مخاطر سد النهضة – حقيقة أم تهويل ؟ (2)

يشمل النقاش اليوم ثلاثة أمور : (أ) محاولة إزالة لبس عند بعض الناس بأن السد سيقلل “سرعة سريان” النيل إلي الخرطوم وأوضح أنه سوف لن يفعل ذلك ولن يؤثر إطلاقا في “الطاقة المفيدة ” للمياه التي تدخل السودان ؛ (ب) توقعاتي بشأن خصائص “النيل الأزرق الجديد” الذي سيكون بعد قيام السد ؛ و (ج) المجهول في “فترة ملء البحيرة” ووجوب التعامل معه من اليوم . وأنني أعتبر ما أقدمه مشهيات للعارفين أكثر مني ليفيضوا.

أولا : تخوفات يجب إزالة اللبس حولها (أرجوا الصبر على الفقرات الثلاث التالية !)

مثال : تخوف بعضهم من أن “فرق الإرتفاع” بين تانا والخرطوم (1460 مترا) والذي (وفقا لفهمهم) يدفع الماء حتى الخرطوم قبل قيام السد ، سيحل مكانه ، بعد قيام السد، “فرق إرتفاع” أقل منه بكثير بين موقع السد والخرطوم (120 مترا) ، فتقل بذلك سرعة التدفق وتصبح بنسبة 120 إلى 1460 أي 1 على 12 فقط مما كانت عليه !

ليس لهذا القول أي أساس . فحتى إن افترضنا أنبوبا مثاليا ليس له أي مقاومة لسريان الماء (أي أن مقاومته صفرا) ينقل الماء من تانا إلى الخرطوم وطبقنا عليه “فرق العلا” الأول (1460 مترا) بين نهايتيه ، وحسبنا السرعة عند الخرطوم؛ ثم فعلنا نفس الشيئ بين موقع السد إلى الخرطوم بفرق علا 120 مترا وحسبنا السرعة عند الخرطوم أيضا، فإننا نجد النسبة بين السرعتين أقل من ثلاثة فاصل خمسة فقط !

ولكن الذي قمت بافتراضه أعلاه هو مثالي ، بعيد كل البعد عن الحقيقة. فالحقيقة أن “فاقد الطاقة” في مجرى النيل بين تانا والحدود السودانية كبير جدا (نسبة لنتؤآته الصخرية وحجارته الكثيرة وتعرجاته ) ويأكل هذا الفاقد “طاقة الوضع” أوسمها “طاقة العلا”، يأكلها أكلا ، عبر معمعة تحجيم السرعة ، الناتجة عن الهبوط الشديد والتي تصل إلى حوالي 20 مترا في الثانية في بعض المواقع. وعندما تصل المياه إلى الحدود السودانية تكون “طاقة الوضع” التي بدأت بها من تانا قد هلك معظمها وتكون سرعتها قد خفضت هي الأخرى بحيث يمكنك السباحة فيها . ثم تقل السرعة أكثر وتدريجيا إلى داخل السودان ، حتى تستقر تحت تحكم عاملين محليين تفرضهما طبيعة المجرى في كل جزء من النيل : (1) ميل الأرض و(2) مقاومة المجرى ، بالإضافة إلى العامل (3) “معدل التدفق” وهو تقريبا ثابت على طول النيل (أي ليس محليا) . أما المرتفعات الأثيوبية فليست عامل بين هذه وليس لها أي دور داخل السودان!
[إضافة: العاملان المحليان (1) و(2) لهما الغلبة في تحديد السرعة ؛ أماالعامل الثالث فيحدد عرض النيل وعمقه (أي مساحة مقطع التدفق) ويؤثر في قيمة العامل (2) ].

إذن السؤال هو: “هل يقلل السد “معدل التدفق” ؟. الجواب : سيكون معدل التدفق السنوي بعد “فترة ملء البحيرة” هو نفسه الذي كان يصلنا قبل السد . المشكلة “المحتملة” هي فقط “أثناء فترة ملء البحيرة”.

