حُسـيْن شَـريـْف فـي لَـوْنِ التّـمَـرُّد: (إهداء لإيمان حسين شريف) ..

أقرب إلى القلب:
حِيْنَ زارتنِي بَوَاكِيـْرُ الخَريْف
كانَ طَيْفي جَامِداً وَجبيْني بَارِدا
وَسُكوْتِي رابِضاً فـوْقَ البيوْتِ الخشبيّة
مُخْفيَاً حِيرَته فى الشّـجَنِ .. وَغروْبِ الأنجُمِ ..
وانحِسَارِ البَصَـرِ
لوّحَتْ لِي سـاعةُ حينَ انصَرفنَـا ..
ثمَّ عادتْ لِي بَواكيْـرُ الخَريْف”..
الشاعر عبدالرحيم أبوذكري
(1)
لو عُدنا مع الرّاحل حسين مأمون حسين شريف، إلى تلك السنوات التي غادر فيها وطنه للدراسة في بريطانيا، وذلك بعد أن أكمل بنجاحٍ وتفوّق، سنوات الدراسة في كلية فيكتوريا في الاسكندرية، سنرى متمرّدا عبقريّاً قيد التشكّل. التحق حسين أوّل أمره بجامعة كيمبريدج لدراسة التاريخ الحديث، كما أشار موقع الفنان حسين على الشبكة العنكبوتية، وكانت دراسته على النفقة الخاصة. لم يكن التحاق حسين بكلية فيكتوريا أمراً غريبا، إذ درجتْ أسرته على إرسال أبنائها إليها، وفيهم أبناء عمومته وأبناء أخواله. درس بتلك الكلية الإمام الراحل الهادي والسيد الصادق المهدي والسيد أحمد المهدي وغيرهم من الأسرة المهدوية. الدراسة على النفقة الخاصة لطالبٍ والده طبيب مشهور، وخاله القيادي في طائفة الأنصار المعروفة، أمر لا يثير عجبا .
(2)
لم يجد حسين نفسه في دراسة التاريخ، ويبدو أنّها الدراسة التي فضّلها له خاله، والتي يتوقع أن تؤهّله ليتبوأ موقعاً في الطائفة التي يتزعّمها جدّه السيد عبد الرحمن المهدي. زملاؤه في جامعة كيمبريدج فيهم الطاهر الفاضل ومصطفى مدني أبشر ولفيفٌ من السودانيين الآخرين. كانت سنواته في كيمبريدج مثمرة برغم قصرها.
لقد وطدتْ أسرة المهدي مكانها في تاريخ السودان لسنين عددا، وحققتْ إرثاً سياسياً وتاريخياً، يصعب الفكاك منه، من طرف أيّ مُنتمٍ لتلك الأسرة المميّزة. لكن شاباً في رقة النسيم، لن تجذبه عواصف السياسة والتاريخ. بدتْ روح التمرّد عند حسين، حين قرّر وهو في تلك السنّ الباكرة، أن يدرس التخصّص الذي يجد نفسه فيه، لا ذلك الذي تريده العائلة له. بعد كيمبريدج، جرّب دراسة المعمار بداية في “شيفيلد”، ثم الالتحاق بكلية “سليد” التابعة لجامعة لندن. ذلك كان خياره آخر أمره، لكنه لم يكن خياراً ميسورا.
(3)
حكتْ السيدة البريطانية التي كانت تساعد في إدارة أحوال المبعوثين في لندن، وسمّاها المبعوثون السودانيون “كليتونة”، واسمها الحقيقيّ مسز “كليتون بيير”، طرفاً من قصة حسين دون ذكر اسمه. ذكرتْ تلك السيدة في مذكراتها (غير المطبوعة)، أنّ مكتب المستشار الثقافي في سفارة السودان في لندن، في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، هو المكتب الذي يرعى شئون الطلاب المبعوثين. بذل ذلك المكتب-فيما حكتْ “كليتونة”-جهداً لإقناع أسرة طالب بعثة سودانيّ، ليهجر دراسة التاريخ الحديث، ويتحوّل إلى الدراسة التي تستهويه، ويجد نفسه فيها. تلك كانت بادرة أساسية في حياة ذلك المبعوث، إذ كان إصراره جامحاً فلم يرضخ لرغبة كبار تلك الأسرة. ذلك المبعوث هو حسين مأمون شريف.
