حرص الشريعة على التضييق من توقيع العقوبات..

إن من المعاصي ما شرع الله فيه الحد، وذلك كل معصية جمعت وجوهاً من المفسدة، وكانت عاقبتها فساداً في الأرض، واقتضاباً على طمأنينة المسلمين «فمثل هذه المعاصي لا يكفى فيها الترهيب بعذاب الآخرة، بل لا بد من إقامة ملامة شديدة عليها وإيلام»، حتى ينزجر العاصي، ويطمئن المطيع، وتتحقق العدالة في الأرض، ويأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، كما هو المشاهد في المجتمعات التي تقيم حدود الله؛ فإنه يسود فيها من الأمن والاستقرار وطيب العيش ما لا ينكره منكر، ولكن بقدر ما تشددت الشريعة الإسلامية على تطبيق الحدود تقويماً للسلوك، وصونا للأعراض، وحماية للمجتمع من التصدع والانهيار، حرصت على التضييق من توقيع هذه العقوبات، فالحد لا يثبت عند قيام الشبهة، وليس مجرد التهمة أو حتى الاقتناع الكامل بالجريمة موجباً للحد ما لم يثبت ذلك بالطرق الشرعية، ومما يؤيد ذلك ويقويه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في شأن امرأة شاعت عنها قالة السوء، وانتشرت هذه القالة عنها، وعن سوء أخلاقها وفجورها من غير حياء ولا خجل: «لو كُنْتُ رَاجِماً أحداً بغَيْرِ بَيّنةِ لرجَمْتُ فُلاَنَةَ، فَقَدْ ظَهَرَ فِيهَا الرِيبةُ فِى مَنْطِقَها، وَهَيْئتِهَا، وَمَنْ يدْخُلُ عَلَيْهَا». ومن خلال هذا النص يتضح لنا أن الشريعة الإسلامية لا تتصيد للناس التهم، ولا تلتمس أوهن الأسباب لتجعل من العقوبة سيفاً مسلطاً على رقاب العباد، يهدد المذنب والبرئ على حد سواء، كل ذلك ليس من الشريعة في شيء، لأن الشريعة مبناها وأساسها قائم على العدل والرحمة، والإحسان والستر الى جميع الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كل الشواهد والأمثلة تؤكد أنه كان يلتمس الستر على المجرم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر واقعة ماعز التي رواها البخاري في صحيحه، وذلك حينما حرض بعض الناس ماعزاً على الإقرار، فذهب وأقرّ أمام الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يحمله على الرجوع في إقراره، بالتعريض، فقال له: «لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت»، ولما تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من صحة إقراره، أخذ يسأل أهله إن كان به جنون أو أية علة تدرأ عنه الحد، ولما علم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بالذي حرض ماعز على الإقرار ويدعى هزّال عاتبه وقال له: «يا هزّال لو سترته بردائك لكان خيراً لك»، ويروى أن ماعزاً مرّ على عمر رضى الله عنه فقال له الفاروق: «أأخبرت أحداً قبلي، قال لا، قال فاذهب فاستتر بستر الله تعالى، وتب إلى الله، فإن الناس يعيرون، ولا يغيرون، والله تعالى يغير، ولا يعير، فتب إلى الله، ولا تخبر به أحداً»، فذهب إلى أبى بكر الصديق رضي الله عنه فقال له مثل ما قال عمر، ثم ذهب بعدها إلى الرجل الذي لامه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما جاءت شراحة الهمدانية معترفة بالزنا للكرار علي رضى الله عنه قال لها: «لعله وقع عليك وأنت نائمة، لعله استكرهك، لعل مولاك زوجك منه وأنت تكتمينه»، وما كان عليٌّ يقصد من هذه الأسئلة إلا ما قصده الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعل هذا الخبر مع ما سبقه يدل على أن التضييق في تطبيق الحدود أمر محبب في الإسلام، كما يرى بعض الفقهاء «أنه يستحب للقاضي أن يعرض للمقر بالرجوع عن الإقرار إذا لم يكن ثمة دليل إلا الإقرار، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقن المقر أن يعدل عن إقراره، ولو لم يكن للعدول أثره في درء الحد لما أوحى به عليه الصلاة والسلام للمقر، أما كيف يدرأ العدول الحد، فذلك أن الإقرار هو الدليل الوحيد في القضية، والعدول عن الإقرار شبهة في عدم صحة الإقرار، والحدود تدرأ بالشبهات»، ولعل الحكمة من درء الحدود بالشبهات هي: تضييق دائرة الحدود لشدتها، ولكن لا انعدامها كلية، «بل تبقى في المواضع القليلة التي تجب فيها، وتثبت فمجرد وجودها قائمة للتطبيق في كل وقت وحين يكفي لتكون رادعاً للمجرمين قصد حماية الفضائل، وصيانة المجتمع من الفساد، وبذلك تؤدي مقاصدها المنشودة من غير إرهاق أو عناء كثير».

