محرقة

محرقة
ألسنة اللهب تتصاعد ؛؛؛
عبر أسوار المنزل (الناصية !!؟….)
بعض السابلة يستوقفهم الحدث لهنيهات
دون أن يعني لهم حتى مجرد التساؤل عن مصدر اللهب ؟؟؟!!…
بل تتسارع خطاهم ، بينما يخفت ضوء اللهب الآخذ في الإنطفاء ؛؛؛؛
ثم لا تلبث أعمدة الدخان المشفوعة برائحة
ورق الكتب المحروق تتلوى ملونة فضاء الحي بغمامة دكناء …
سرعان ما تنقشع مخلفة وراءها خيوطاً رمادية بالغة الدقة تتداخل في تقاطع لتنسج سحابة شفيفة ؛؛؛
“حكيم” داخل الحوش الواسع يرقب في سادية وحشية الكتب وهي تستبيح متونها وحواشيها في سلبية متناهية الى نهم النيران الشرهة !؟
يداه في آلية صماء تمزق المزيد وتعده مسبقاً لتزيد به إوار النار من جديد قبل أن تخمد جذوتها تماماً !!؟…
إبتداءً ينزع الأغلفة … ثم ينشب أظافره في غلٍ دفين الى أحشائها باغراً بطونها
لتظل سبية مستباحة تتلظى على وقع إيقاع صمته المروع ..لا تجرؤ على منعه من ممارسة حقه في إفراغ حقده على هؤلاء الضلاليين !!؟….
كان “حكيم” لا يتوقف من إعمال يديه المحمومتين في تل الكتب الهرمي الآخذ في الإنهيار التدريجي مع مداومة السحب من رصيد القاعدة ؛؛؛
ثمة متعة طاغية إستبدت بمشاعر “حكيم”و عيناه تشهدان مصرع عمالقة الفكر و الإبداع ، و قد إستحالت آثارهم الى رماد !!؟…
( أنا نيرون العصر … ها هي روما من جديد تحترق … لا بل تاريخ الفكر و الخلق و الإبداع الإنساني … أنا “حكيم” الذي إحترق عمره و ذوت زهرة شبابه و
عشيت عيونه بين أقبية و سراديب و دهاليز عوالم محفوفة بالإيهام و غارقة في الغموض !!؟…
أحرق بيديَّ هاتين ، هذا التاريخ الأكذوبة !!؟….
و أحيله الى رماد ، نادماً ندماً وجودياً على كل لحظة ، أنفقتها بين عصوره و أزمنته ) !!؟…)
الجذوة مجدداً تبدأ في التوهج بفعل هبة ريح عبرت الفناء المكشوف الذي جلس في وسطه “حكيم”يواصل إلقام النيران مزيداً من ضحاياه !!؟….
و الضحايا يتساقطون وقوداً لهذا الجحيم الملتهب ، الواحد تلو الآخر .
( جارسيا لوركا ، ناظم حكمت ، بابلو نيرودا ، و إليا أبو ماضي و محمود درويش ) … بينما “حكيم” ينفجر ضاحكاً في هستيريا ، ( هؤلاء و آخرون حجبوا عني الوجه الآخر من المسألة … و غيبوني في جب النضال و الهم العام …
طوال حياتي لم ألج مكاناً أرضه رمالاً ناعمة … الحسك و الرمضاء دوماً مواطئ لأقدامي ، والدروب المعتمة الوعرة المسالك. من غيري موكول بعبورها !!؟…
في البدء و المنتهى ماذا جنيت !!؟…
+++
ها هو حصاد السنين ، ضاع هباءً منثوراً…
سيرة ذاتية ، لٌبابها غلظة في العيش و حواشيها إحباط شامل … موقع إجتماعي مغمور ، و ضمور في العلائق
الإنسانية ، و تاريخ ملطخ بالبقع السوداء من منظور رفقاء النضال الذين ترسموا الطريق السوي و أصبحوا من علية القوم.
* * *
على حين غِرة ، دهمه إحساس كاسح أن ثمة من يقف خلفه و يشهد معه طقوس حرق ( طليعة أعلام الفكر و الإبداع) و حينما رفع رأسه ، إصطدمت عيناه بعيني “عطا” المشفقتين فتساءل محتجاً
– منذ متى أنت هنا ؟؟!…
– لحظة إلتهام النيران آخر صفحات رأس المال و أمتدت ألسنتها الى سقوط الحضارة و ها هي تمحق مقدمة إبن خلدون !!؟….
