البساط من تحت أقدام الوحدة الإجبارية الهشة لهذه الشعوب المتنافرة، وتركها تقف عارية وخاوية من الحافز النفسي الجامع لشتات القبلي، لترتد على أعقابها مع اندلاع أول صراع لحمى القبيلة متجاوزة الدولة ومؤسساتها الحديثة. وهو مؤشر يشير بوضوح إلى أن مستقبل بناء الدولة الوليدة ليس كما تخيله البعض مزروعا بالورود؛ بل محفوفا بمخاطر جمة، تجعل مخاضها وأمر استقرارها عسيرا، إن لم يكن شبه مستحيل؛ خاصة في غياب القيادة الكاريزمية التي كان يمثلها الزعيم الراحل جون قرن بكل ثقله الجماهيري، وزخمه السياسي، وعمقه الفكري، وحقا “في الليلة الظلماء يفتقد البدر”.

(6)

سقط الرئيس سلفا للأسف في امتحان الزعامة، وغاصت رجلاه عميقا في وحل الدكتاتورية، في أول محك لاختبار مدى مصداقيته وإيمانه بالديمقراطية كنهج حكم؛ كاشفا بذلك عن أن المعدن النفيس لقادة إفريقيا العظام أمثال مانديلا ولوممبا وسمورا مشيل سيظل نادرا، قل ما يجود به الزمان الإفريقي المترع بالخيبات. لم يتعظ سلفا من تجربة “الإنقاذ” في الشمال التي شارك فيها، وكان شاهد عيان على جرائمها، وعلى أن مبدأ فرق تسد الفاسد الذي اعتمدته العصبة الحاكمة في الخرطوم منهجا لتبقى متحكمة، لم يورث السودان سوى الحروب الأهلية والخراب. فمارد القبلية البغيض الذي أيقظته من ثباته “الإنقاذ” لتستغله في ضرب لحمة المجتمع السوداني، وأضعاف مكوناته، ارتد كيده لنحرها وما درت أن ضعفها كسلطة وقلة حيلتها يكمن في ضعف مجتمعها وجبهتها الداخلية، حتى أوصلت السودان لمرحلة من الذل والهوان، أصبح معها تغول دول الجوار على أراضيها وسيادتها محض نزهة برية لا عواقب تخشى من فسحتها، ولكم في حلايب والفشقة عبرة يا أولي الألباب.

(7)

كان جدير بالقائد سلفا أن يتأمل تجربة “الإنقاذ” التي شارك فيها لخمس سنوات جيدا، ويستمد منها الدروس والعبر، ولا يكرر الأخطاء الفادحة نفسها، التي قادت دولة بحجم السودان كانت عما قريب ملء السمع والبصر، في مقدمة دول القارة تشمخ بمؤسساتها وخبراتها وتفاخر بعلاقاتها الخارجية، إلى الدخول في نفق مظلم تعاني فيه من العزلة والفقر. ولكن يبدو أن سلفا عوضا عن الاتعاظ والمضي قدما في طريق السلامة، قد اختار طوعا ترسم خطى البشير واستعار جلبابه وهو يبحث عن سراب الانفراد بالسلطة، في طريق زلق ذي اتجاه واحد، لم يسر عليه حاكم إلا أودى به في نهاية الأمر لمزبلة التاريخ.

(8)

فلو تأمل السيد سلفا لحظة وألقى البصر كرة على محصلة حكم “الإنقاذ” الصفرية، رغم تطاول سنوات انفرادها بالحكم، ورغم أنها حين اجتاحت البلاد غدرا كان السودان دولة مؤسسات كاملة الدسم، يصعب مقارنتها بحال دولة الجنوب اليوم؛ لكفاه ذلك مشقة السير في طريق الآلام الذي سار فيه معتمر جلباب البشير، مقتديا بشيوخ الغفلة. فالسعيد من اتعظ بغيره، ولكن على ما يبدو أن الرجل عاثر الحظ شقي. وعوضا عن دخول التاريخ من أوسع أبوابه على نهج “مانديلا” كمؤسس لدولة الجنوب، وأول زعيم ديمقراطي لها، هاهو يسقط

من قعر “القفة” خلال بضع سنين، مشعلا حربا أهلية ضروسا، من الصعب التكهن بمآلاتها مقتديا بنهج أهل “الإنقاذ” وسياسة (إن غلبك سدها وسع قدها).

