فصول من كتاب (الأصل الأفريقي للحضارة : خرافة أم حقيقة ؟

الأصل الأفريقي للحضـارة : خرافة أم حقيقة ؟
المؤلف : شيخ أنتا ديوب

النسـخة الإنكليـزية ? ترجمـة
محمد السـيد علي

لاورينس هيل وشركاه
نيويورك ? ويست بورت

من هو (شيخ أنتا ديوب)

ولد (شيخ أنتا ديوب) النصير المعاصر للهوية الأفريقية في مقاطعة (ديوربيل) بالسنغال
في يوم 29 ديسمبر 1923 من أب أرستقراطي مسلم وعائلة تنتمي بحسب قوله إلى (الجماعة المريدية) وهي الجماعة الإسلامية الوحيدة المستقلة في أفريقيا . تلقى تعليمه الأولي في مدرسة إسلامية تقليدية بالسنغال ثم نال درجة البكالوريوس في السنغال قبل أن يشد الرحال إلى فرنسا وهو في الثالثة والعشرين من عمره لمواصلة دراسته في الفيزياء ، ثم ما لبث أن وجد نفسه منجذبا بشكل عميق نحو الدراسات ذات الصلة بالمنشأ الأفريقي للإنسانية والحضارة . بعدها أصبح (ديوب) ناشطا فاعلا أكثر وأكثر في الحركات الطلابية وأصبح يطالب بتحرير المستعمرات الفرنسية .

في عام 1951 جرى رفض رسالته لنيل الدكتوراة في جامعة السوربون والقائمة على فرضية أن حضارة مصر الفرعونية كانت حضارة أفريقية . بغض النظر عن ذلك فقد جرى نشر الأطروحة بواسطة مطبوعة (الوجود الأفريقي) تحت عنوان (الأمم الزنجية والثقافة) ونالت إستحسانا عالميا . جرت بعد ذلك محاولتين لنيل الدكتوراه غير أن المحاولتين أخفقتا ، إلا أنه بحلول عام 1960 دخل في مناقشات مع سلسلة من علماء الإجتماع ، علماء علم الإنسان ، المؤرخين ، مدافعا عن أطروحته ونجح في حملهم على دعمها . بعد عقد من الزمان وبعد جهود جبارة وعظيمة نال (ديوب) درجة الدكتوراة وفي نفس العام أي 1960 نشر (ديوب) عملين أخرين هما (الوحدة الثقافية لأفريقيا السوداء) و (أفريقيا السوداء ما قبل الإستعمار) .خلال فترة دراسته كان (ديوب) ناشطا سياسيا قويا ففي الفترة ما بين 1950 ? 1953 أصبح السكرتير العام للتجمع الديمقراطي الأفريقي وساعد في تأسيس مؤتمر الطلاب الأفارقة الشامل في باريس عام 1951 وشارك كذلك في المؤتمر الأول للكتاب والفنانين السود الذي إنعقد في باريس عام 1956 وفي المؤتمر الثاني الذي إنعقد في روما عام 1959 .

عند عودته للسنغال عام 1960 واصل الدكتور (ديوب) بحوثه وأسس مختبرا للكربون الإشعاعي في داكار وفي عام 1966 عقد في (داكار) المهرجان الزنجي الأول للفنون والثفافة وقد كرمته السنغال هو والأستاذ دبليو. إيي .بي. دبويس كباحثين لهما تأثير عظيم على الفكر الأفريقي في القرن العشرين . في عام 1974 وقع حدث هام في عالم المتحدثين باللغة الإنكليزية حينما نشر كتاب (الأصل الأفريقي للحضارة : خرافة أم حقيقة ). في عام 1974 أعاد كل من الدكتور (ديوب) و (ثيوفايل أوبينقا) معا وبكفاءة التأكيد على المنشأ الأفريقي للحضارة الفرعونية وذلك في منتدى عقد في القاهرة تحت رعاية اليونسكو . في عام 1981 جرى نشر أخر أعماله الهامة (حضارة أم بربرية) .

كان دكتور (ديوب) يعمل مديرا لمختبر الكربون الإشعاعي في المعهد الأساسي لأفريقيا السوداء بجامعة داكار وقد إحتل مكانه بين لجان علمية دولية عديدة ونال إعترافا كونه واحدا من رواد المؤرخين ، علماء الآثار المصرية ، اللغويين وعلماء علم الإنسان في العالم . لقد سافر بلادا كثير وحاضر في العديد من الدول وجرى الإستشهاد والإقتباس من كتاباته بشكل مقبول . لقد أعتبر (ديوب) بواسطة الكثيرين بمثابة (فرعون حديث للدراسات الأفريقية) . توفي (ديوب) في داكار العاصمة في 7 فبراير 1986 بعد أن قدم للإنسانية أعمالا تعد بمثابة ثورة وإنقلاب في مسار تاريخ الحضارات الإنسانية .

يعتبر كتابه (الأصل الأفريقي للحضارة) مرجعا لا غنى عنه لأي باحث جاد في دراسة أصول حضارة وادي النيل ، كونه قدم من الحجج الدامغة والدلائل المنطقية ما يثبت بما لا يدع مجالا للشك زنجية منشأ الحضارة الإنسانية في وادي النيل ، بعد أن درس علم الآثار والتاريخ والفيزياء وغاص في المراجع القديمة ينقب ويبحث السنين الطوال ، ملتقطا كل شاردة وواردة ومستدعيا شهادات وإفادات المؤرخين ، المتحيزين فيهم والمحايدين ، جتى إستطاع بصبره أن يقدم لنا واحدا من أفضل المراجع التاريخية في العصر الحديث عن حضارة وادي النيل .