ثم إستدار مواجهاً له و قد كست وجهه الحيرة و تلونت عيناه بالدهشة !!؟…
– هذه ردة … لا بد أننا لا زلنا نعيش في القرون الوسطى !!؟…..
– بل نحن في العصور الحجرية
ثم بعد هنيهة صمت
– قل لي من يسود الآن
مجيباً على سؤاله ، بسؤال
– أليس من يتخذ شرعة الغاب قانوناً للحكم و إدارة شؤون الناس !!؟…
مسترسلاً في مناجاة ذاتية
( من يحظى بطيب العيش و المكانة المرموقة و أضواء الشهرة … بالقطع لن
تغالط الوقائع الدامغة و تكذب على نفسك
إن إختلاق التبريرات لمن تبوأوا المراتب العليا دون جدارة أو حتى عناء ، يقدح في نبل مراميهم !!؟…
فهم رجال جوف بلا ملامح !!؟…
يسطون على النفوذ ويدعون الجاه
هذا كله هراء !!؟…. ثم مستطرداً
– إن المحرقة التي نصبتها لحملة مشاعل
التنوير الزائف ، هي ضرب من الكفر بهؤلاء الذين ملأوا رؤوسنا بالتراب … ليتنا كما قال “باخوس” كنا ملأناها بالخمر قبل أن نحشوها بخزعبلات هؤلاء الفصاميين !!؟….
إن ما أراه عبر تشكيلات قسمات وحهك ..
يا صديقي يتهمني بالتجني و الإتيان بجرم غير مسبوق لأنك كما يبدو لي تستهجن ما صدر مني و تستخف بفعلتي على الرغم من أن مبرراتي كامنة فيك … و لكنك تعجز كالآخرين عن البوح بها !!…
أمعن النظر في حالتي
بالقطع المسألة لا تحتاج
الى إعادة نظر
عقدان من الزمان
تعرضت خلالهما للمساءلة و التوقيف و الإعتقال و صنوف التعذيب !!؟…
غير أني لم أتراجع عن موقفي قيد أنملة،
بل لم أتردد لحظة ؛؛؛
رآية الحلم بغد مشرق …
ظلت دوماً تخفق فوق هامتي ؛؛؛
كل هذا بتحريض من منجزات هؤلاء السحرة !!؟…
و في نهاية المطاف ماذا حدث !!؟…
بالكاد إستطاع “عطا” أن يلتقط القفاز
من “حكيم” و يوجه سؤالاً
– من قال إنها نهاية المطاف
– على الأقل خاتمة مطافي أنا
– كدنا أن نغرق في طوفان بركة الأنا الآسنة !!؟….
– أليس هذا عصر الأنا !!؟…
ثم مردفاً
– ألقي نظرة عابرة على الخارطة الإجتماعية … الكل يلمع واجهته ، وخلفها تحاك المؤامرات و تنسج الأحابيل لإستنزاف مزيد من دماء المهمشين و المقهورين لرفد شرايين المتخمين ؛؛؛
يهتبل “عطا” سانحة توقف “حكيم” لهنيهات لإستجماع أنفاسه … فيحاول عبثاً أن يخفف شيئاً من غلوائه في سخرية لاذعة ؛؛؛
– أهذه بكائية ترثي بها أطلال العصر الدارسة ؛؛؛
لم يمنع الإسترسال في الإفضاء “حكيماً” من إمداد أحشاء النيران النهمة في شراهة ببنات أفكار طلائع رواد
الإنسانية في الخلق و الإبداع و الفكر المستنير….
كأنه بذلك يتخلص من الجرثومة التي إنسربت بوعي منه و إمتزجت بتكوينه الوجداني و سلوكه العام بحكم إلتصاقه الحميم بإنجازاتهم … حتى تحول الى دودة كتب تنفتح شهيتها الى رحيق جديد من عصاراتهم … كلما هضمت عصارة متمايزة و ذات نكهة خاصة !!؟…. * * *
حاول “عطا” مراراً أن ينقذ ما بقى من الأسرى من محرقة “حكيم”
– ألا تترك هؤلاء ؟؟!…
– دعني أشفي غليلي … لن يهدئ لي بال
إلا إذا شهدت بأم عيني مصرعهم جميعاً و صيرورتهم الى رماد تزروه الرياح !!؟…
– أتظن أن خلاصك يأتي عبر هذه المحرقة
– يأتي أو لا يأتي … المهم أنني تحررت من أصفاد هؤلاء السحرة !!؟….
بعد هنيهة صمت ؛؛؛؛
– الحرية تظل بلا قيمة إذا لم تهبنا الخلاص ….