خلاصة قولي : قبل وجود السد ، لا تستمر سرعة السريان بين تانا والحدود لتنقل الماء لنا حتى الخرطوم ! إذ تهمد السرعة كثيرا عند مداخل السودان وتصبح تحت تحكم طبيعة المجرى المحلية ومعدل التدفق. فداخل السودان يصبح فعل مرتفعات أثيوبيا تاريخا ليس له أثر فيما يختص ب “الطاقة المفيدة” ، سوا وجد السد أو لم يوجد. فقط يظل أثر المرتفعات باقي في كميات الطمي القادم منها . أما فيما يختص ب”الطاقة الحرارية” في الماء ، فنعتبرها “غير مفيدة” لأننا لا نستطيع الإستفادة منها ، فنسميها “فاقد”،( تماما كالقط مع لحم المشلعيب !)
وفي جملة قصيرة: وجود السد أو عدمه لا يغير شيئا في “الطاقة المفيدة” (ومنها السرعة) في المياه الداخلة للسودان.

ثانيا : النيل الأزرق الجديد

أجهل تفاصيل خطة تشغيل السد أثناء “فترة ملء البحيرة” . هذه الخطة سوف تشكل وتحدد طبيعة وخصائص النيل الأزرق الذي سوف يوجد أثناء تلك الفترة الفريدة . وكل مشاكل التخزين المتوقعة من السد (بمعزل عن ذات العلاقة بمسببات الإنهيار) هي في هذه الفترة بالتحديد . والتي يريد الأثيوبيون أن تكون أقل من عشرة أعوام ويريد المصريون أن تكون أكثر من كم وعشرين عاما . وقصر الفترة مهم للغاية بالنسبة للإستثمار الأثيوبي لكن المصريين يقولون بتأثيره على إرتفاع مياه السد العالي. وأتمنى أن تكون وزارة الرئ ملمة بالْخطة بالكامل وشريكة فيها. وإن لم تكن ملمة بها وشريكة فيها أيضا ، فأتمنى عليها أن تعمل بكل ما لديها من إمكانات لتحقيق ذلك في أقصر وقت ممكن بناءا على روح التعاون والصداقة بين الشقيقين .

أما توقعاتي بشأن النيل الأزرق الجديد ما بعد “فترة ملء البحيرة” ، فهي كالتالي (وأرجو من ناس الري أن يصححوني إن أخطأت ، فإن الناس تريد أن تعرف ماذا يكون حال النيل!) :-

1. سيكون التدفق السنوي هو نفس التدفق الذي كان يصلنا قبل السد ، وهو حوالي 48 (ثمانية وأربعون) بليون متر مكعب/عام .وسوف تغادر المياه السد عبر التيربينات معظم الوقت. وقد تستخدم بوابات التفريغ في فترة ذروة الأمطار في الهضبة.
2. سيكون النيل عموما شبيها بنيلنا الذي نعهده أيام نهايات الخريف في السودان قبل السد ، لكنه مستقر تقريبا في تدفقه طيلة العام ؛ وسوف لا تختلف سرعة السريان كثيرا عما هي عليه في أيام نهايات الخريف حاليا .
3. سوف لا توجد فيضانات الخريف التي نعرفها .
4. سوف تقل كثيرا كمية الطمئ القادم من أثيوبيا .
5. سوف يكون إرتفاع النيل أقل من إرتفاعه زمن الفيضان قبل السد ، لكنه أيضا سيكون أعلى من إرتفاعه في بقية العام ،خاصة الصيف. فارتفاعه بعد قيام السد سيكون مستقرا تقريبا طول العام .

وعليه ، يمكنني القول بأنه لا ضرر ظاهر لي على السودان من السد بعد “فترة ملء البحيرة” . بل التفاصيل تقول بزيادة مكاسبنا على خسارتنا منه ، حتى فيما يتعلق بالفيضان والطمي .

ثالثا : الخلاصة

قلت أن وجود السد أو عدمه لا يغير عمليا في “الطاقة المفيده” للمياه الداخلة للسودان. فأي كمية مياه تغادر سد النهضة في المستقبل سوف تصلنا في الخرطوم تماما كما كانت تصلنا المياه قبل قيام السد وبنفس السرعة تقريبا . ففقدان فرق العلا بين تانا والسد ليس له تأثير في سرعة سريان النيل في السودان .
وبكلمات أخرى: إن إستغلال أثيوبيا ل”طاقة” مياه النيل الأزرق لا يؤثر على السودان إطلاقا لأن هذه الطاقة لم تكن أصلا تصلنا في هيئة “مفيدة” .
وقلت أنه لا يبدو لي الان أي ضرر ظاهر على السودان جراء خصائص النيل الأزرق الجديد المتوقعة بعد “فترة ملء البحيرة” ؛ بل قد تكون هناك منافع .