وقف إلى جانب حسين في اختياره دراسة الفنون في كلية “سليد”، جدّه الزّعيم الروحي لطائفة الأنصار السيد عبد الرحمن المهدي، بعكس رغبة والده الطبيب مأمون حسين شريف، وخاله السيد الصديق عبد الرحمن المهدي. كان الجدُّ رجلٌ واسع الأفق، سليم الرؤية ويحترم الرغبات الشخصية، دون إملاءات تفرض على شابٍ، يرغب أن يحقق ذاته في التخصّص الذي يرغب فيه ويستهويه. .
(4)
إنّ دراسة الفن التشكيلي والتلوين في لندن، وفي تلك السنوات الباكرة، من طرفِ شابٍ سودانيّ تتطلع أسرته لإدخاله إلى عالمها الخاص، يشكّل محطة لم يألفها مجايلوه. لتأكيد جديّة خياراته، أثبت حسين قدرة خارقة على مفارقة الخطوط المرسومة، والولوج إلى عالمٍ يسكن وجدانه، عالم الفنّ التشكيلي الذي ملك عليهِ لبّه. كان مجايلوه – وفي نظرٍ غير حصيف- يرون في مثل تلك الدراسة، نوعاً من الترفِ الأكاديمي الذي لا مبرّر له.
وجد حسين عالمه الذي تتحرّك خلاله قدراته الخلاقة، لصياغة عالمٍ موازٍ للعالم الذي يعيشه. لعلّ عالم التشكيل هو عالم الخلق الموازي. عالم يخلق عبره حسين: “تعبيره عن إحساسٍ داخليّ عميق، باللامعنى والغموض، وكأنه يلجأ إلى الفن ليبرّر ويخلق معنىً للأشياء”، حسب قول الفنان راشد دياب عنه، في كتابه المعنون: “الفن التشكيلي في السودان” (2004).
في مذكرات السيدة البريطانية “كليتونة”، نوّهَتْ تلك السيّدة الفاضلة عن اعجابها بأعمال حسين الفنية، وقد أهداها إحدى لوحاته في أوائل أعوام الخمسينات من القرن الماضي. أتصوّر أن تكون تلك اللوحة معلقة لا تزال، في جدار شقةٍ بعيدةٍ في أطراف لندن، يملكها حفيدٌ من أحفاد السيدة “كليتونة”، يتذكّر فناناً سودانياً اسمه حسين شريف، أهدى لوحته لجدّته قبل أكثر من ستين عاما. .
(5)
كانَ واضحاً أنّ دراسة التاريخ ستكبّل عند حسين، رغبات جامحة للانطلاق، ولتحقيق الذات في فضاءات لا تحدّها حدود. رجلٌ يملك كل هذا الإصرار وهذه الإرادة الغلابة لصياغة مستقبله بيديه، وبسندٍ من جدّه الإمام، لاشكّ تتملكه قدراتٌ غير عادية لبناءِ عالمٍ خاص به. عالم حسين المنشود، محتشدٌ برؤى وإبداعٍ وخيال لا يُحدّ. فيما لم يبتعد عن سربه، فقد بقيَ تغريده في ذلك الفضاء الذي صاغه من إبداعه، متفرّدا عبقريّا. .
كتب حسين الشعر فميّز نفسَه الشعريّ بروحٍ متجدّدة، ثمّ جرّب الرّسم والتشكيل، فكان اللون طوعَ قلمه وفرشاته، ثم جرّب التصوير السينمائي، فإذا بحسين أمامنا مُخرِجاً سينمائياً، يكتب بالكاميرا، فيضاً من أشعاره الشجيّة، وصوراً تتنزل من خياله الجامح، يرسمها بفرشاة وكاميرا. تلك هُجنةٌ إبداعية نادرة الوقوع، ومزجٌ لا مثيل له بين زيت وماء وفضاء، لولا تلك القدرات الخارقة، لما تحقق لرجلٍ شغلته أسئلة تشكيل عالم مغاير، إنجاز إبداعه عبر كلّ الوسائل المتاحة: صوت شعريّ في فضاء، ولوحة يتحرّك فيها الأحمر والأزرق، وسينما ترصد فضاءٍ آخر.
