قراءة فى ديوان من نارك أشتاق إليك – للشاعر الدبلوماسى كركساوي

إبحار فى مملكة عشق كركساوى
( من نارك إشتاق إليك )
د.فائز إبراهيم سوميت
عضو منتدى السراج الأدبى – أبى روف أمدرمان
مدخل أبستيمولوجى :
ثلاثون قصيدة حواها ديوان ” من نارك إشتاق إليك ” للشاعر المرهف الحس والأنيق العبارة كرم اللة أحمد كركساوى , شكلت فى مجملها الخلجات الإبداعية ما بين مد وجزر إبداعيين , متنوعة جاءت قصائد الديوان , كما بحورها وقافيتها المنسكبة دونما تكلف ..
يقع الديوان فى مائة وثمانية وعشرون صفحة من القطع المتوسط , قامت بطباعة الديوان دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة , دمشق – سوريا . الرسوم الكاريكاتورية التى تتخلل قصائد الديوان جاءت وإلى حد بعيد منسجمة ومعبرة وتحمل الكثير من من ظلال القصائد التى حواها الديوان .
مدخل أنطولوجى :
إفتتح شاعرنا كركساوى ديوانه بإهداءات ثلاث واضحة أنها كانت لازمة ومعضدة لجوهر الصراع العاطفى والحنين داخل وتائر القصائد ومدخل يتنفس من خلاله شاعرنا .
فالإهداء الأول :
كان لروح والده أحمد كركساوى الذى توضأ بالسناء وقبل أن يختم صلاته مضى .
أما ألإهداء الثانى :
كان إلى روح شقيقته عواطف التى كانت قد غادرت أيضا قبل أن يعبئ شاعرنا المرهف مساماته من حبها وفيض عاطفتها الدفاقة .
أما الثالث والأخير :
كان إلى روح إبن عمه رفيق الصبا فيما يبدو والطفولة البكر , الذى رحل دون أن يمهل كركساوى حتى برهة لوداعه .
مما لاشك فيه أن هذه النتؤات النفسية الحادة تركت تشوهات ونتؤات وجراحات راعفة فى نفس الشاعر تغذت منها قصائد ديوانه التى تتقطر روعة وتتلألأ جمالا وتسيل عذوبة يغلفها الشجو والجراحات العميقة . وفى اعتقادى ان هذه الاهداءات الثلاث التى جاءت فى مطلع الديوان تعطى صورا مسبقة لما ستكون عليه قصائده , والتى عبأها الشاعر باللوعة وألم البين .. زادها ضباب الغربة التى إقتات كثيرا من شاعرنا أنضر أيامه وزهو شبابه .. وجدا .. وتبريحا .. وإيقاعات وموسيقى .. ونلمس هذا جيدا فى جزيئة المقدمة التى قدم بها الفنان الكبير الأستاذ عبد الكريم الكابلى للديوان : ( كنت قد قرأت لك .. ورأيت إبتسامتك قبل أن ألقاك , وكعهدى بك فى أحاسيسك السابقة .. يلمح القارئ ما بروحك من مصالحة للحياة .. حتى فى لحظة حزنك ” .. ونلمس ذلك فى قصيدة ” حمامات السعد ” عن مدى تأثير فراق الأعزاء على بنائية قصائد الديوان وسيطرة ذلك على السرد الإبداعى للقصائد .. فقد جاء فى الشطر الرابع فى إحدى قصائد الديوان : ” هل كان سعدا قد حل .. فى دارى وما كنت أدرى .. واشترط إذا جئت مزارا .. فيطير نهارا يتركنى ” .. إلى أن يقول : ” فلماذا أيقظنى الصبح .. ولماذا كاللبن إندلقت فى الجو حمامات السعد .. تركتنى أحسو آلامى .. ندما مرسوما فى كفى ” ..
معا وبعد هذا المدخل الأنطولوجى لديوان الشاعر السفير كرم اللة أحمد كركساوى , نبحر فى مملكة عشقه رغم انى لاأجيد الإبحار .. إلا أننى أجتهد ولكل مجتهد فيما أظن شط يصيبه ” ..
