في ذكرى رحيله .. الفنان إبراهيم عوض وجماليات الاسلوب الغنائي

د. محمد سيف بدوي

هذه الورقة لا تمثل بحثاً علمياً أو أكاديمياً صارماً إنما أردتها ان تصلح للقراءة العامة.. وهي قراءة أردناها مبسطة دون تعقيد لا تعالج موضوعها بأساليب مبطنة ولا بنظريات فلسفية، كل همنا ان تساعد محتوياتها على الوعي والإدراك بجماليات أسلوب الأداء لهذا المبدع.. فهي تركز على العام دون الخاص بغية بلورة وإستدراك خصائص ذلك الأداء خدمة للعلاقة الواجب توافرها بين المتلقي والمبدع والتي لا نستطيع معرفة خباياها عبر الاستماع العابر.. هذا بالإضافة إلى محاولة الإجابة عن كثير من الاسئلة التي يبحث المتلقي عن أجوبة لها كلما صافحت أذناه صوت إبراهيم عوض.. هي قراءة نحاول ان نستجلي عبرها بعض ملامح الخصائص المكونة لأسلوب أدائه الغنائي، مساهمة منا في إرساء قراءات تستند إلى تلك الخصائص بوصفها مظهر الإبداع الغنائي، وهو أمر له أهميته بالنسبة لإنسان هذا البلد، وخاصة جيل الشباب، فالإبداع الجميل على مشارف الزمن لا يغازله إلا من يستطيع ان يسير في وضح النهار رويداً.. وهي خصائص ومحاور سوف نحاول الوقوف عندها وقفة نقدية تحليلية ومن ثم تصنيفها بما يتلاءم مع محتواها وموضوعاتها وإبراز أهميتها ثم تقييمها التقييم الذي تستحقه..
بكلمات أخرى نستطيع القول بأن الأسلوب هو ضرب من التنظيم المهاري للصياغة الأدائية الغنائية لمعطيات الشعور في صورة كلية متكاملة..
فالفنان إبراهيم عوض يمتلك خصائص أسلوبية غنائية متعددة ومتفردة جعلت منه حدثاً متميزاً في ساحة الغناء السوداني حولته من رقم إلى ظاهرة يشار إليها بالبنان.. لقد استطاع من خلال هذا الأسلوب ان يشكل ينبوعاً لا ينضب من التعبير الملئ بالدلالات التي لا تصيبها شبهة التكرار والإجترار والتي تضرب الأوتار الحساسة المشدودة في دواخل المتلقي..
من أبرز وأهم الخصائص الأسلوبية الغنائية التي يتمتع بها إبراهيم عوض ما يلي:
– يمتلك إبراهيم صوتاً معبراً يمتد مدى جرسه وجمهوريته من دواخل الأرض عمقاً إلى تخوم السحاب علواً.. صوت يتميز بنفس طويل، صوت ملئ بالحنين إلى الأصل والأصالة والسعي وراء المطلق الحر.. استطاع ان يوظفه في خدمة مسار التعبير الذي توحي بها مقاطع النص الشعري، وذلك من خلال تنويع حجم الهمس والجهر، و القوة واللين الصوتي في ذكاء مهني موسيقي لافت للإنتباه..
– مما لا شك فيه ان هذا المبدع قد تأثر- كغيره من المبدعين- بالثروات الإسلوبية الغنائية لمن سبقوه، ولكن ذلك لم ينتزع من روحه الموسيقية خصائصها ومعطياتها الذاتية، والتي أبت ان تقع في إسار أي منها واستطاعت ان ترسم لنفسها أسلوبية غنائية متفردة لا تخطئها الأذن.. وهي أسلوبية متداخلة ومتآزرة بها وجوه عديدة مبتكرة بعضها لم يوجد من قبل في رحاب خارطة الغناء السوداني، فالمبدع الحقيقي هو الذي يرتاد أجواء عالم الإبداع بحثاً عن عناصر غنائية جديدة تماماً مثل »سيزان« وهو يقول »إني ما زلت أبحث«..
– من الخصائص الاسلوبية الغنائية لهذا المبدع مقدرته على إجادة ما بات يعرف بالإيقاع الدرامي والذي يعني ان يكون للغناء بيئة تطورية تصاعدية تبدأ في الاصوات الغليظة وتتجه نحو الاصوات الحادة في تسلسل منطقي متنامي يشعر المتلقي بان الغناء ذاهب إلى تحقيق هدف يبلغ به الذروة أو القمة، بعدها يتدرج اللحن من الحدة إلى الغلظة ليعود من جديد إلى الهدوء والاعتدال..
يتجسد هذا في اغنية عزيز دنيانا
في المقطع الخاص بغناء:
تعرف يوم في دنيا غيابك
يساوي سنين في دنيا عذابي..
وهذا ان دل على شئ فإنما يدل على المقدرة الفائقة على دفع الالحان نحو القمة ثم التلاشي التدريجي نحو القاعدة كما هو شائع في شأن العاصفة في الطبيعة..
– أسلوب له أثر انفعالي كبير من خلال انتهاك التوقعات.. بمعنى اكتشاف البنية وتوليد الفروض حول التنغيم الذي قد يحدث في مسار الأداء في اللحظة التالية.. فالحصول على المتعة الموسيقية يتم عادة عند النقطة الوسيطة بين حالتي التوقع/ عدم التوقع.. هذا وقد حظيت هذه النظرية ببعض التأييد التجريبي.. فوفقاً لهذه الفكرة فإن ذلك النمط من التنظيم الأدائي الذي يمكن توقعه بشكل كامل سوف يكون مملا وغير مثير للإهتمام كما ان ذلك التنغيم الأدائي غير المتوقع- الذي لا يمكن توقعه سوف يكون مملاً أيضاً..