– ربما حرية القول تمنحنا شيئاً من الرضا !!؟…
– هل الرضا عن مشروعية الفساد و تقنين
الإلتواء ، تسميه حرية تعبير … هذه حرية زائفة ، أرادوا بها إمتصاص غضبنا !!؟…
– الحوار معك حرث في البحر إذا لم تتخلص من سحرهم !!؟…
– إدن أنت لا تعتبر ما حدث مجرد نزوة طارئة !!!….
– لا إعتقد إن من يضحي بهذه النفائس ،
تكون تضحيته مجرد نزوة طارئة !!؟…
– أهذا إقرار بقيمة هذه الكتب !!؟…
– لا أنكر ذلك بإعتبار ما كان ؛؛؛
– و الآن ؟؟!…
– أصبحت لا تضاهي في قيمتها حفنة هذا الرماد الذي تذروه الرياح بعد قليل !!.
يقول ذلك متبوعاً بحركة يده اليمنى و هي تأخذ قبضة من كومة الرماد أمامه و يرمي بها في وجه الريح و قد أنفجر في ضحك هستيري !!؟….
و حينما إنتبه الى علائم الإمتعاض المرسومة في قسمات وجه “عطا” توقف عن الضحك ، بغتة ورفع صوته صارخاً
– تأكد أنني أفعل ذلك و أنا في كامل
قواي العقلية ، و عن قناعة مطلقة …
هذا الزمن الأغبر يا صديقي قد إغتال الدهشة في العيون و وأد الفضول في النفوس ؛؛؛
ثم بعد لحظة صمت
– من كان يصدق أن الفضول لا يحرك
جيرانك ليتفرجوا على الحريق الذي شب في دارك !!؟…
هل يعقل منطقاً بفكرنا المثالي الذي إنسرب الى وجداننا طوعاً من قبل أساطين المعرفة و الفكر ، أن نتجانس مع هؤلاء الحسيين ؟؟!…
ظل “عطا”يحاول أن يجد تفسيراً لهذا الفعل الغرائبي ، دون جدوى … …
بينما “حكيم” لازال مصراً على رأيه
– محك التجربة الواقعية أفضى الى فشل
ذريع !!؟…
هذاالإرث الحضاري الذي نتباهى به صلفاً هل أوقف الحروب !!؟… هل جمل الحياة !!؟!! ….. ربما صارت الآن أكثر قبحاً. … ألا ترى أن العيش على وجه هذه البسيطة صار عبارة عن عقوبة أبدية !!؟…
ثم مسترسلاً
ها هم حشود شياطين الإنس يتأهبون ليطوحوا بنا في حرب كيمائية ؛؛؛ ألا ترى أننا على حافة حرب ذرية !!!؟….
مواصلاً
كل الأنظمة التى تحكم العالم ألا ترى أنها عجزت تماماً عن تقديم السعادة لشعوبها، رمى في محرقته كما يسميها “عطا” آخر عصارة مفكر من مكتبته الكبرى ، ثم رفع رأسه و واجه “عطا”
– ماذا لو أحرق كل البشر هذا الإرث الزائف …. و بدأ الإنسان من جديد يحبو على أرض بكرة !!!؟؟….
[email][email protected][/email]
المحرقة…قصة تتجسد فيها نوازع فكرية متعددة ..من شتي بقاع العالم…ومن حقب تأريخية متفاوتة…تعمل جميعاً علي نسج بناء الحضارة الإنسانية…التي تختلف المرئيات في تقييمها من واقع الحال لمن يعيش ويتفاعل مع واقعها..أراد المبدع فيصل مصطفي متربعا صهوة الأدب السوداني أن يبرز التناقضات الفكرية من خلال بطلي القصة حكيم وعطا في سجال جاد أفضي إلي حالة التوهان الذي تعيشه الإنسانية في تقييم ارثها وضبابية المشهد الآني بمعطياته المقيتة التي أحالت جماليات ذاكرة الزمن الجميل حطاما في كل مكان كنتيجة لعدم كمال ونضج العقل الجمعي الانساني في خلق واقع متزن يستطيع أن يلبي احتياجات وطموحات الأفراد في المجتمع الواحد أو داخل منظومة العالم ككل. …..
شكراً أبا باسل لما طرحته من
أفكار عن نص محرقة فهو فعلاً
يمكن أن نطلق عليه نص أفكار
لأن مداخلتك رغم قصرها تبدو
كأنها نص موازٍ للنص السردي
مع مودتي