تمهيد – مغزى عملنا

لقد بدأت بحثي في سبتمبر من عام 1946 ، غير أنه وبسبب وضعنا الإستعماري في ذلك الوقت فإنّ المعضلة السياسية هيمنت على كل الأوضاع الأخرى. في عام 1949 كان التجمع الديمقراطي الأفريقي يعاني من أزمة . لقد شعرت وقتها بأنه بات لزاما على أفريقيا أن تحشد طاقتها لمساعدة الحركة على تغيير المد الذي وصل إليه القمع ، من ثمّ جرى إنتخابي كسكرتيرا عاما لطلبة التجمع الديمقراطي الأفريقي في باريس ، حيث عملت خلال الفترة 1950 ? 1953 . في الفترة مابين 4 ? 8 يوليو 1951 عقدنا في باريس أول مؤتمر سياسي أفريقي شامل للطلبة بعد الحرب ، بحضور أكثر من (30) مندوبا من إتحاد طلبة غرب أفريقيا بما فيهم الآنسه أديريمي تيجو الإبنة الأخيرة لأوني حاكم (إيفي) . في فبراير 1953 صدر العدد الأول من مطبوعة (مسار الزنجية الأفريقية) التي كانت بمثابة الناطق الرسمي لطلبة التجمع الديمقراطي الأفريقي . في هذه المطبوعة نشرت مقالا بعنوان (نحو أيديولوجيا سياسية في أفريقيا السوداء) إحتوى ذلك المقال على (سير ذاتية للأمم الزنجية) تلك المخطوطة التي كانت قد إكتملت للتو . إن كل أفكارنا عن التاريخ الأفريقي ، ماضي ومستقبل لغاتنا ، إستخدامها في أكثر المجالات العلمية تقدما مثلما في التعليم عموما ، مفاهيمنا عن إقامة دولة فيدرالية مستقبلية ، قارية أو شبه قارية ، أفكارنا عن البنيات الإجتماعية الأفريقية في خططنا وتكتيكاتنا في المقاومة من أجل الإستقلال الوطني وهكذا ، كل هذه الأفكار جرى التعبير عنها في ذلك المقال .
أما فيما يتعلق بمشكلة الإستقلال السياسي للقارة فإن السياسيين الأفارقة الناطقين بالفرنسية قد إستأثروا بأوقاتهم الطيبة قبل الإقرار بأن ذلك هو الطريق السياسي القويم الذي يجب أن يتبع كما سنرى لاحقـا. بالرغم من ذلك فقد إستطاع طلبة التجمع الديمقراطي الأفريقي من أن ينظموا أنفسهم في إتحاد داخل فرنسا مع دوائر طلابية أفريقية سياسية والترويج لشعار الإستقلال القومي لأفريقيا من الصحراء إلى الكيب ومن المحيط الهندي إلى الأطلسي مثلما أكدت مجلتنا الدورية على ذلك . يشير أرشيف (إتحاد الطلاب الأفارقة في فرنسا) أنه لم يجر تبني المواقف المعادية للإستعمار حتى أظهرها طلاب التجمع الديمقراطي الأفريقي . لقد شددنا على المضمون الثقافي والسياسي التي ضمّناه في مفهوم الإستقلال للحصول على أخر مفهوم جرى تبنيه في أفريقيا الناطقة بالفرنسية : ما جرى نسيانه بالفعل هو النضال المرير الذي فرض على الدوائر الطلابية في باريس بأن يتصدوا له ، على إمتداد فرنسا وحتى بين صفوف طلبة التجمع الديمقراطي الأفريقي .
إن المضمون الثقافي على وجه الخصوص الذي سيسترعي إنتباهنا هنا هو أن المشكلة قد وضعت على أساس إسترداد الشخصية الأفريقية القومية الجماعية .لقد كان ذلك ضروريا على وجه الخصوص لتفادي مآزق الوسيلة . إن ذلك يبدو مغريا جدا لتضليل الجماهير المنخرطة في النضال من أجل الإستقلال بنيل الحريات بحقيقة علمية ، ذلك بالكشف عن الماضي الأسطوري المنمق . إن أؤلئك الذين إقتفوا أثر مجهوداتنا لأكثر من (20) عاما يدركون الآن أن هذه ليست هي الحجة وأن هذا الخوف بقي بلا أساس . لا جدال على أن هناك ثلاثة عوامل تتبارى في تشكيل الشخصية الجماعية لشعب ما : العامل النفسي ، قابلية المفهوم الأدبي للتأثر وهو العامل الذي يسمى في مواضع أخرى بالمزاج القومي وهو العامل الذي أفرط الشعراء الزنوج في التشديد عليه . إضافة إلى ذلك فهناك العامل التاريخي والعامل اللغوي وكليهما عرضة للتأثر لكونهما متصلات علميا . لقد كان هذين العاملين الأخيرين موضوع دراساتنا وقد حاولنا أن نبقى متشددين بناء على أرضية علمية . هل يستطيع المفكرون الأجانب الذين إعترضوا على مقاصدنا وأتهمونا بكل أنواع الدوافع الخفية أو الأفكار السخيفة أن يقدموا ما هو مختلف ؟ حينما يفسرون ماضيهم التاريخي أو يدرسون لغاتهم فإن ذلك يبدو عاديا ، غير أنه حينما يقدم أفريقي على فعل ذات الشيء للمساعدة على إعادة بناء الشخصية القومية لشعبه الذي شوهه الإستعمار ، فإن ذلك يعتبر شائنا أو مرعبا .
إننا نؤكد أن مثل هذه الدراسة هي بمثابة نقطة مغادرة بالنسبة للثورة الثقافية التي ربما جرى فهمها . إن كل الهروب المتسرع ليساريين طفيليين معينيين حاولوا تجنب هذا المجهود ، يمكن أن يفسره الخمول الفكري ، التثبيط أو اللا أهلية . إن البلاغة الثورية المزيفة الأكثر بروزا تتجاهل تلك الحاجة التي يجب أن تلبى إذا كان على شعوبنا أن يعاد ولادتها ثقافيا وسياسيا . في الواقع فإن الكثيرين من الأفارقة وجدوا هذه الرؤية رائقة تماما لكي تكون حقيقة ، غير أنه لن يمضي وقت طويل حتى لا يستطيع بعضهم نقض الفكرة التي مفادها أن السود موجودون ثقافيا وتاريخيا . لقد كان من الضروري صياغة الفكرة المبتذلة التي مفادها أن الأفارقة لا تاريخ لهم ومحاولة البدء من هناك لبناء شيء بتواضع . إن بحوثنا قد أقنعتنا بأن الغرب لم يكن رصينا وموضوعيا بما فيه الكفاية لكي يدّرسنا تاريخنا على النحو الصحيح وبدون تزييفات فجة . اليوم فإن أكثر ما يشوقني هو رؤية تشكيل الفرق ، ليس تشكيل القراء السلبيين بل تشكيل فرق عاملي البحث الصادقين والجرئيين ، المستهدفين رضا النفس والتثبت المعقد وإستقصاء الأفكار المعبر عنها في عملنا مثل :
(1) أن الحضارة المصرية كانت حضارة سوداء . إن تاريخ أفريقيا السوداء سوف يظل معلقا في الهواء ولا يمكن أن يكتب على النحو الصحيح إلى أن يتجرأ المؤرخون الأفارقة على ربطه بتاريخ مصر . إن دراسة اللغات ، المعاهد وغيرها على وجه الخصوص لا يمكن لها أن تتناول ذلك التاريخ على النحو الصحيح ، بمعنى أنه سوف يكون من غير الممكن إرساء علوم إنسانية أفريقية ، أي كيان لعلوم إنسانية أفريقية مالم تظهر تلك العلاقة بشكل شرعي . إن المؤرخ الأفريقي الذي يتجنب مسألة مصر هو ليس بمتواضع أو موضوعي أو هاديء ، إنما هو جاهل ، جبان وعصبي . تصور الموقف المزعج لمؤرخ أوروبي كان عليه أن يكتب تاريخ أوروبا دون الإشارة إلى الآثار الإغريقية ? اللاتينية ومحاولة إجتيازها كمنهج علمي . لقد كان قدماء المصريين زنوجا . إن الثمرة المعنوية لحضارتهم يفترض أن تحسب ضمن أصول العالم الأسود . بدلا من أن يقدم العالم الأسود نفسه للتاريخ كمدين مفلس فإنّ ذلك العالم كان المبادر الفعلي للتباهي بالحضارة (الغربية) المتفاخرة والماثلة أمام أعيننا اليوم . إن رياضيات فيثاغورس ، نظرية العناصر الأربعة لطاليس ، المادية الأبيقورية ، المثالية الأفلاطونية ، اليهودية ، الإسلام والعلوم الحديثة ، كلها لها جذور في النشأة الكونية لمصر والعلوم.
إن المرء في حاجة لأن يتأمل فقط (أوزيريس) الإله المفتدي ، الذي يضحي بنفسه ويموت ثم تبعث فيه الروح لينقذ البشرية ، شخصية تتماثل بشكل جوهري مع شخصية المسيح . إن الزائر لـ (طيبه) في (وادي الملوك) يمكن أن يرى بالتفاصيل جحيم المسلمين ( في مدفن سيتي 1 ? من السلالة الحاكمة التاسعة عشرة ) أي قبل 1700 عام من نزول القرآن .إن (أوزيريس) التي تجلس عند محكمة الموتى هي في الواقع (رب) الديانات الموحى بها ، تجلس على العرش في يوم الدينونة ونحن نعلم بأن هناك فقرات إنجيلية معينة هي نسخ عملية من النصوص الأخلاقية المصرية . إنه لبعيد عني أن تربكني مثل هذه التذكرة الموجزة بتقديم إثبات . إنه ببساطة أمر يتعلق بتقديم القليل من نقاط الإستدلال لإقناع القاريء الأفريقي الأسود الميال للشك بالتحقق من ذلك . لدهشته العظيمة فإنه سوف يكتشف أن معظم الأفكار المستخدمة اليوم لتدجين ، إضمار ، تذويب ، أو سرقة (روحه) قد جرى تصويرها بواسطة أسلافه . أن تكون مدركا لهذه الحقيقة ربما تكون الخطوة الأولى لإسترداد حقيقي لنفسك وبدون هذه الحقيقة فإن العقم الفكري سوف يكون هو القاعدة العامة .بمعنى أخر فإن علينا أن نسترد وعي الشعوب الأفريقية وأن نسترد الوعي البروميثي (نسبة لبروميثيوس) .
(2) لقد جرى الحديث أنثربولوجيا وثقافيا عن أن العالم السامي قد ظهر خلال العصور البدائية من التاريخ من مزيج من الشعوب ذات البشرة البيضاء والبشرة السوداء في غربي آسيا . ذلك هو السبب الذي يجعل فهم أن العالم السامي في بلاد ما بين النهرين ، العالم اليهودي والعربي ، يقتضي الإشارة الدائمة للواقع الأسود المؤكد . إذا كانت هناك فقرات إنجيلية معينة ، خاصة في العهد القديم تبدو غريبة ، فلأن المتخصصين المدفوعين بالتحيزات ، كانوا غير قادرين على قبول دليل وثائقي .
(3) إن إنتصار فرضية آحادية منشأ الإنسانية لـ (ليكي) تجبر المرء حتى في مرحلة (العاقل المتجانس) على الإقرار بأن كل الأعراق تنحدر من العرق الأسود وفقا لعلاقة القرابة التي سيفسرها العلم يوما ما .
(4) في كتاب (أفريقيا الزنجية ما قبل الإستعمار) 1960 ، كان لدي هدفين :
(أ) إثبات إمكانية كتابة أفريقيا السوداء متحررا من التسلسل الزمني المجرد للأحداث ، مثلما تشير هذه المقدمة إلى هذا الكتاب بوضوح . (ب) تحديد القوانين التي تحكم تطور البنيات الإجتماعية السياسية الأفريقية لتفسير الإتجاه الذي أخذه التطور الأفريقي في أفريقيا السوداء وبالتالي هيمنة وسيطرة تلك العملية التاريخية من خلال المعرفة ، أكثر من الخضوع لها .
إن هذه الأسئلة الأخيرة مثل تلك المتعلقة بأصول (مصر) ، هي من بين المعضلات الرئيسية ، فحالما يتم حلها فإن الباحث يمكن أن يتقدم لكتابة تاريخ أفريقيا . بناء عليه فمن الواضح أن هذا هو السبب الذي يجعلنا نعير إهتماما خاصا لحل هذه المعضلات وبأن يتجاوز الكثيرون مجال التاريخ . إن نمط البحث الذي دشّنه كتاب (أفريقيا الزنجية ما قبل الإستعمار) في الجانب الإجتماعي التاريخي وليس في الجانب العرقي الجغرافي ، بات ممهدا منذ أن إستخدمه الكثير من الباحثين وهو ما أفترض أنه قادهم إلى وصف الحياة اليومية للكنغوليين أو تضخيمها بناء على الأشكال المختلفة للمنظمات السياسية ، الإقتصادية ، الإجتماعية ، العسكرية والقضائية في أفريقيا .
(5) تعريف صورة أفريقيا الحديثة المتوافق مع ماضيها وإعدادها لمستقبلها .
(6) حالما يتم قبول الرؤى التي رفضت حتى اليوم بواسطة العلم المعترف به ، فإن تاريخ الإنسانية سوف يصبح واضحا ويمكن عندها كتابة تاريخ أفريقيا ، غير أنّ أيّ محاولة في هذا المجال تتبنى التسوية وتبدو كما لو أنها تشق الإختلاف أو الحقيقة بالنصف ، سوف تدير مخاطرة لا تنتج شيئا سوى التنفير . إن الكفاح المخلص الذي يدمر وحده العدوانية الثقافية ويظهر الحقيقة أيّا كانت ، هو الكفاح الثوري الذي ينسجم مع التقدم الحقيقي . هو الطريق الوحيد الذي ينفتح على العالم . إن البيانات المحبة للإنسانية لم تدعو لذلك ولم تضف شيئا للتقدم الحقيقي .
بالمثل فإنه ليس أمرا جوهريا النظر إلى الزنوج تحت مجهر مكبر مثل إمرء يفحص الماضي . إن الشعب العظيم ليس لديه ما يفعله مع تاريخ حقير ولا مع الأفكار العرقية الجغرافية التي بحاجة للإصلاح . إن الأمر يمكن أن يكتسب أهمية قليلة من أنّ بعض الأفراد السود الأذكياء ربما يكونوا موجودين في مكان أخر .إن العامل الجوهري يتمثل في إعادة إقتفاء أثر تاريخ كامل الأمة ، أما المقابل فهو التفكير بالإعتماد أو غير الإعتماد على عمّا إذا كان المرء معروفا أم لا في أوروبا . إن المجهود قد أفسد ، بناء على قاعدة وجود شخص معقد جدا يأمل في محو ذلك . لماذا لا يدرس تثاقف الرجل الأبيض في البيئة السـوداء ، في مصر القديمة مثلا ؟
(7) كم مرة حدث أن بقي كل الأدب الزنجي الحديث ثانويا ، بمعنى أنه وبحسب علمي لا يوجد مؤلف أو فنان أفريقي زنجي قد طرح سؤالا يتعلق بمسألة مصير الإنسان ، الموضوع الرئيسي للأدب الإنساني .
(8) في (الوحدة الثقافية لأفريقيا الزنجية) حاولنا تحديد الصفات العامة للحضارة الأفريقية الزنجية .
(9) في الجزء الثاني من (الأمم الزنجية) أثبتنا أنّ اللغات الأفريقية يمكن أن تعبر عن الفكر الفلسفي والعلمي (الرياضيات ، الفيزياء وغيرها ) وأنّ الثقافة الأفريقية سوف لن تؤخذ بمحمل الجد إلى أن يصبح تدريسها أمرا واقعا . إن أحداث السنين القليلة الماضية أثبتت أن (اليونسكو) قد قبلت تلك الأفكار .
(10) إنني مسرور من أن أحد الأفكار المقترحة في مؤلف (أفريقيا الزنجية ما قبل الإستعمار) ? المتعلق بالعلاقات الكولومبية السابقة بين أفريقيا وأمريكا ? قد جرى تبنيه بواسطة باحث أمريكي . إنّ الإستاذ بجامعة أوكلاند ( هارولد ج. لاورينس ) يثبت بالفعل مع وفرة البراهين ، واقع تلك العلاقات التي جرى إفتراضها في عملي بشكل مجرد . إذا كان لمجمل هذه البراهين المثيرة للإعجاب أن تواجه إختبار التسلسل الزمني ، إذا كان بالإمكان إثباتها في التحليل النهائي من أن كل الحقائق التي أشير إليها كانت موجودة قبل فترة العبودية ، فإن بحثه سوف يساهم بشكل مؤكد بمادة رصينة في بناء صرح المعرفة التاريخية .
أود أن أختتم بحث الباحثين الأمريكيين الشباب ذوي النوايا الحسنة ، سودا وبيضا معا على تشكيل فرق جامعية وأن تنخرط هذه الفرق? مثل الأستاذ هارولد لاورينس ? في مجهود لتأكيد الأفكار المختلفة التي تقدمت بها ، بدلا من قصر أنفسهم على التشكيك السلبي العقيم ، إذ سرعان ما سينبهرون بالنور الساطع لإكتشافاتهم المستقبلية . في الواقع فإن فهمنا للتاريخ الأفريقي كما هو معروض هنا ، قد نجح عمليا وأؤلئك الذين يكتبون اليوم التاريخ الأفريقي سواء برغبتهم أو بدونها ، يعتمدون عليه ، غير أنّ المساهمة الأمريكية لهذه المرحلة النهائية يمكن أن تكون حاسمة .