تلمع في الذاكرة مشروعاته السينمائية: “جدع النار”، “انتزاع الكهرمان”، “الواثق صباح الخير”، “داؤود”، ?التراب والياقوت”.. وغيرها. . لكن خلق حسين من خيال المنفى ذاكرة تجول في انحائها أحوال الوطن. .
(6)
أبدَى حسين اهتماماً بالكتابة وبالشعر، فوق اهتمامه بالتشكيل. أصدر مجلة بالإنجليزية، غلب عليها اهتمامه بالشعر والفنون، وبتركيز ٍخاصّ على البعد الفريقي في ثقافتنا السودانية . في فترة الستينات، بعد منتصف القرن العشرين وما تلاها، وفي أعقاب الانتفاضة على الحكم العسكري (1958-1964) ، تلك التي عُرفت تاريخياً بثورة 21 أكتوبر عام 1964، شهدتْ الساحة الثقافية انطلاق مختلف تيارات الإبداع والانفتاح على ثقافات الآخر.
شهدتْ الخرطوم بزوغ فجر تيار “الغابة والصحراء” في الأدب والشعر، على يد مبدعين شعراء، مثل النور عثمان أبكر ومحمد المكي إبراهيم ومحمد عبدالحيّ، وفي جانب الرسم والتشكيل، برزت “مدرسة الخرطوم”، من فرشاة فنانين مثل الصلحي وشبرين وسواهم. إلا أن حسين شريف، ميّز نفسه بخطٍّ يخصّه، وبفرشاة جريئة، تواءمتْ مع التجريد المُوحي والتوجّه لصياغة العالم الموازيّ، ومزج الشعرِ مع اللون. جاءت إصدارته آنذاك، في أجواء مغايرة لم تكن تستدعي الروح الأفريقيّ، الذي شكل مكوّناً رئيساً في الهويّة السودانية، وتجلّى في أعمال حسين شريف. حتى في هذا، حافظ حسين على تفرّد توجّهاته ، ورؤاه المتمرّدة.
(7)
لا أعرف تشكيلياً حوّل اللون إلى سيناريو، والفرشاة إلى كاميرا، سوى العبقريّ حسين مأمون شريف. الشاعر والرّسام والسينمائي، حقق هويته الإبداعية باقتدار، ثمّ قرّر آخر الأمر، أن يتمرّد على نفسه، فأعطى الحياة ظهره ورحل في يناير عام 2005، في بواكير الخريف -على قول أبي ذكرى- وبين “التراب والياقوت”، شريطه السينمائي الذي لم يكتمل .
لإنْ ذهب حسين إلى التراب، فإن ياقوته باقٍ يلمع أبدا. .
++++++++
الخرطوم- يناير 2016
[email][email protected][/email]
لا أعرف تشكيلياً حوّل اللون إلى سيناريو، والفرشاة إلى كاميرا، سوى العبقريّ حسين مأمون شريف. الشاعر والرّسام والسينمائي، حقق هويته الإبداعية باقتدار، ثمّ قرّر آخر الأمر، أن يتمرّد على نفسه، فأعطى الحياة ظهره ورحل في يناير عام 2005، في بواكير الخريف -على قول أبي ذكرى- وبين “التراب والياقوت”، شريطه السينمائي الذي لم يكتمل .
Thanks Austaz Gamal
يضيف الإكتشاف دائما قدرا كبيرا من جماليةالنصوص ,فأنت بعود ثقابك هذا اضأت لنا ردهات ودهاليز معمار الراحل حسين شريف, فكيف نعيد لهذا المعمار رونقه بصورة مستديمة؟, من قبل اقترحت علي الصديق راشد دياب ان يشيد متحفا دائما للذين في قامة حسين شريف , ولكن كلانا تذكر مصير تمثالي الجندي المجهول وبابكر بدري, سلم قلمك ايها المبدع جمال
شكرا لك ايها الهبقري الاخري اضاءة مهمه جدا في ليل مدلهم نقع ونقوم …هذه كتابة عبقرية عن عبقري رحل متمردا سريعا باسطر رائعه ومؤثرة لامدرماني من امدرماني كلها السودان امدرمان …عرفتها وعشقتها تعلمت فيها الصبر علي المحن والاحن وجمال لحن الحياة فيها من نفاج بين البيوت لله درها من مدينة رمتني بدائها ولم تنسل لانها روح تضللع في ميقاتها الرباني!!!