شارع بيتنا – الحلقة الثالثة

شارع بيتنا
الحلقة الثالثة
1-
حوش ( علي درير ), بالرغم من اتساعه وتمدده، فإن ما يحويه من مباني، لايتعدى راكوبة صغيرة، على يسار الداخل, مفتوحة من الجانبين, بها عدد من الأزيار, تليها راكوبة واسعة تتصل بها قطية, وهما مخصصتان للنساء, ثم قطية للرجال إلى الغرب قليلا, ملحقة بها راكوبة متوسطة الحجم. بمقربة من قطية النساء, على السور الجنوبي (دهر تور)، يُستخدم للعواسة والتخزين. تتوسط الحوش نخلة عزباء توقفت عن طرح الثمار منذ أمد بعيد، إلى الغرب منها أثر أطلال لما كان سابقاً حجرة مشيدة من الطين، أكلت التربة المالحة أساسها فانهارت، ومن ثم ترك أهل الحوش الركام كما هو، شاهداً على عهدٍ مضى. بقية الحوش يتخذه الصبية ملعباً لهم, خاصة في الليالي المقمرة.
حين توفي ( علي درير )، ترك خلفه أرملة وولدان، لم يبلغا سن الرشد, وعدداً من البنات، وخالهم ( حسن ). والخال حسن هذا حكاية قائمة بذاتها. أشعث، أغبر، لا يفيق من سكرةٍ، إلا إليها, مهذار, ينسج من خياله قصصاً وحكايات، يدور معظمها حول بطولاته، ومعاركه، وانتصاراته. بحكم عمله بالسلخانة، فإن مهمته تبدأ من منتصف الليل، وحتى ساعة متأخرة منه. ومنذ غروب الشمس، يبدأ بالدوران على بيوت ( العرقي )، يعب منه عباً، ثم يحمل ماتيسر منه إلى مكان عمله .
حكى مرة أنه كان في طريقه إلى البيت, والظلام حالك, فرأى ما ظنه حماراً، فامتطاه, من سكره لم ينتبه لصنف الحيوان الذي اعتلاه،كان ذئباً ضخماً. عوى الذئب، فما كان من حسن، ( حسب روايته )، إلا أن لكزه ونهره:
– حمار ولاّ مرفعين، علي اليمين ما بسيبك إلا توصلني بيتنا
ويبتسم السامعون ابتسامة تثير حنقه:
– ما مصدقين ؟ علي اليمين ركبت المرفعين غصباً عنو .. أها شوفو
ويكشف عن باطن ساقيه، ليريهم أثراً قديماً، يزعم أنه من خشونة شعر المرفعين.
مرة في صبيحة عيد الفطر، وحسن يعاني من حمى أصابته، سمع المسحراتي المعروف والملقب ( اب زوغات) يردد ترانيمه كعادته صبيحة العيد وهو يطوف بالبيوت ليجمع ما يجود به أهل الشارع من عطايا، عينية أو نقدية. كان (اب زوغات ) يردد دون قصد ترنيمة يقول فيها وهو يضرب طبله بإيقاع رتيب:
(الناس في فرحة العيد وانت في المرض الشديد)
هب حسن من مرقده وخرج الى الشارع حاملاً عكازته، وهو يرغي ويزبد ويتوعد:
– والله الزول ده ما بخليهو ده قاصدني أنا
بعد جهد استطاع أهل الشارع تهدئته، وأن الرجل لا يقصده تحديداً. إن هي إلا ترنيمة يرددها في كل عيد، لا يعني بها شخصاً بعينه.
كان ( حسن )، بالرغم من سكره، وعدم انضباطه, يحب أبناء أخته، ويحمل إليهم من السلخانة، ما لذ وطاب من اللحوم, ويعطي أخته معظم حصيلة عمله, يقتطع منها فقط، ما يكفي لتغطية مصاريف مزاجه, إلا أنه لم يعمِّر طويلاً, جفف العرقي كبده, وأورده مورد الهلاك.
2-
لم تجد الأرملة سبيلاً لتربية أطفالها بعد وفاة أخيها, وانقطاع مورد رزقها, إلا أن تتزوج, الشيء الذي لم يرض عنه الأولاد, لكنهم قبلوا به على مضض. إذ أنهم، في تلك الفترة، مازالوا في بداية طريقهم لتعلم مهنة الحدادة, التي تركها أكبرهم، لضعف بنيته وداءٍ مزمنٍ أقعده, وبرع فيها أصغرهم ( أونور )، وتدرج فيها، حتى أصبح صاحب محل، له شهرته وزبائنه.
في هذا الأثناء أنجبت أمهم من زوجها الثاني، ولداً وبنتاً، ثم مالبث الزوج أن طلقها، حين وجد مضايقة من الأبناء الذين صاروا رجالا0بعد عامٍ من طلاقها، توفيت والدتهم، فتكفل ( أونور ) برعاية أخواته البنات, وقد بلغ مبلغ الرجال، وصار شاباً يملأ العين, طويل القامة، قوي البنية,يهتم بأناقة ملبسه، وله أسلوبه الخاص في لف العمامة, قلده فيه العديد من أصدقائه, دمث الأخلاق, أخو إخوان, يفيض شهامة وكرماً ورجولة.
ثم أنه تزوج الابنة الكبرى لـ ( سعيدة الداية). كان زواجاً أسطورياً، اجتمع له الناس من كل حدب وصوب. وجاء أهله وأبناء عمومته من باديتهم، بخيلهم وأبلهم وطبولهم وسيوفهم وحرابهم. لشهرٍ كامل، ليل نهار، ما انقطع الغناء والرقص, استعرض الفرسان مهاراتهم في ركوب الخيل، وأظهر الشباب ثباتهم وقوتهم في ( البُطان ). ونُحرت الذبائح دون حساب. وقيل أن أهل الشارع ما صنعوا طعاماً قط في بيوتهم طيلة ذاك الشهر.
بعد زواجه بخمس سنين, توفى أونور, فجأةً, وما زالت زوجته لم تكمل أربعين ولادة طفلتها الثانية بعد. أحدثت وفاته المفاجئة, زلزلة في نفوس أخواته، وزوجته، وأهل الشارع، وأصدقائه، وكل من عرفه وعاشره.
الأصدقاء، تجنبوا من بعد, العبور أمام الحوش, لأنهم ببساطة، لا يستطيعون حبس دموعهم، وكتم عويلهم، حين يمرون فيتذكرون.
ولزمنٍ طويل بعدها، أوقف أهل الشارع كل مظهرٍ للفرح0 ولزمنٍ طويل أيضاً، استمر حداد أخواته البنات عليه. وكلما طافت ذكراه ببال إحداهن, وغالبا ما يحدث ذلك, يرتفع النواح والعويل.
يتبع…
[email][email protected][/email]