(شيخ أنتا ديوب ? يوليو 1973)
الفصل (1)
من هم المصريون ؟
——————
لم يحدث أن طرح مثل هذا التساؤل أبدا في سياق الأوصاف المعاصرة للمصريين القدماء . إن شهود تلك الفترة يؤكدون على أن المصريين كانوا سودا . في مناسبات عديدة أصر (هيرودتس) على الشخصية الزنجية للمصريين ، بل وأستخدم ذلك في إثباتات غير مباشرة . مثلا لإثبات أن فيضان النيل لا يمكن أن يكون ناتجا بسبب ذوبان الجليد فقد إستشهد من بين أسباب أخرى يعتبرها صحيحة بالملاحظة التالية : ( من المؤكد أن مواطني البلاد سودا بفعل الحرارة .. ) . لإثبات أن الإلهام الإغريقي مصري المنشأ فإن (هيرودتس) قدم حجة أخرى (أخيرا فإن بنعتهم اليمامة سوداء فإن الدودونيين – نسبة لدودونا المدينة اليونانية القديمة – قد أشاروا إلى أن المرأة كانت مصرية ). إن اليمامة ذات الصلة ترمز إلى إمرأتين مصريتين زعم أنه جرى إختطافهما من (طيبه) لإيجاد وسطاء للوحي لـدودونا وليبيا . لإظهار أن سكان (الكولخيس ? قوم سكنوا شرق البحر الأسود) كانوا مصرييّ الأصل وإعتبارهم جزء من قوات (سيسوستريس) الذين إستقروا في ذلك الإقليم فإن (هيرودتس) قال بـ ( أن المصريين يعتقدون أن (الكولخيسين) ينحدرون من جيش (سيسوستريس) وهذا يتوافق مع حدسي بناء على الحقيقة التي مفادها أنهم كانوا سود البشرة ولهم شعر يشابه الصوف ). أخيرا فيما يخص سكان الهند فإن هيرودتس يميّز بين الباديين ? قبيلة هندية – والهنود الأخرين ، واصفا أياهم على النحو التالي : ( إنهم كذلك لديهم نفس مسحة البشرة التي تقترب من بشرة الإثيوبيين) .
كتب (ديودوروس) الصقلي :
((يقول الأثيوبيون أن المصريين هم احد سكان مستعمراتهم الذين جلبهم أوزيرس إلى مصر ويدّعون كذلك أن هذا البلد (أي مصر) كان تحت الماء ، غير أن النيل وهو في إنسيابه من أثيوبيا كان يحمل معه الكثير من الطمي ، مما جعل تلك الرقعة تمتليء به وتصبح جزءا يابسا من القارة ويضيفون كذلك بأن المصريين قد أخذوا عنهم – مثلما قال بذلك مؤلفون وأسلاف ? معظم قوانينهم ويضيفون بأن المصريين تعلموا كذلك منهم كيف يبجلون الملوك كالآلهة وكيف يدفنونهم بهذا البهاء ، كما أنهم أخترعوا النحت والكتابة . يستشهد الأثيوبيون بالدليل الذي مفاده أنهم أكثر عراقة من المصريين ، غير أنه من غير المفيد إيراد ذلك هنا )) . إذا لم يكن المصريون والأثيوبيون من ذات السلالة فإن (ديودورس) قد شدد على إستحالة إعتبار أن المصريين كانوا أحد سكان المستعمرات الإثيوبية (أي جزء صغير منهم) وإستحالة النظر إليهم كأجداد للمصريين . في موسوعته (الجغرافيا) أورد (سترابو) أهمية الهجرات في التاريخ ، معتقدا بأن هذه الهجرة المحددة قد بدأت من مصر إلى أثيوبيا ، موردا هذه الملاحظة : (إحتل المصريون إثيوبيا وكولخيس ) . مرة أخرى إنهم الإغريق الذين أخبرونا رغم شوفينيتهم بأنّ المصريين والإثيوبيين والكولخيسيين ينتسبون إلى ذات السلالة وبالتالي يؤكدون ما قاله (هيرودتس) عن الكولخيسيين . إن كل أراء الكتاب القدامى عن سلالة المصريين قد لخصه قاستون ماسبيرو( 1846 ? 1916) بإسهاب أو إيجاز (بشهادة شبه إجماعية للمؤرخين القدامى فإنهم ينتسبون إلى السلالة الأفريقية – تقرأ زنجية ) الذين أستوطنوا أولا في إثيوبيا عند النيل الأوسط ، ثم أتبعوا مجرى النيل حتى وصلوا تدريجيا إلى البحر .علاوة على ذلك فإن الإنجيل ذكر أن مصريم بن حام أخ كوش الإثيوبي وأخ كنعان ، جاء من من بلاد ما بين النهرين للإستقرار مع أبنائهم على ضفاف النيل )) .
وفقا للإنجيل فإن مصر قد سكنتها ذرية حام الجد الأعلى للسـود (( إن أبناء حام هم كوش ، مصريم ، فوط وكنعان ، أما أبناء كوش فهم سبا ، حويله ، سبتا ، ريقما ، ساباتا .. كان كوش هو أب نمرود أول منتصر في الأرض .. أما مصريم فأصبح أبا لكل من : لوديم ، أناميم ، لابيم ، نيفثيم ، فيثروسيم ، شاسلويم ، أما كنعان فقد أصبح أبا لكل من ? سيد – أول مولود وهيث )) . بالنسبة لشعوب الشرق الأقصى فإن مصريم إختار مصر ، كنعان إختار كامل ساحل فلسطين وفينيقيا ، أما سينار التي ربما كانت المكان الذي غادر منه نمرود إلى غربي آسيا فإنها ربما لا تزال تشير إلى مملكة النوبة . ما قيمة هذه الإفادات ؟ كونها جاءت من شهود فإنها من الصعب أن تكون مزيفة .ربما أخطأ (هيرودتس) حينما إستدل بشكل مسهب أو موجز عن أعراف شعب لتفسير ظاهرة مبهمة في أيامه ، لكن يجب على المرء أن يقدر أنه كان قادرا على الأقل على أن يميز لون بشرة سكان الدول التي زارها . بجانب ذلك فإن هيرودتس ليس مؤرخا ساذجا يسجل كل شيء من دون تحقق فهو يدرك كيف يزن الأشياء فهو حينما يروي رأيا لا يشاركه وإنما يراعي دائما ان يورد إختلافه معه . بالتالي وبالعودة إلى عادات الـ (سكيثيون) و (النور) فإنه كتب فيما يتعلق بالأخيرين (( يبدو أن هذه الشعوب سحرة حيث أن الأغريق والسكيثيون الذين سكنوا – سكيثيا – يقولون أن النوري ينقلب مرة في العام ليكون ذئبا لعدة أيام ثم يعود في النهاية إلى شكله الطبيعي بالنسبة ليّ فأنا لا أصدق ذلك لكنهم يؤكدونها بشكل دائم لتصبح حقيقة وهم مستعدون لدعم تأكيدهم بالقسم )) .
لقد ميّز (هيرودتس) دائما وبشكل يقظ بين ما رآه وبين ما أخبر به . بعد زيارته لـ (قصر التيه) كتب : ((هناك نوعين من الحجرات على إمتداد البلاد ، نصف أعلى الأرض ونصف فوق الأرض وتبنى الحجرة العليا فوق الحجرة السفلى . أما العدد الكلي لهذه للحجرات فهي ثلاثة آلاف ، الف خمسمائة من كل نوع . مررت عبر الحجرات العليا ورأيتها وما أقوله عنها هو من واقع ملاحظتي الخاصة : بالنسبة للحجرات التي تحت الأرض ، يمكنني أن أتحدث فقط من النقل ، حيث أن حراس المبنى لا يستطيعون الوصول إليها لرؤيتها لأنها تحتوي ? كما يقولون ? على أضرحة الملوك الذين بنوا (قصر التيه) وكذلك مقابر التماسيح المقدسة . بالتالي فإنه من السمع فقط أستطيع أن أتحدث عن الغرف السفلى . أما بالنسبة للغرف العليا فقد رأيتها بعينيّ ووجدتها تتفوق على كل الأعمال البشرية الأخرى )) .
هل كان (هيرودتس) مؤرخا مجردا من المنطق وغير قادر على التغلغل في الظاهرة المعقدة ؟ إن تفسيره لفيضانات النيل تكشف عن عقل متزن لإستدلالات علمية لظاهرة طبيعية : (( ربما بعد إنتقاد كل الأراء التي طرحت بشأن هذا الموضوع الغامض فإن على المرء أن يفترض نظرية ما تعود لأحد . عليه سأتقدم لشرح ما أعتقد أنه سبب علو النيل في أوقات الصيف . في فصل الشتاء تبتعد الشمس عن مسارها الطبيعي بواسطة العواصف وتنتقل إلى الأجزاء العليا من ليبيا . إن هذا هو السر الكامل في كلمات معدودة ممكنة ، لأنها تشير إلى السبب الذي يقترب فيه إله الشمس إلى أقرب موضع في البلاد والذي يمر بها بشكل أكثر مباشرة ، مما يتسبب في نقص المياه كما أن النهيرات التي تغذي الأنهار تتقلص في معظمها . للتفسير بشكل مسهب فإن الشمس في مرورها على الأجزاء العليا من ليبيا تؤثر عليها على النحو التالي . عندما يكون الهواء في تلك المناطق صاف بشكل دائم والبلاد دافئة في غياب الرياح الباردة فإن الشمس في عبورها تؤثر عليها مثلما لا تؤثر على أي مكان أخر في الصيف عندما تمر في وسط السماء مما يؤثر على المياه . بعد جذب المياه فإنها تدفعها مرة أخرى نحو المناطق العليا ، حيث تحتجزها الرياح وتشتتها وتنقصها بالتبخر ومن ثّم تمضي بشكل طبيعي لتجتاز تلك الرياح التي تهب من تلك الجهة ? الجنوب والجنوب الغربي ? وهي رياح معظمها ممطر ورأيي أن الشمس لا تتخلص من كل المياه التي جذبتها عام بعد عام من النيل ولكن تحتفظ ببعضها )) .