القصائد إشتعلت :
أشعل شاعرنا كركساوى ديوانه بقصيدة ” أنت المجد ” التى هى مزبج من من العاطفة الدفاقة والمشاعر القافزة التى نضحت من موسيقى الكلمات المنهمرة بلا إستئذان والقافية المتدلية .. قصيدة ملؤها التحدى والغرور .. وكأنما القصيدة الثانية ” اشجان غريب ” كانت امتدادا عاطفيا لقصيدة انت المجد .. حيث وطد فيها شاعرنا خيمة عشقه كالأخطل الصغير , الشنفرة أو كما ذو الرمة .. الا ان لوعة الفراق قطعت سيل تترات الموسيقى الراقصة فى القصيدة الاولى .. فحملتنا قصيدة الديوان الثانية جميعا الى بحر اشجان لانهائية تعلو بنا تارة وتخفض اخرى موسيقاها . حيث حفلت بالايقاع الحزين والبطئ الدفق فكانما الابيات ا صبحت معتمة دليل علي عواء الاشواق فى دخيلة شاعرنا كركساوى .. ” نقضى أعمارنا فى حزن لاندرى ما تخفى العتمة .. نحيا بالامل ولا امل .. فالنور تشبع بالظلمة .. ” .. إذن فهو الإستغراق بعينه فى العتمة واللوعة والأشجان اللانهائية الملامح .. الا انه ورغم كثافة الاحزان ووعثاء العتمة فلا يزال شارنا كركساوى يتمشدق بالأمل والعودة من موج الأشواق المتلاطم إلى الاقاع الاول فى قصيدة الديوان الأولى ” انت المجد ” : ” ورؤى الأحلام تقربنا فنعود ونسعد يا أسماء ” .. واسماء كناية عن المجد الذى صدح به شاعرنا فى صدر ديوانه .. القصيدة الثالثة ” الخط الأحمر ” .. لم نسمع من قبل أن هناك خطوطا حمراء فى ممالك العشق حتى فى العصور الكلاسيكية التى إرتادها الكثر من الشعراء .. إلا أن دبلوماسية الشعر التى أحالت القيود إلى جدلات عرس فى الأيادى جوزت كذلك لشاعرنا كركساوى وهو الدبلوماسى الكبير أن يضع لمملكة عشقه خطوطا منها الحمراء . ليش عل الديوان عاطفة متأججة .. وتعتبر قصيدة الخط الأحمر بمثابة الحد الفاصل ما بين قصيدتى ” أنت المجد ” , و” أشجان غريب ” إعتيادا وإعتناقا وإنتصارا داويا على دوامة أشجان الغربة والأشواق واللوعة : ” تجاوزنا الخط الأحمر .. من بعده لاخوف علينا ” .. نص رزين الإيقاع أعلن فيه شاعرنا كركساوى رسو إصطخاب الأشواق والتعود التدريجى افيقاعى على النأى عن الأحبة والأقربين والصحبة .. فهى مشاعر ساخطة صاخبة يتذوقها كل من ذاق لوعة الفراق أو الإرتحال . بل صرح شاعرنا بأننا : ” كتبنا فى كل الصحف ونشر الخبر ملايينا ” إنها علنية الإنتصار إذن .. علنية الإنتصار على هذا المد الصاخب للأحزان والشان والألم .. حيث لم يتمالك الشاعر نفسه فطفق يعبئها من سناء هذا الزهو :
تجاوزنا الخط الأحمر
وعبرنا إلى الفرح سنينا
وظننا أن الفرح سيبقى أعواما بل يزخر تلوينا
” وظننا هنا كسرت سيل الفرح المنهمر فى دخيلة الشاعر كركساوى ” ..
ونسينا أنا كالأضواء
نموت ونفنى رياحينا
تموت الزهرة والعطر
يجتاح انوف المارينا
فهنا لم ينسى شاعرنا نفسه ما عبأ به نفسه من فرح معربد , انه مرتبط بالدورة الحتمية والجبرية للكائنات الحية ” نشؤ فترقى ثم فناء ” .. إيمان عميق بالله واليوم الآخر .
أما القصيدة الرابعة فى الديوان والتى جاءت بعنوان ” الرحيل ” جاءت بصوت الخبير الذى أعلن هزيمة الأشواق وأوجاع التسواح فى مرافئ نائية وبعيدة بالتعود وإختزال جراحات المسافات .. متجاوزا لكل الخطوط الحمراء التى عادة ما يرسمها الآخر لكل من يريد بناء مملكة للعشق مستخدما فيها نظرية القوة فى العلاقات العاطفية الدبلوماسية مفسحا الطريق لمن يريد العبور فوق الأمواج العاتية وصولا إلى ضفة الإنتصار الأخرى .. ” إن كنت تمنيت رحيلا فأرحل فى سر , لاترجع ” .. فالموج الأزرق فى عينيك ينادينى نحو الأعمق ” حاثا له على المضى قدما لإجتياز الخط الحمر .. ” أرحل فى ليل الظلماء لاترجو القمر إذ يسطع ” .. حتى لو ضجت الدنيا بالأضواء فأرحل , مهمة شاق يزجيها إنسان لآخر فضل الرحيل على الصهيل .. ويخاطبه متحديا أن يجعل نفسه أنموذجا له : ” من تاق للعلياء دون جدال والقبة الزرقاء كان مثالى ” .. وهو الذى قفز فوق عتبات العشق متجاوزا لكل خطوطها الحمراء ..