– يتميز هذا الأسلوب ويلتزم بتقديم روايات لحنية وإيقاعية متعددة للجمل الغنائية الأساسية، هذا ومن المعروف ان في تنويع مثل هذه الروايات تنوعا للإبداع وفي تضمينها تجاوزا لحدود النص الزمانية والمكانية وفي تواترها عبر الأجيال تثبيت لا يرضى بالتحجر..
– لهذا الأسلوب قدرة فائقة على خلق حالة من التمثل العاطفي التي تستطيع ان تنقلنا في أريحية لمشاعر سحرية، وعلى إنتاج شحنات كثيفة من حالة النشوة والطرب على نحو متزايد، فالطرب هو عبارة عن رعدة خفيفة أو إحساس بالوخز الخفيف الذي تصاحبه قشعريرة يمكن رؤية ملامحها علي سطح الجلد عند المواجهة مع شئ يتسم بالجمال الفائق أو الدلالة العميقة المثيرة للمشاعر..
– هو أسلوب غنائي لا يقر له قرار ولا يلتزم نمطاً بعينه في بناء وتنسيق خصائصه.. دفع به مبدعنا في مسالك شتى إيماناً منه بأن الدفق الغنائي أكبر من ان يحتويه أداء آحادي التصور أو تحيط به نغمة رتيبة مملة..
– مما يجدر ذكره ان هذا الأسلوب يتكون من عناصر- أو ركائز أساسية متناغمة ومنسجمة تعطيه تفرداً وتميزاً خاصاً.. وهي النبر والإيقاع والتنغيم.. فالنبر هو تلك الفاعلية الفيزولوجية التي تتخذ شكل ضغط أو إثقال أدائي غنائي متنوع التنغيم على مقطع شعري بعينه يؤدي إلى التركيز على هذا المقطع، بإعتباره يشير إلى الدلالات العميقة للنص الشعري، أو يوحي بالصراع العاطفي داخل بنية القصيدة، ثم الإيقاع ويقصد به في هذا الخصوص الفاعلية التي تنقل للمتلقي الشعور بوجود حركة غنائية داخلية ذات حيوية متنامية تمنح التتابع الصوتي وحدة تقيمية.. أو هو الفاعلية التي تمنح الحياة للتنغيم الذي يتكون من خلاله تتابع العبارة الغنائية.. وهكذا نرى ان للنبر قدرة خاصة على التلاحم مع الإيقاع، أما الإيقاع والتنغيم فهما يتلاحمان بصورة لا تدع مجالاً للفصل بينهما، إن خير مثال على هذا التلاحم بين العناصر الثلاثة المكونة لهذا الأسلوب نجده في أغنية »يا جمال دنيانا« مجسداً في التركيز على ترديد مقطع الحبيبة سعيدة، بطرق نغمية متنوعة ثم الإنتقال إلى الشطر الثاني من البيت.. أو في أغنية »عزيز دنيانا« عرفت الحب من قبلك مرة.. فهذا المطلع يردد أيضاً عدة مرات في تنوع لحني قبل الإنتقال للشطر الثاني..
– لقد تولد هذا الأسلوب توليداً دلالياً بمعنى أنه ارتبط بممارسة طريقة غنائية لها تأثيرات عاطفية جديدة أضيفت إلى تأثيرات عاطفية لأساليب غنائية موجودة أصلاً في واقع الحياة الموسيقية السودانية..
– يعتمد هذا الاسلوب في تكوينه على عوامل كثيرة ومتنوعة، منها ما يرتبط بالخامة الطبيعية لفيزياء صوت مبدعنا، ومنها ما يستمد من جملة الخصائص المكتسبة من خلال عمليات التثاقف الموسيقي الوافدة، ومنها ما هو فطري وملازم لطريقة ذوقنا الموسيقي الغريزي..
– لقد استطاع هذا الاسلوب إضاءة آفاق جديدة لمعاني النصوص الشعرية وإضافة رؤى رموزية موسيقية مما أعطى تلك النصوص حياة سرمدية، ذلك لأن الأنغام ألصق بالذاكرة الجمعية من الكلمات..
– إن أسلوبه في الغناء لا يسلم نفسه إلى أفكار وقتية تواتيه أو تراوده في لحظة ضعف أو حزن أو فرح، بل لأفكار تتسق مع ما يود النص الشعري البوح به..
– هو أسلوب يمتاز بإحساس موسيقى تولد من نضج الموهبة المستندة الى الخبرة الغنائية الطويلة الممتازة بالإضافة إلى إنفعالات هذا المبدع وإتساعها. ولست معنياً هنا بإيراد تفسير سايكولوجي لكل ذلك وإنما حسبي وفاء لغرضي ان أسجل أن جماليات أدائه مبهجة ومبهرة تضفي على الحياة بهجة وسروراً..
قبل الختام أود التعرض لسؤال يلح في طلب الإجابة مؤداه: ما هو الشئ الذي كان إبراهيم عوض يسعى لتقديمه لنا من خلال خلق وبلورة وممارسة هذا الأسلوب الغنائي؟ هناك إجابة واحدة ممكنة لهذا السؤال هي: أنه أراد ان يقدم لنا نفسه، فما هو معروف ان كل عمل يقدمه فنان هو في الواقع تعبير عن ذاته، فهو يهبنا خلاصة صادقة لأعماق نفسه العامرة بالحب والوفاء والمصداقية والعبقرية الموسيقية..
في الختام نرجو ان نكون قد وفقنا فيما قصدناه، فإن و قع على الحال الذي أردنا، و المنزلة التي آملنا، فذلك بتوفيق من الله، وإن وقع بخلافها فما قصرنا في الإجتهاد ولكن حرمنا التوفيق والله أعلم..
د. محمد سيف ياسين

الراي العام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..