بلا شك فإن هذه الأمثلة الثلاثة تكشف أن (هيرودتس) لم يكن ناقلا سلبيا لقصص لا تصدق ، أي أنه لم يكن (كاذبا) . بالعكس لقد كان مدققا ، موضوعيا ، علميا إلى حد بعيد في عصره . لماذا يجب على المرء أن يطعن في هذا المؤرخ وجعله يبدو ساذجا ؟ لماذا يعاد تزييف التاريخ برغم من براهينه الواضحة ؟ بلا شك فإن السبب الأساسي لذلك هو أن (هيرودتس) بعد أن روى إفادات شهوده ، أخبرنا بأن المصريين كانوا سودا ، ثم أثبت بنزاهة نادرة (للإغريق) بأن اليونان قد أخذت كل عناصر حضارتها من مصر ، حتى عبادة الآلهة وأنّ مصر هي مهد الحضارة . علاوة على ذلك فإن الإكتشافات الأثرية كانت تبريء (هيرودتس) بإستمرار من إدعاءات الذين حطوا من قدره . لذا فقد كتبت (كريستيان ديروش- نوبلكور) عن الحفريات الحديثة في تانيس والتي تعرف أيضا بصان الحجر ( منطقة تقع عند مصب الفرع الشرقي لدلتا النيل ) : (( لقد رأى هيرودتس المباني الخارجية لهذه الأضرحة ووصفها – هذا هو قصر التيه الذي نوقش أعلاه )) . لقد أثبت (بيير مونتيه) مرة أخرى أنّ (أب التاريخ لا يكذب) . قد يكون هناك إعتراض على أنه حينما زار (هيرودتس) مصر في القرن الخامس قبل الميلاد فإن عمر حضارتها كان أكثر من 10.000 سنة وأن السلالة التي صنعت تلك الحضارة لم تكن بالضرورة تلك السلالة الزنجية التي وجدها هناك .
كما سنرى فإنه في مجمل تاريخ مصر فإن مزيجا من السكان الأوائل وعناصر بدوية بيضاء ، فاتحين وتجار ، أصبحوا ذوي أهمية مع إقتراب نهاية التاريخ المصري . وفقا لـ ( كورنيليوس دي باو ) فإن مصر في فترات ضعفها التاريخي ، تشبعت بالمستعمرات البيضاء الأجنبية ، العرب مع الأقباط ، الليبيين في الموقع الذي أصبح فيما بعد الأسكندرية ، اليهود حول مدينة هرقل (أفاريس) ، البابليون ( أو الفرس ) أسفل مفيس ، (طريدو طرواده) في منطقة محاجر الأحجار العظيمة شرق النيل ، (الكاريون) و(الأيونيون) عند فرع النيل الشرقي ، أما (بسماتيك) فقد توج غزوه السلمي في نهاية القرن السابع بتأمين دفاع مصر عن المرتزقة الأغاريق . ( لقد كانت غلطة عظيمة للفرعون بسماتيك بأن عهد بالدفاع عن مصر إلى قوات أجنبية وأقحم المستعمرات المختلفة المكونة من حثالة الأمم ) . في ظل سلالة سايتي الحاكمة الأخيرة إستوطن الأغاريق بشكل رسمي في ميناء (ناوكريتس) الميناء الوحيد الذي كان يخول فيه للأجانب الإشتغال بالتجارة . بعد هزيمة مصر أمام الأسكندر تحت حكم البطالسة إزدهر تمازج الأجناس بين الأغاريق البيض والمصريين السود بفضل سياسة الإستيعاب (( لم يحظى ديونيسيوس ? إله الخمر عند الإغريق ? في أي مكان بالعبادة بشكل موسع ومبهرج مثلما حظي به من قبل البطالسة الذين إعترفوا بعبادته كوسيلة فعالة لتعزيز إستيعاب الأغاريق الفاتحين وإندماجهم مع المصريين المحليين )) .
إنّ هذه الحقائق تثبت أنه إذا كان الشعب المصري أبيضا أصلا فيفترض أن يبقى كذلك . إن كان (هيرودتس) وجد مصر لا تزال سوداء بعد الكثير من تزاوج الأجناس فإنه من الضروري أن تكون سوداء في البداية . طالما أن الدليل المرتبط بالكتاب المقدس له إعتبار فإن هناك القليل من التفاصيل سلفا . لتحديد أهمية الدليل المرتبط بالكتاب المقدس فإن علينا أن ندرس نشأة الشعب اليهودي . إذن من هو الشعب اليهودي ؟ وكيف ولد ؟ وكيف أوجد الكتاب المقدس وكيف لعن أبناء حام الجدود الأعلى للزنوج والمصريين ؟ وما هو السبب التاريخي لهذه اللعنة ؟ أؤلئك الذين أصبحوا يهودا ودخلوا مصر وعددهم بالكاد (70) فردا ، الرعاة الخائفين النازحين من فلسطين بفعل المجاعة الذين جذبتهم جنة الأرض وادي النيل . مع أن المصريين لديهم إشمئزاز غريب من الحياة البدوية والرعاة ، إلا أنه جرى الترحيب بالقادمين الجدد بحرارة في البداية بفضل (يوسف) . وفقا للكتاب المقدس فإنهم إستقروا في أرض (جاسان) حيث أصبحوا رعاة لقطعان الفرعون . بعد وفاة (يوسف) والفرعون (المناصر) ومواجهة تكاثر اليهود ، بدأ عداء المصريين ينمو ، في ظروف لا تزال صعبة التحديد وأصبح حال اليهود صعبا أكثر فأكثر . إذا كان علينا أن نصدق الكتاب المقدس فإنهم قد وظفوا في أعمال البناء والخدمة كعمال في بناء مدينة (رمسيس) . لقد إتخذ المصريون خطوات للحد من عدد المواليد وأقصوا الذكور خشية أن تزداد الأقلية العرقية إلى خطر قومي يمكن أن يزيد من صفوف الأعداء وقت الحرب .
لذا فقد بدأ الإضطهاد الأولي الذي ميّز الشعب اليهودي على إمتداد تاريخه . منذ ذلك الوقت إنطوت الأقلية اليهودية على نفسها لتخضع لتباريح العذاب والإذلال .إن هذا الشقاء قد حض على إستيلاد وإنتشار العاطفة الدينية . كانت الظروف مواتية أكثر لأن هذه السلالة من الرعاة كانت بدون مهنة أو تنظيم إجتماعي ( الخلية الإجتماعية الوحيدة كانت العائلة الأبوية ) وليس لها سلاح سوى العصي ، لا يمكن أن يتخيل أن يصدر عنها رد فعل على التفوق الفني للشعب المصري .كان على (موسى) الذي ظهر كأول نبي يهودي أن يواجه هذه المعضلة والذي درس بدقة تاريخ الشعب اليهودي منذ نشأته وقدمه مسترجعا ذلك تحت رؤية دينية . بالتالي فقد جعل ذلك (إبراهيم) يقول أشياء كثيرة لم يكن الأخير ليستطيع التنبؤ بها ، مثلا الـ (400) سنة في مصر . لقد عاش (موسى) في عصر تل العمارنة حينما حاول أمنحوتب الرابع (إخناتون) حوالي عام 1400 ق.م إحياء التوحيد الأول والذي جرى تشويهه آنذاك بالتفاخر الكهنوتي وفساد الكهنة . لقد بدأ أن (أخناتون) حاول دعم المركزية السياسية في إمبراطوريته الضخمة المنتصرة حديثا من خلال المركزية الدينية فقد كانت الإمبراطورية في حاجة إلى دين شامل . ربما تأثر (موسى) بهذا الإصلاح . منذ ذلك الوقت فصاعدا دافع عن التوحيد بين اليهود. لقد كان التوحيد بكل تجريديته في الفكرة موجودا في مصر التي إقتبسته من سودان مروي ، أثيوبيا العصر القديم (( مع أن الإله الأعلى نظر إليه بنقاء الرؤى التوحيدية كونه الموجد الأوحد في السماء وفي الأرض الذي لم يولد ، الإله الحي الوحيد في الحقيقة ، إلا أن آمون الذي يدل أسمه على الغموض ، العبادة ، وجد نفسه يوما مستبعدا ومدركا من قبل الشمس ? را ? أو متحولا إلى أوزيريس أو حورس )) .