الطيب النقر
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. احسن الله اليك ووالديك…

    كلام مبسط ومقنع وارجو ان يقراءه شبابنا ويُعملوا عقولهم لفهمه والاستزادة من القراءة لمعرفة اصول دينهم وتشريعه حتى لا يقعوا في فخ التضليل الحاصل اليوم والهجمة التي يمارسها بعض اصحاب الاجندات ويتبعهم للاسف بعض المُضللين.

    وللاسف وقع الكثيرون في فخ التضليل بسبب افعال الكيزان وكل متاجر بالدين او جاهل بابسط اصول الشريعة من جهة، ومن جهة اخرى بافتراءات مدروسة من فئة من اصحاب الاجندات الخفية تتاجر بالقيم الانسانية او الوطنية او المعارضة او غيرها مما يجذب الناس بينما ان جل همهم هو محاربة التشريع الاسلامي وصلاحيته وفقاً لحجج لو نظروا للتشريع نفسه وفهموه لعرفوا عدم منطقيتها.

    ولكن هؤلاء لا يريدون الانصاف لانهم اصحاب غرض، فيستغلون افعال المتاجرين بالدين ويصيدون في عكرة مياهها لتبرير افكارهم، وللاسف وقع في فخهم كثير من الشباب وايضاً بعض مثقفينا الذين ورثوا افكار اجيال سُلبت بافكار التنوير والحداثة وما بعدها، ففشلوا في اي شئ ايما فشل، ورغم ذلك يربد ورثتهم ان يرموا بالفشل على التشريع الاسلامي.

  2. الفكره المركزيه للمقال خاطئه وتقوم على هوي يفضى الى دغمسه تجعل القوانيين العوبه فى يد من يطبقونها نسبه للغموض الذى يكتنفها و المساحه الواسعه التى تترك لمزاج القاضى هذا علاوه على ان الاستنباط من القران والسنه يتوقف فى الاول والاخر على ثقافة ونفسية المستنبط والشكل المسبق الذى يريده لشكل استنباطاته فمن المؤكد ان مايستنبطه كاتب المقال يختلف عنما يستنبطه المله عمر وانا هنا اسأل كاتب المقال كيف تتماشى هذه الفكره مع قول الرسول .ص. والله لوسرقت فاطمه بنت محمد لقطع محمد يدها.والحديث واضح فى ان تطبيق العقوبه يتوقف فقط على الاثبات والاقرار سيد الادله.يا كاتب المقال ان الانسانيه اصبحت اكثر تطورا فى مجال سن القوانين وحفظ الحقوق مما ذهبت اليه واصبحت النصوص واضحه مانعه شامله عادله تتوافق مع الحقوق الطبيعيه وترضى المتقاضين وتحقق المصالح العليا للمجتمع.ليس لدينا ازمة قوانيين الازمه فقط فى الضمائر .تحياتى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..