وبعد أن رسم لنا الشاعر كركساوى تفاصيل وتضاريس وملامح مملكة عشقه فى قصائد اليوان الثلاثة الأول مسورا ومطرزا لها بالكثير من التفعيلات والوهوهات والنهنهات فى إيقاعات متباينة إلا أنها تتوازى طولا وعرضا فى السرد والجرس فى مد وجزر إيقاعين راقيين . وكان كريما معنا كركساوى إذ فتح لنا شاعرنا كركساوى مملكة عشقه عبر قصيدة : ” الوردة النائمة ” : ” ياوردة نامت بخد حبيبتى .. لثم الخدود على الورود حرام ” .. إذن هى مملكة للعشق مدخلها ورود وأقاحى .. ولم ينس ايضا ن يقول لنا ان مملكة عشقه تحكمها قوانين ولوائح عاطفية : ” لثم الخدود على الورود حرام ” .. حيث لاتخلو من قوانين شرعية إن شئت : ” من لى بفتوى عالم متمرس خبر الحياة وهمه الإفهام ” فلا بأس حسب الشاعر كركساوى أن تكون فتاوى شرعية . وايضا تحفل مملكة عشق كركساوى بالشارات والترميزات السياسية ولا اعتقدنها على غرار الإسلام السياسى .. فأخذ شاعرنا كركساوى يصف لنا من زاوية أخرى من خلال قصيدته ” الناس الجد ” إيماءة إلى تجاوزه لكل الخطوط الحمراء فى مملكة عشقه : ” وأرسلنا إلى الدار التى تمتاز بالأمن ” فهى آمنة أيضا .. فلا تخلو القصبدة من شارات سياسية أو مسيسة : ” وكلنا تمردنا .. أنا قد كنت أكبرهم .. كان هناك حوارات عقب التمرد .. وحينما قارب احوار إلى الإنتهاء .. وحين عبرت نافذة الهوى العذرى تمردنا ” .. حيث إنتكس الحوار داخل مملكة عشق كركساوى .. حذر : ” ثورة الشجان والأمطار تنبثق ” .. ولايزال الحوار مستمرا : ” فلم أر مثلها عصفورة تقتات فى حذر ولم تصل ” .. والخوف كذلك من أن : ” لو حبال الوصل فى أرجوحة الأشواق تنقطع ” .. ولم تكن هناك نهايات لحوارات كركساوى فى داخل مملكته : ” ولما أشرق الصبح وباتت فوقنا النجمات تمتقع ” .. كان لابد لفرسان الجد من تمرد آخر ومن نع آخر ربما أكثر ضراوة من سابقه : ” تيقظنا وجمعنا أظافرنا ” .. وهكذا يحرس الفارس الجد مملكة عشقه .
كما أعجبتنى من قصائد الديوان القصيدة التى بعنوان ” عتاب ” التى جاءت مملؤة صورا بيانية ومفعمة بالموسيقى منذ مطلع القصيدة إلى آخر بيت فيها , : ” قالت خضراء العينين والمطر يسح على الشجر .. وحدائق خديها تمور ومياه شعابها كالمطر .. ونسائم فوديها تفوح عطرا يتحرق للنشر ” .. حتى يصل بنا إلى البيت التالى : ” من أدخل إسمك سيدتى فى سفر حياتى ونوباتى ” .. فهى أيضا مملكة تسكنها الجنون .. ولذا يحذر كل من يقترب من سفر حياة الشاعر ونوباته المتكررة . وفى قصيدة فى ” هدأة الليل ” برزت لنا عاطفة دينية غائمة تسكن جوف القصائد .. رغم تسواح شاعرنا وإغترابه كثيرا فى فضاءات ربات العيون الخضر اللائى تمور جدائلهن كالشلالات بالعطر والزهر .. فما نسى فى حمراوات لياليه تلك أن يزور مقام سيدته خاشع الرأس ليصلى هناك ركعته الأولى ليختلس هنيهة من الوثن فى قصيدته ” فى هدأة الليل ” :
أنا ,
فى هدأة الليل ,
أزور مقام سيدتى
فأدخل خاشع الرأس
أصلى الركعة الأولى
وأمضى راكعا ليلى
ولاينسى العقوبات التى تفرضها مملكة عشقه ” كأس صبيحة :
ألا يا صبيحة ماذا فعلت ** بكأسى وماذا بكسره نلت
أكان حرام وهذه أنت ** فمن ذا أحل وكيف اجترأت
ألا يا صبيحة كيف إنتهكت ** سلاما وريقا وعهدا كتبت
على نرجسات بدارى زرعت ** فصارت شموسا على خير نبت
وختاما هكذا تمضى بقية قصائد الديوان فى رزم إيقاعى سلس تأخذك من عاطفة جياشة إلى أخرى منهزمة إلى ثالثة متحدية ومكابرة ومشاغبة , مما ينم عن إضطرابات إيقاعية داخلية للشاعر كركساوى الذى إستطاع أن يلجم الكثير من غلوائها فى قصائد ديوانه الرائع ” من نارك إشتاق إليك ” ..
والسلام عليكم
[email][email protected][/email]