مع التسليم بالجو غير الآمن الذي وجد الشعب اليهودي نفسه في مصر ، إلا أن الرب الذي بشرهم بغد موثوق منحهم دعما معنويا لا عوض عنه . بعد بعض التحفظ في البداية فإن هذا الشعب الذي بدأ أنه لا علم له مسبقا بالتوحيد ? بعكس الرأي الذي يعضدهم من أنهم مبتدعي التوحيد ? قد نقل رغما عن ذلك إلى درجة لافتة من التطور . مستعينا بالعقيدة قاد (موسى) الشعب العبري إلى خارج مصر ومع ذلك فإن اليهود سرعان ما ملوا هذه الديانة وعادوا تدريجيا إلى التوحيد ? عجل هارون الذهبي في سفح جبل سيناء. بدخولهم مصر كـ (70) راعيا في (12) عائلة أبوية ، بدوا من غير مهنة أو ثقافة ، بقي الشعب اليهودي (600) سنة هناك فأصبحوا 600.000 من الأشداء ، بعد أن إكتسبوا منها كل عناصر أعراقها المستقبلية بما في ذلك التوحيد . إذا إضطهد المصريون اليهود كما يقول التوراة وإذا كان المصريون زنوجا أي أبناء حام كما يقول التوراة ، فإننا لم نعد نتجاهل الأسباب التاريخية للعنة التي حلت على حام ? بالرغم من أسطورة سكر(نوح) . لقد دخلت اللعنة في الأدب اليهودي متأخرة بشكل ملحوظ عن فترة الإضطهاد . بناء على ذلك فإن (موسى) نسب الكلمات التالية إلى الرب السرمدي في (العهد القديم) والتي وجهها إلى (إبراهيم) في الحلم : (( أعلم يقينا أن ذريتك سيكونون غرباء في أرض ليست أرضهم وسوف يخضعون للعبودية ويضطهدون لأربعمائة عام )) . لقد وصلنا هنا إلى الخلفية التاريخية عن اللعنة التي حلت على حام . إنها ليست صدفة أن كانت هذه اللعنة على أب مصريم ، بوط ، كوش وكنعان وليس على كنعان وحده الذي سكن في أرض تمناها اليهود على إمتداد تاريخهم .