ولكن قد تكون هناك مشكلات في “فترة ملء البحيرة” وقد لا تكون . يتوقف الأمر على سياسة السد التي ينوي الأثيوبيون تنفيذها أثناء تلك الفترة . وأرى أن يكون هذا الأمر هو أحد أهم موضوعاتنا في شأن السد الآن وقبل فوات وقت الإتفاقات الأخوية الودية … فبالرغم من أن كل من أعرفهم تقريبا وشخصي نحب في دواخلنا كل الخير والتقدم لشعب أثيوبيا (فنحن ، وحقيقة تاريخية لا إدعاءا، فرعان من شجرة واحدة) ، ونتمنى لهم تخطي مرحلة الفقر والمجاعات سريعا وإلى الأبد ، وأهم ما يساعدهم في ذلك هو بناء السدود ، فهي من أقوى مصادر تنمية أثيوبيا ، وظالم ، في رأئي ، ومعتدي من يحاول منعهم بناءها ، إلا أننا لا يجوز أن نتجاهل إحتياجات بلادنا التي “قد” تتأثر أثناء فترة ملء البحيرة إذا لم تأخذها خطة تشغيل السد في الحسبان. فهل آمل أن نتمكن، نحن وهم ، من وضع أسس لهذه الفترة تكون عادلة لنا ولهم ؟ وفكروا معي وأفكر: بأن جزءا من الحل أن نعطيهم فائض حصتنا السنوي (الذي ظل يذهب لمصر عقودا عديدة) يخزنوه لنا عندهم ، يفيدهم في رفع مستوى البحيرة ، ونأخذه وقت الحاجة. لكن ……ولا أتم الكلام ، فقد قال أحدهم يوما: “جني وجن الكلام البقولو كلو “! لكن برضو سنواصل!

أحمد إبراهيم الحاج – كلية الهندسة ، جامعة الخرطوم سابقا .

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. تحليل رائع تناول فيه المهندس احمد ابراهيم اثر وتبعات سد النهضه علي السودان من زوايه مختلفه عن كل ما اطلعنا عليه وما اثير من جدل حول تاثير سد النهضه علي حصة السودان من مياه النيل الازرق الف شكر لك يا باشمهندس

  2. شكراً للأخ المهندس أحمد إبراهيم مرّة أخري وأنا أتفق معك وكنت قد تداخلت قبلاً معك ومع الأخ المهندس سلمان وأنا أعيد ذلك هنا رغبة في إثراء الحوار وتسهيلاً على السادة القرّاء وإعطاء الفرصة للذين لم يطّلعوا علي ذلك من قبل ولك التحيّة.

    تحيّاتي للأخ المهندس أحمد إبراهيم الحاج على ردّه المبسّط والكافي لإعطاء معلومة يسهل تناولها في مثل هذه المواقع بعيداً عن التفصيل الأكاديمي الممل أحياناً لغير المتخصّصين. وكنت قد تفاعلت مع الأخ المهندس سلمان بخيت خلال مداخلاتي معه المبسّطة جدّاً خوفاً من الدخول في التفصيل الذي قد يملّه القارئ غير المتخصّص. وليسمح لي صاحب المقال أن أورد هنا ما قد كان هناك تعميماً للفائدة وإثراءاً للحوار.

    ([ود صالح] 03-24-2014 08:05 PM
    الأخ المهندس سلمان لك التحيّة على المجهود الكبير ودعني أوّلاً أتّفق معك في أنّ كميّة مياه النيل الأزرق المتدفّقة سوف تتناقص أثناء فترة ملء حوض بحيرة سدّ النهضة ولتخطّي هذه المشكلة فإن ملء البحيرة سيكون على مراحل ولفترة طويلة نسبيّاً حتّى لا تتأثّر كميّة تدفّق المياه بشكل كبير يؤثّر على العمليات الزراعيّة بوجه خاص في السودان لأن مخزون المياه في بحيرة السدّ العالي سوف يعوّض النقص الناتج عن تعبئة خزان سدّ النهضة.