(9)

إذا ما كان في الوقت متسعا، فعلى الرئيس سلفا أن يسرع لتلافي الأخطاء التي أدت لاندلاع الصراع، ويعيد رأب الصدع، ويخرج القس فرانكلين جراهام من اللعبة، ويقطع صلته بمنظمة سماريتان بيرس، ومؤسسة بيلي جراهام، فهما رأس الحية، ثم عليه أن لا تأخذه العزة بالإثم، وأن لا يثق في وعود الأمريكان، والعصبة الكاذبة في الشمال، فهي محض سراب بقيعة؛ ولينفض كلتا يديه من كل ذلك، ويستغل حلول أعياد الميلاد المجيدة، كفرصة أخيرة للتصافي، وعودة الوئام، بعقد مؤتمر للحوار الوطني لا يستثني أحدا من مكونات المجتمع الجنوبي، يستطيع أن يجد مخرجا من الأزمة الحالية، ويحافظ على ما تبقى من حلم الزعيم الراحل جون قرنق.

** الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.

تيسير حسن إدريس24/12/2013م

تعليق واحد

  1. الجنوبيون يا أستاذ تيسير صاروا مثل أسود الغابة, حيث تتجمع الأسود وتتعاون فيما بينها لاصطياد الفريسة ,وعند الأكل تتقاتل وتتنافس في أكلها. هذا ماحدث للجنوبيين … تعاونوا جنبا إلي جنب لمحاربة الشمال, وعندما نالوا استقلالهم تقاتلوا فيما بينهم من أجل السلطة والبترول.

    خالص تحياتي.

  2. الجماعة ديل انسلاخ غازي هزاهم هزة شديدة المخوفم من الزول دا كدا للدرجة دي شنو بقو جاريين في كل الاتجاهات صراحة غازي رفع شعارات ومبادي يراها معسكر البشير باهظة التكاليف والخسائر ان فكر حزب البشير العمل بها وغازي يعرف ان تلك نقطة ضعفهم لذلك يبتزاهم ويعريهم بها اللعب سخن شديد [email protected]

  3. مقال قمة في الرصانة ودقة التحليل حياك الله اينما كنت.

  4. اقتباس
    (((((فعلى الرغم من أرقى أنواع النضال الذي خاضته النخب الجنوبية، وصولا لتحقيق حلمها وحلم شعبها في بناء دولة مستقلة، إلا أن ذلك لم يعصمها من الإصابة بمرض إفريقيا العضال الذي أقعد بكثير من دول القارة، وقاد حكامها للخوض في وحل الفشل والتردي المريع في لا مبدئية الممارسة السياسة.))))
    لم تلتزم الحركة الشعبية بالديمقراطية فأبعدت المستقليين والمسلمين وتم تزوير الإنتخابات من أجل احكام قبضتها علي الجنوب واضحت الممثل الشرعي والوحيد لشعب جنوب السودان
    تم الإنتقام من القبائل الصغيرة والمجموعات الإثنية الأخري
    الحروب كانت مستمرة في الجنوب والعالم تكتم عليها
    صـــــــــــــــــــــــح النــــــــــــــــــــــــــــــــوم
    نضال راقي ضد من

  5. وعلى سلفاكير التخلص من د. مطرف صديق (سفير السودان في جوبا)، وشُلة المنافقين والمطبلاتية وطلاب المناصب: برنابا بنجامين وجون قاي ومايكل مكوي، بقيادة جيمس واني إيقا.

  6. شئ غريب وبعد متابعة دقيقة وصلت لها فى تركيبة مجتمعنا السودانى ان شخص ما يضع لبنة لشئ ما سيلسة كانت ام فن اواى نشاط فى المجتمع وبذهابة ..يركب الموجة شخص اخر ويلقاها ساقطة ويجيب اجلها تماما كما فعل سلفاكير وصحبه واى انتهازى اخر فى اى مجال وتصبح الانتهازية هى المسيطر وتذهب الحقيقة الى مزبلة التاريخ وهكدا دواليك… ووداعا سودان الامان الكان زمان!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..