متى ظهر هذا الإسم حام (شام ? كام) ؟ وأين عثر عليه (موسى) ؟ أكيد في مصر حيث ولد وترعرع وعاش حتى الخروج . في الواقع أننا نعرف أن المصريين أطلقوا على بلادهم إسم (كيميت) التي تعني الأسود في لغتهم . إن التفسير يعني أن المشار إليه هي التربة السوداء لمصر أكثر من الأنسان الأسود وبالتوسع السلالة السوداء لبلاد السود وهو ناجم من تشويه من عقول مدركة التفسير الصحيح للكلمة وما تشير إليه . من ثمّ فإنه من الطبيعي أن نجد كلمة (كام) تعني في العبرية حرارة ، أسود ، محروق . هكذا فإن كل التناقضات الظاهرة تختفي ، فيما يظهر منطق الحقائق على كامل صورته . إن سكان مصر الذين يرمز إليهم بلونهم الأسود ، كيميت أو حام في التوراة ، سوف يتهموا في أدب الشعب الذي إضطهدهم . إننا نستطيع أن نفهم بأن هذه اللعنة التوراتية على ذرية (حام) لها منشأ مختلف تماما عن ذلك الذي قدم اليوم بدون أدنى أساس تاريخي . ما لا نستطيع فهمه هو كيف أصبح من الممكن جعل العرق الأبيض أسودا : حامي ، أسود ، أبنوسي ، الخ .. (حتى في اللغة المصرية) . وفقا لمتطلبات السبب فإن حام قد لعن ، سوّدت بشرته ، وأصبح الجد الأعلى للزنوج . إن ذلك يحدث كلما أشار أحد إلى العلاقات الإجتماعية المباشرة .