    أمّا ثانياً فأختلف معك كليّاً في أنّ سرعة تدفّق المياه من سدّ النهضة سوف لن تنخفض بعد إمتلاء بحيرة السدّ وذلك لسببين أوّلهما أنّ منسوب المياه عند بحيرة سدّ النهضة سوف يرتفع نتيجة لزيادة التراكم المائى خلف البحيرة مستفيداً من وجود المساقط المائيّة المرتفعة وثانيهما أن هذه المياه المتجمّعة خلف البحيرة لا تزال تحتفحظ بكامل طاقة وضعها والنقص الوحيد فيها سيكون نتيجة للطاقة المبدّدة في تحريك التوربينات لإنتاج الطاقة الميكانيكية ومنها الطاقة الكهربائيّة وسوف تخرج المياه بعنفوان تدفّقها وطاقتها عبر مجري النهر وصولاً لبحيرة السدّ العالي والذي سوف يعاود التخزين من جديد. بما أنّ كميّة الماء المتدفّق بعد إمتلاء بحيرة السدّ ستكون كما كانت قبل بناء السدّ وعلى إفتراض أنّ مقطع مجري النهر ظلّ ثابتاً ففي هذه الحالة ستكون سرعة الجريان مساوية لتلك التي كانت قبل ملء خزان السدّ أي v= q/a).

    ([ود صالح] 03-25-2014 06:14 PM
    شكراً الأخ (ود الحاجّة) فقد كفيتني مؤنة الردّ على الأخ المهندس سلمان إسماعيل الذي أطلب منه مراجعة وتصحيح الأرقام التي ذكرها ويبدو أنه قد خلط بين أسماء الأعداد عند البريطانيين والأمريكيين وعليه أن يقسم على ألف للوصول للرقم الصحيح.

    وأؤكّد ان مصر لن تتأثّر أثناء ملء بحيرة السد فهناك ما يكفيها من المياه في بحيرة السدّ العالي ذات التخزين القرني ولن تتأثّر بعد ملء بحيرة السدّ لأن المياه المتدفّقة سوف تعبر مباشرة عبر بوابات توليد الكهرباء والبوابات الأخري إلى أسفل النهر ولكنه الإعلام المصري الذي لا يرضيه إن يستفيد الآخرون من تلك الموارد المائية التي تجري بين أيديهم.

    جريان مياه النيل الأزرق سيكون أكثر إستدامة طوال العام وأقل خطورة على القاطنين على ضفافه مع تأثّر الري الفيضي وتقليل خصوبة التربة التي سوف تتطلّب مزيداً من الأسمدة للتعويض.

    ومع ذلك يمكن للسودان تسليف إثيوبيا عدّة مليارات من حصّته لملء الخزان خصماً من حصّته لدى مصر والبالغة 6 مليارات متر مكعب سنويّاً عن المدّة منذ تشغيل خزان السدّ العالي وحتّى تاريخه.

    وكذلك لإثيوبيا أن تستدلّ بما أقدمت عليه تركيا من الإستفادة الكاملة من مياه الفرات وترك المتبقّي للذي يلي من الجوار مستدلّة في ذلك بحديث نبوي شريف ما معناه أن تأخذ حاجتك من الماء الجاري أوّلاً ثم تطلق الباقي للذي يليك وكانت تلك فتوي شرعيّة إستندت عليها ولم نر نقضاً لها في وقتها من الأزهر الشريف).

  3. مساهمة المهندس احمد ابرهيم تنظير هندسى مفيد فليناقشه المهندسون . اضافتى رؤية سياسية وهى ان
    سـد النهضة فى الاصل مشروع اسرائيلى . بعد اربعة سـنوات تقريبا سـيكتمل بناء السد ويمتلء. فى ذلك التاريخ سيقول الاثيوبيون نحن شعب تعدادنا مائة مليون وفقراء وديرين حقنا من الماء، رغم قولهم الان ان السـد لانتاج الكهربائى!!!. طيب الموية تودوها وين يا اثيوبين ؟ سـيقولون لمن يشترى. طبعا السودان ومصر لن يشتروا الماء لانهم متعوديين على الموية المجانى. عندئذ اسـرائيل ستنبرى وتعرض شراء حصة اثيوبيا من المياه. فى تلك الفترة سـتخلق الظروف المواتية فى مصر تجعلها تقبل تمرير حصة اثيوبيا من المياه الى اسـرائيل من خلال صحراء سيناء فى مقابل اموال تدفع لمرور المياه. العندوا عمر يصبر اربعة سنوات ويتحقق من هذه النبوئة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..