برحيل ود المهدي حوش التلفزيون القومي يفقد أحد أعمدته

حوش التلفزيون القومي : محمد الشنيدي :
اطل العام الجديد «2012م» والعاملون في التلفزيون القومي يوم الخميس مجتمعون في فناء التلفزيون يناقشون مع وزير الاعلام المهندس عبد الله مسار قضايا المستقبل وملامح الايام القادمة في ضوء معطيات اليوم. وفي هذا الأثناء كان احمد علي المهدي المشهور بـ «ود المهدي» يحدق بعيدا في ما وراء الافق وبعد المستقبل، في دنيا الخلود.. متجاوزا بخاطره وقلبه ونظراته حديث الدنيا، الذي يبدو كالثرثرة، يكاد لا يلتقط من مفرداته شيئاً، شيء الصدى المتقطع يتناهي الى اذنيه. وفي يوم الجمعة وهو يوم يشبه ود المهدي طهارة ونقاء.. في هذا اليوم طوى ود المهدي صفحات الدنيا وأسلم روحه لبارئها في حادث حركة. الخبر كان كالصاعقة لولا الايمان بالقضاء والقدر. وفي مثل تلك اللحظات دائماً ما تجتمع الدنيا والآخرة في شريط واحد يمر أمام ناظرينا كالخيال.. لتوّي أدركت أن التلفزيون فقد واحداً من أعمدته. فود المهدي لم يكن مديراً ولا قيادياً ولا خبيراً بمواصفات الخدمة المدنية، لكنه كان كذلك بالقيم والأخلاق. فهو مدير انتاج مسؤول عن بوابات الدخول والخروج للمال، احد مزالق النفس الامارة بالسوء، واحد مداخل الشبهات، لكن ود المهدي بنزاهة بريئة ونفس لوامة، جعل للمال حرمة وهيبة، وحفظ أمانته وتصريفاته. كان نزيهاً وعفيفاً وصادقاً . كثيراً ما يستعين بالزملاء والاصدقاء لتسيير أموره الشخصية بالدين، في وقت ينوء دولابه بالملايين من المال العام، لا يتصرف، ولا تحدثه نفسه ولو بالاقتراض من المال العام. اجد نفسي مذهولا أمام نزاهته، في وقت تتحدث فيه الصحافة السودانية عن الفساد المالي على لسان المراجع العام بارقام كبيرة.. اللهم اجعلنا كود المهدي نحفظك في قلوبنا سراً وعلانية.. تذكرت عشرات المرات التي ترافقنا فيها مع ود المهدي في الزيارات المختلفة لولايات السودان لتغطية النشاطات التي يغطيها التلفزيون.
كان ود المهدي مؤمنا باتقان عمله، يتفانى للتلفزيون، قنوعاً بأرزاق الله، بضاعة تتراجع في زمننا هذا أمام بعض النفوس التي لا تشبع.. وعندما يحط فريق التلفزيون رحاله في أية مدينة أو منطقة في السودان، كان آخر من يشرب، وآخر من يأكل، وان كان الزاد شحيحاً، وآخر من يرقد ولو على التراب. وآخر من ينام.. كثيراً مارأيته يتصيّد الظل القليل أو الرقراق لغفوة عابرة أو نومة عميقة. أيّ زهد هذا؟ رجل علي يقين بأن هذه الدنيا إنما هي شجرة نغادرها بعد أن نستريح عندها.. كثيراً ما سألني كالطفل البريء.. لماذا كل هذه التجاذبات في التلفزيون؟ وهو بشفافيته لا يرى صراعاً، لكنه يرى الشجرة التي سيغادرها الجميع بعد قليل.. وكثيراً ما أرى عبره التطبيق العملي لبعض النظريات في علم الادارة التي تجنح الى أن الاداري الناجح هو من يشيع جوا ايجابياً محفّزاً للعمل الجماعي بالتعاون والتفاهم والانسجام. وحينما أعبّر عن إعجابي بمدرسته في الادارة يصرّ ــ ومن تواضعه ــ على أنه رجل بسيط جاء من منصوركتّي في الولاية الشمالية يضرب في الأرض طلباً للرزق الحلال ليكن مستجاب الدعوة، وهو الذي تعود على أداء صلاة الفجر في ميقاتها حتي ولو وصلنا إلى أيّة منطقة في الساعات الأولى من الصباح. ونشهد أنه كان في الزيارات المختلفة لانحاء السودان يتلمس فجراً وسط الظلام الطرق المؤدية الى المساجد في مناطق يزورها لأول مرة لاداء صلاة الفجر. وأكاد أجزم بأنه صلى في مساجد أيّة مدينة أو منطقة عملنا بها.. كانت آخر مرة صلينا معه صلاة الفجر في أحد مساجد أبو جبيهة ومعنا الفنان المرحوم الأمين عبد الغفار. ثم وكالعادة يبدأ ود المهدي بعد الصلاة في تجهيز وإعداد كل ما يعين بعثة التلفزيون على أداء عملها بأفضل وجه.. كان رحمه الله عالماً وفضاءً من الإيثار، كريماً بلا من ولا أذى، جواداً، له مقدرة غريبة في التخلص من أنانية النفس الأمارة بالسوء في زمن يصرخ فيه الكثيرون نفسي نفسي ولو على حساب الآخرين. كان يجتهد في أن يبعث التفاؤل والرضاء في من حوله. وهذا ما لمسناه منه حينما كانت الشائعات بقرب اشتعال الحرب تحاصر مدينة كادقلي التي مكثنا فيها ثلاثين يوماً. وكلما تنامي الى مسامعنا استهداف المنزل الذي نقيم فيه، أحاطنا ود المهدي بالابتسامات والتفاؤل ليبدّد هواجسنا وينزع شكّنا. كان في مقام القائد العسكري الذي يفكك حرباً نفسية من العدو. كان لا يخاف الموت، لكنه يخشى الله الذي لا يموت.
ولعلي أعترف بأن ما استوقفني في رحيل ود المهدي هو رحيل القيم التي بين جنبيه. وأعجبت لهذا اليراع الذي ما سال مداده قريباً. سيبقى ود المهدي الذي أعطاه الخالق قبولاً بين زملائه رمزاً للإعلامي المفعم بالنقاء والشفافية والتفاني في العمل والاخلاص وحب الآخرين. ورمزاً للإنسان الطيب الذي يخلق بين جنبيك الراحة والطمأنينة واليقين والايمان بالله، كم أنا حزين لهذا الفراق. واعترف بأن ايماني يتعرض لاختبار كبير.. هكذا أحاول السيطرة على مشاعري ودموعي. نسأل الله لود المهدي الرحمة والمغفرة. ولأهله وذويه وزملائه الصبر الجميل.
الصحافة
الله يرحموا
اللهم ارحموا
اللهم ارحموا
إنا لله وإنا إليه راجعون ،اللهم ارحم ود المهدي رحمة واسعة اللهم ابدله دارا خير من داره واهل خير من اهله واسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وحسن اولئك رفيقا