على الجانب الأخر فإن الأسود يبيّض حينما يسعى أحدهم إلى البحث عن منشأ الحضارة ، لأنه سكن أول بلد متحضر في العالم . لذا فقد جرى تصوير فكرة الحاميين الشرقيين والغربيين التي ليست سوى إبتداع مزعج لحرمان السود من أفضلية معنوية في الحضارة المصرية وفي الحضارات الأفريقية الأخرى كما سنرى . الشكل (2) يمكننا من ملاحظة الطبيعة المنحرفة لتلك النظريات . إنه من غير الممكن ربط الفكرة العامة عن الحاميين – مثلما نعمل لنفهمها في الكتب المدرسية الرسمية ? مع أدنى واقع تاريخي ، جغرافي ، لغوي أو عرقي . ليس هناك متخصص قادر على تحديد مكان ميلاد الحاميين ( أتحدث بشكل علمي ) ، اللغة التي يتحدثون بها ، طريق الهجرة الذي سلكوه ، البلاد التي إستقروا فيها ، أو شكل الحضارة التي خلفوها . في المقابل فإن كل الخبراء قد إتفقوا على أن هذا المصطلح ليس له محتوى جاد ومع ذلك فإنه لم يتوانى أحد منهم في إستخدامه كمفتاح رئيسي لتفسير أدنى دليل للحضارة في أفريقيا السوداء .

