قصة قصيرة

الزلزال

-1
يومياً، وهو يستقبل الحي، آتياً من متاهات شرق المدينة، مخموراً مسطولاً، في الثلث الأول من الليل، متجهاً غرباً، قاصداً منزلهم في نهاية شارع المدينة الرئيسي. قميصه على كتفه، عاري الصدر، يتصبب عرقاً، صائحاً زاعقاً بأعلى صوته، شاتماً متحرشاً بكل عابرٍ وواقف. لحظتها يسود الشارع الاضطراب، ويُفسِح له المارة الطريق. مما حدا بأحدهم وصف ذلك المشهد بقوله:
– الزول ده مما يجي يزلزل الشارع كلو
ومن هنا أصبح مجرد ظهوره، يجعل الشارع يضج بنداءات العابرين والواقفين:
– الزلزال…الزلزال
ثم أصبح النداء صفة ملازمة له، واسماً يُعرّف به.
أعجبه الاسم، بدليل أنه يؤكده دائماً بجملته المشهورة، التي اقتبس مفرداتها من مدائح الطريقة الختمية:
– إن قلت يازِلّي آتيكَ بسرعةٍ
و (زِلّي) هذه تصغير لكلمة زلزال. قطعاً، هي من بنات أفكاره.

الزلزال، شاب وسيم وسامة بائنة، قمحي اللون، متوسط الطول. كان متين البنية قويها، قبل أن تهلكه معاقرة الخمر والمخدرات.
من لا يعرفه، يتحاشاه، بالنظر إلى بعض شراسةٍ تعتريه وهو في غير وعيه، فيفتعل معارك مع البعض لأتفه الأسباب، إلا أنه حقيقة، في حالات صحوه، طيب القلب، لحديثه طلاوة وحلاوة، شهمٌ، كريمٌ، أخو أخوان .
ثم إنه نجار موبيليا موهوب، يتعامل مع قطعة الخشب بإحساس فنان ورقة عاشق، يغازلها، يُلاعبها، يُداعبها، يجْليها، يشكلها كيفما شاء، فيُخرِج منها تحفة فنية لا مثيل لها.
كثيراً ما رأيته يتأمل قطعة أثاث أنجزها، يبتسم لنفسه وهو يمرر أصابعه عليها، يتحسس نعومتها، واستوائها، ومتانتها. في تلك اللحظات، يبدو وكأنه يحلق بعيداً سابحاً في عالمٍ من صنعه، لا صلة له بالواقع من حوله.
العملاء يعرفون موهبته تلك، فيصبرون عليه، لا يضايقونه ولا يستعجلونه، وهم متأكدون أنهم في نهاية الأمر سيحصلون على أثاثٍ في غاية الروعة والجمال. وهو في كل ذلك لا يهمه المال، إذ أن سعادته تبلغ ذروتها وهو يرى مدى الإعجاب والتقدير الذي يبديه الزبون. يردد دائما بعد كل مهمة يُنجِزُها:
– الزول المابيقدّر الشّغل النّضيف، ده زول ساكت، ما يستاهل
ثم يُكمِل ارتداء ملابسه، يُشعل سيجارته، ويمضي، متأبطاً رغباته، ممتطياً صهوة الطريق، شرقاً.

2-
حدثٌ مأساويٌ، وليد لحظته، قلب حياة الزلزال رأساً على عقب. فهو في أغلب الأحوال التي يكون فيها خارج وعيه، يدخل معارك صغيرة، لا تصل إلى حد الأذى الجسيم. بضع لكمات وصفعات يتخللها سباب، ثم يتدخل الآخرون وينتهي الأمر.
ذلك اليوم كان مختلفاً، مناسبة ما بالحي، عبّ فيها الزلزال من الخمر بما يفوق طاقته، وفوق ذلك بضعة لفافات من البنقو. اشتبك بعدها في حوار مع أحدهم، تطور الحوار إلى ملاسنة، ودون سبب معلوم، خُيّلَ للزلزال أنه تعرض للإهانة والاستفزاز، وأن الرجل يتعمد النيل من كرامته، فعاجله بخبطةٍ على رأسه بقطعةٍ حديديةٍ، سقط بعدها الآخر دون حراكٍ والى الأبد.
شرطة، وحراسات، وتحقيقات، واعترافٌ بالقتل، ومحاكمة، وحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت، وترحيلٌ لسجن بورتسودان، فارتداء للقميص الأحمر، في انتظار تنفيذ حكم الإعدام.

الآن، حين يحكي الزلزال هذه الأحداث، يقسم أنه في كل ذلك، كان في حالة من اللاوعي، كالمنوم مغناطيسياً، يأكل ويشرب ويتكلم ويتحرك بجسده فقط، أما عقله وتفكيره، كما يقول:
– فاضي، زي الممسوح باستيكة جديده

إلى الآن، وهو يسرد حكايته تلك، يتحسس عنقه غير مصدق أنه أفلت من حبل المشنقة بأعجوبة وفي آخر لحظة، وأن الدفاع عنه استطاع أن يستأنف الحكم، و يثبت أنه كان في حالة غير طبيعية, ينتفي فيها القصد والعمد، فحُكِمَ عليه بعشر سنوات سجناً قضى منها أربعاً، ثم أُطلِق سراحه مستفيداً من قرار (حكومة مايو )، إطلاق كل السجناء، بمناسبة إعلان الشريعة.
خرج الزلزال من هذه المحنة بنظرة مختلفة للحياة، تجنب الخمر تماماً، وما عاد يزلزل الطرقات، وإن احتفظ بالاسم، مكتفياً بتدخين لفافات البنقو التي لم يستطع التخلص من إدمانها فهي:
– تعدل الراس، وتخلي الواحد يشتغل بمزاج
كما يقول مبرراً استمراره في تعاطيها.
من بعد، تزوج، وأنجب، وأصبح ربّ أسرة، ومازال يردد بين حين وآخر وهو يضحك:
– إن قلت يا زِلّي آتيكَ بسرعةٍ

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. هذه من افضل القصص التي قرأتها واستمتعت بها، لماذا؟ ببساطة لان ذكر الاسباب والتحليل قد يخرجها من سياقها ويفسد عذوبتها، فحينما اسمع اغنية ما وتسرني جدا، يذهب هذا السرور بمجرد حفظها وترديدها وهذا ما ينطبق علي هذه القصة
    يبدو اننا امام قاص ممتاز نرجو منه ان يكثر من الكتابةالتي تذكرنا بالزمان الغابر، زمان برغم مساوئه إلا أن به من الإيجابيات وخاصة الاهتمام بجودة العمل اليدوي واتقانه بما يفوق ما هو موجود في التقنيات الحديثة والهشتك بشتك ولغوسة صنايعية اليوم
    لك ودي والي الامام الاخ الطيب كاتب هذه القصة الجميلة المشوقة المليئة بالعبر والدروس

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..