الفصل الثاني
ميلاد الأسـطورة الزنجيـة

حينما زار (هيرودتس) مصر كانت مصر قد فقدت مسبقا إستقلالها قبل قرن من الزمان فمنذ هزيمتها أمام الفرس عام 525 ق.م ظلت مصر وبشكل دائم تحت هيمنة الأجنبي فبعد الفرس جاء المقدونيون بقيادة الأسكندر الأكبر عام 333 ق.م ، الرومان بقيادة يوليوس قيصر عام 50 ق.م ، العرب في القرن السابع الميلادي ، الأتراك في القرن السادس عشر ، الفرنسيون بقيادة نابوليون ، ثم الإنجليز في نهاية القرن التاسع عشر . مع تدميرها جراء تلك الغزوات المتتالية فإن مصر التي كانت مهد الحضارة لـ (10.000) عام ، بينما كان باقي العالم منغمسا في البربرية ، لم تعد تلعب دورا سياسيا . بالرغم من ذلك فإنها إستمرت في تلقين شعوب البحر الأبيض المتوسط الناشئة من بين أغريق ورومان وسط أخرين دروسا نحو إستنارة حضارية . على إمتداد التاريخ بقيت مصر الأرض التقليدية التي ذهبت إليها شعوب البحر المتوسط في رحلة طويلة من أجل الإغتراف من ينبوع المعرفة العلمية ، الدينية ، الأخلاقية ، والإجتماعية وهي المعرفة الأكثر عراقة التي إكتسبتها البشرية . لذا فإن كل ما يحيط بالبحر الأبيض المتوسط من حضارات جديدة قامت الواحدة تلو الأخرى ، قد إستفادت الكثير من مزايا البحر المتوسط ، كونه مفترق طرق حقيقي لأفضل موقع في العالم . لقد تطورت هذه الحضارات الجديدة بشكل رئيسي نحو التطور المادي والفني . كمنشأ لذلك التطور فإنه يجب علينا أن نستشهد بالعبقرية المادية للهنود الأوربيين ، الأغاريق والرومان .
إن النشاط الوثني الذي صّور لنا الحضارة الإغريقية الرومانية قد تلاشي حوالي القرن الرابع . في المقابل هناك عاملين جديديين تدخلا عنوة في الإقليم القديم لأوروبا الغربية : المسيحية والغزوات البربرية واللذان أعطيا ميلادا لحضارة جديدة تظهر اليوم أعراض إعيائها . بفضل التواصل المستمر بين الشعوب فإن هذه الحضارة الأخيرة التي ورثت كل التقدم الفني للإنسانية إستعدت تماما بحلول القرن الخامس عشر للإندفاع لإكتشاف وفتح العالم وهكذا في بواكير القرن الخامس عشر هبط البرتغاليون في أفريقيا عبر الأطلنطي ، حيث أسست أول علاقات حديثة مع أوروبا لم تنقطع بعد ذلك . ماذا وجدوا آنذاك في أفريقيا ؟ أيّ شعوب قابلوا ؟ هل كانوا منذ القدم أم أنهم هاجروا أخيرا ؟ ما هو مستوى ثقافتهم ، درجة تنظيمهم الإجتماعي والسياسي ؟ ما هو الإنطباع الذي أخذه البرتغاليون عن تلك المجموعات السكانية ؟ ما هي الفكرة التي أخذوها عن إستعدادهم الفكري وقدرتهم الفنية ؟ أي نوع من العلاقات الإجتماعية كان قائما بين أوروبا وأفريقيا منذ ذلك الوقت فصاعدا ؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة المختلفة سوف يفسر بشكل كلي الأسطورة الحالية للزنوج البدائيين .
للإجابة على هذه التساؤلات من الضروري العودة إلى مصر في ذلك الوقت حينما كانت واقعة فيه تحت قبضة الأجنبي . ربما مضى توزيع السود في القارة الأفريقية على مرحلتين رئيسيتين . لقد أتفق بشكل عام على أنّه بحلول عام 7000 قبل الميلاد كانت الصحراء قد أصبحت قاحلة وربما كانت أفريقيا الإستوائية لا تزال كثيفة الغابات بحيث لا تجذب الناس إليها . بناء عليه فإن أخر السود الذين عاشوا في الصجراء ، غادروها الآن مهاجرين نحو أعالي النيل مع إستثناء محتمل لمجموعات معزولة قليلة صغيرة بقيت في باقي القارة ، الذين إما هاجروا إلى الجنوب أو إتجهوا نحو الشمال . ربما وجدت المجموعة الأولى سكانا سودا محليين في منطقة أعالي النيل . أيّا كانت الحالة فإنها ناشئة من التكيف التدريجي مع الظروف الحياتية الجديدة التي خصت بها الطبيعة هؤلاء السكان السود المتنوعين بحيث برزت منها أقدم ظاهرة للحضارة . لقد تطورت هذه الحضارة التي سميت مصرية في عصرنا بفترة طويلة في عصرها الأول ثم تنزلت ببطء إلى وادي النيل لتنتشر بعدها حول حوض البحر الأبيض المتوسط . ربما إستمرت هذه الدورة من الحضارة التي تعتبر الأطول في التاريخ 10.000 سنة . إن ذلك حل وسط معقول بين التسلسل الزمني الطويل (بناء على البيانات المقدمة من الكهنة المصريين ، هيرودتس ومانيثو الذين وضعوا التاريخ 17.000 قبل الميلاد) والتسلسل الزمني الصغير للمحدثين الذين إضطروا للإقرار بالتاريخ 4245 قبل الميلاد وهو التاريخ الذي كان المصريون قد إبتدعوا فيه سلفا التقويم (الذي يقتضي بالضرورة رحلة من آلاف السنين) .
خلال تلك الفترة الطويلة كان من الواضح أنّ السود قد توغلوا عميقا وعميقا في داخل القارة ليشكلوا نواة سوف تصبح مراكزا للحضارة القارية التي جرى تحليلها في الفصل الثامن . إنّ هذه الحضارات الأفريقية سوف تنفصل عن باقي العالم فهي تميل إلى العيش منعزلة نظرا لبعدها الشاسع عن طرق الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط . حينما فقدت مصر إستقلالها إنتهت عزلتهم . منذ ذاك الوقت وبإنفصالهم عن الوطن الأم وإنزوائهم في محيط جغرافي يقتضي قليل جهد من التكيف ، إتجه السود نحو تطوير تنظيماتهم الإجتماعية ، السياسية والأخلاقية ، أكثر من التوجه نحو البحث العلمي التفكري الذي تعجز ظروفهم عن تبريره ، بل تجعله حتى غير ممكنا . إنّ التكيف مع وادي النيل الضيق الخصيب إقتضى تقنية تخصصية في الري والسدود وحسابات دقيقة للتنبؤ بفيضانات النيل وإستنتاج نتائجها الإقتصادية والإجتماعية . كذلك فإن الأمر يتتطلب إبتداع الهندسة لتحديد الملكية بعد محو خطوط الحدود بواسطة الفيضان . بذات الدلالة فإن المنطقة في القطاعات السهلة الضيقة الطويلة تتطلب تحويل المعزقة الزنجية إلى محراث والتي كان يجرها في البدء الرجال ثم الحيوانات . مع أن ذلك كان ضروري للوجود المادي للزنوج في وادي النيل ، إلا أنه أصبح كذلك غير ضروري بالتساوي في الظروف الحياتية الجديدة في الداخل .
حيث أنّ التاريخ أحدث إنقطاعا في توازنهم السابق مع البيئة ، فإن السود وجدوا الآن توازنا ، يختلف عن التوازن الأول في غياب التقنية التي لم تعد حيوية بالنسبة لتنظيماتهم الإجتماعية والسياسية والأخلاقية . بوجود الموارد الإقتصادية التي لا تتطلب إختراعات دائمة ، فإن الزنوج أصبحوا غير مبالين بالتقدم المادي . في ظل هذه الظروف الجديدة جرت المواجهة مع أوروبا . في القرن الخامس عشر وحينما بدأ البرتغاليون ، الهولنديون ، الإنكليز ، الفرنسيون ، الدنماركيون ، البراندنبورغيون الأوائل في إنشاء مراكز تجارية لهم على ساحل غرب أفريقيا ، كانت التنظيمات السياسية للدول الأفريقية متساوية وفي الغالب متفوقة على دولها . أما الملكيات فقد كانت دستورية بمجلس شعب جرى فيه تمثيل الطبقات الإجتماعية المختلفة . خلاف الأسطورة القائلة بأن ملك السود كان طاغية بسلطة لا حدود لها . في بعض المواضع كان الشعب يبايع الملك مع رئيس للوزراء كوسيط يمثل الرجال الأحرار . كانت مهمته خدمة الشعب بحكمة وكانت سلطته تعتمد على الدستور المؤسس (مع مقارنة الفصل الثامن) . لقد كان النظام الإجتماعي والأخلاقي على ذات المستوى من المثالية . على الجانب الأخر وبالنسبة لكل الأسباب التي أستشهد بها أعلاه فإن التقدم التقني كان أقل تشديدا عليه مما هو في أوروبا . مع أن الزنوج كانوا أول من إكتشف الحديد فإنهم لم يصنعوا أي مدفع . إن سر البارود كان معروفا فقط للكهنة المصريين الذين إستخدموه فقط لأغراضهم الدينية عند الطقوس مثل أسرار أوزيريس (مقارنة) .
عليه فإن أفريقيا لم تكن محصنة تماما من وجهة النظر الفنية . لقد أصبحت أفريقيا مغرية وفريسة للغرب المزود بالأسلحة النارية والبحرية بعيدة المدى . لذا فإن التقدم الإقتصادي لعصر النهضة الأوروبي حث على قهر أفريقيا التي أكملت إنجازها بسرعة والتي إجتازت مرحلة المراكز التجارية الساحلية إلى مرحلة الإلحاق بالإتفاقيات الدولية الغربية وأعقب ذلك القهر العسكري الذي سمي (مسالمة) . في بداية هذه الفترة كانت أمريكا قد أكتشفت بواسطة (كريستوفر كولمبوس) . لقد إقتضى تطوير الجزر العذراء عمالة رخيصة وأصبحت أفريقيا بعد ذلك إحتياطيا جاهزا تستجلب منها القوى العاملة بأقل تكلفة ومخاطرة . لقد إعتبرت التجارة الحديثة للرقيق الأسود ضرورة إقتصادية قبل ظهور الآلة وقد إستمر ذلك حتى منتصف القرن التاسع عشر . إن هذا الإنقلاب في الأدوار الناجم عن العلاقات الفنية الجديدة قد جلب معه علاقة العبد والسيد بين البيض والسود على المستوى الإجتماعي . خلال العصور الوسطى فإن ذاكرة مصر الزنجية التي عملت على تحضر العالم ، غشتها الضبابية بفعل تجاهل التراث الأثري المخبأ في المكتبات أو المدفون تحت الحطام . لقد أصبح محجوبا بشكل أكبر خلال تلك الأربعة قرون من العبودية . إن الأوربيين المتخمين بتفوقهم الفني الحديث لم يتفضلوا بالنظر إلى العالم الأسود إلا من خلال ثرواته . إن تجاهل التاريخ القديم للسود ، إختلاف الأعراف والتقاليد ، الإضطهاد العرقي بين السلالتين جعلهم يواجهون بعضهم البعض للمرة الأولى مع الحاجة الإقتصادية للإستغلال ? لذا فالكثير من العوامل قد جعلت العقل الأوروبي ميالا لتشويه الشخصية الأخلاقية للإنسان الأسود ومقدرته الفكرية . منذ ذلك الوقت أصبحت كلمة (زنجي) مرادفة للإنسان البدائي لتتحول إلى (الأقل قدرا) وذو العقلية الجاهلة . حيث أن الإنسان تواق دائما لتبرير مسلكه فقد مضوا في ذلك إلى الأبعد . إن الرغبة في شرعنة الإستعمار وتجارة الرقيق ? أو بمعنى أخر الحالة الإجتماعية للزنوج في العالم الحديث ? قد أنتجت أدبا كاملا يصف ما

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..