شارع بيتنا – الحلقة الأخيرة

1-
بما أن الأمر أصبح تغليباً للمصالح الشخصية, على ما عداها من روابط اجتماعية, فما كان من (حاجة سعاد)، إلا أن جزأت بيوتها المقابلة للمنتزه من ناحية الشرق، إلى عدة أجزاء,وقامت بتأجيرها لعدد من بنات الليل. سكنت في جزء منها ( حواء تيلا ) العجوز القوادة التي لا تمتنع عن ممارسة الجنس متى راق لها ذلك مع من تصطفيه. والجزء الآخر قطنته ( عواطف الأثيوبية)، وسعاد ( الأثيوبية الصماء)، تجاورهما ( مريم اللبتاوية )، وهكذا.

الغريب في الأمر، أن الجزء الجنوبي من الشارع سلِم تماماً من هذه الهجمة, فأصبح الأمر وكأنه مواجهة صامتة, حذرة, بين الفضيلة والرذيلة. و لحماية منازلهم من التعدي، عمد أهل الجزء الجنوبي إلى كتابة جملة ( منزل أحرار )، بخط كبير على أبوابهم، حتى لا يخلط رواد الليل، بين أهل الشمال المنفلتون، و أهل الجنوب المحافظون، فيطرقون الباب الخطأ, إلا أن ذلك أحياناً لا يجدِي فتيلاً, إذ أن معظم الرواد سكارى:
– يا خي كلهم زي بعض ويكتبو ليك أحرار ..هه
كما قال أحدهم، لمن حاول تنبيهه، وهو يتلعثم ويترنح من شدة السكر.

2-
من عادة بنات الليل، ترك الأبواب مفتوحة على مصراعيها كل يوم، من الصباح وحتى ساعة الظهيرة, مع رش الماء أمام باب البيت, وإطلاق البخور الذي يتميز برائحته النفاذه, وحسب اعتقادهم، فهذا من شأنه جلب الزبائن ليلاً.
أثناء النهار لا يستقبلون أحداً, إلا إن كان الأمر يتضمن مقيلاً مكتمل الأركان. وهذا ما كان يحدث حين بدأ مشروع بناء خزان خشم القربة, وقرى حلفا الجديدة، وارتفاع الخط البياني للسيولة النقدية في الأيدي. إذ يأتي العمال إلى الشارع نهاية الأسبوع, وما عليهم إلا أن يقولوا عند الباب كلمة السر، ( تورنو ), وهو اسم الشركة المنفذة للمشروع, فتُفتح الأبواب, وتخرج النقود رزماً, وتسيل الخمر ودماء الذبائح أنهارا, وسيارات الأجرة رائحة غادية, تُفرغ مزيداً من الخمر والرواد. حينها لا سبيل لغيرهم، إلا المشاهدة من بعيد والتحسر0
حقيقة كان عصراً ذهبياً لقاطني الجزء الشمالي من الشارع، فالخمر صارت تأتي بالشاحنات,و تُنحر الخراف والفضيلة. وامتلأت أيدي الغانيات بالمشغولات الذهبية, حتى ( عثمان )، صاحب الكنتين في نهاية الشارع، استبدل دراجته المتهالكة، بشاحنة صغيرة، لمقابلة الطلبات المتزايدة. وتلك هي الأيام التي أُتيح فيها لحاج احمد أن يشتري البيت المجاور له، بيت المرأة الغامضة.
بالمقابل كان ذلك زمناً عصيباً وكابوساً جثم على صدور سكان الجزء الجنوبي من الشارع ، فباتوا لا يغادرون منازلهم بعد المغيب, تحسباً, خاصة نهاية الأسبوع0
صاحبات البيوت،( المعلمات الكبار ), بدأن في استقطاب الشباب، والرجال ذوي العضلات المفتولة والتاريخ المتخم بالشراسة والعنف، فاتخذن منهم رفاقاً وحماية وشبه أزواج لبعضهن , نظير الإعاشة والمزاج ومصاريف اليد.
المعلمة ( سيدة ) البدينة البذيئة , ألقت شباكها حول (عمر ) النجار الشاب, صغير السن، مفتول العضلات, قليل الخبرة بالنساء, فانقاد لها مغمض العينين, وترك مهنته وانغمس معها في حياة الليل المهلكة, جُنّت سيدة به, وصارت تصرف عليه دون حساب, حتى أنه بلغ بها الأمر أن أهدته شاحنة ليعمل عليها، حين تذمر من جلوسه عاطلاً دون عمل. وفي نهاية الأمر أصابه القرف منها ومن تسلطها عليه, فركل كل ذلك ومضى.
( عواطف ) الأثيوبية، اختارت أحد أبناء جلدتها، ( ود قرّمي ),الشرس، ربيب السجون، ليكون حامياً ورفيقاً لها.
(ود قرّمي)، حين تلعب الخمر برأسه,يطرد زبائنها, ويشبعها لكماً وركلاً. تربص به يوماً جماعة, فأوسعوه ضرباً وتكسيراً، يقال أن ذلك تم بإيعاز من (عواطف). وظل صاحبنا بالمستشفى شهوراً ليتعافى، إلا أنه فقد الكثير من خصائصه, إذ أورثته تلك الحادثة عاهة مزمنة في يده اليمنى، وتضعضعت قواه. فاستعانت ( عواطف ) بغيره.
(خديجة الغرباوية )، كانت تُبدِّل مرافقيها، كما تُبدِّل فساتينها, فهي امرأة صاحبة مزاج متقلب. حتى جاءها )عجب) النوباوي, الذي خرج لتوه من محكومية جريمة قتل, فانعدل مزاجها قسرا0
3-
في بداية السبعينات, قررت سلطات المدينة منع كافة الأنشطة التي لا تتفق وتعاليم الدين الحنيف, فأُغلقت البارات ومحلات بيع الخمور. وبدأت حملات الشرطة في مداهمة أوكار الرذيلة, والقبض على أصحاب البيوت, وسجنهم وتحذيرهم. ولقد اتهم ( حاج احمد ) حين القبض عليه, بعض شباب الشارع، بأنهم وراء اعتقاله:
– حساده ساكت يابنات امي, شكيتم على الله
وأصبح الأمر سجالاً بين الشرطة وملوك الليل, ولا يخلو الأمر أحياناً من تجاوزات، تدعمها الأموال التي تتسرب للمتنفذين من تحت الطاولة. في النهاية وجد ملوك الليل أن ذلك قد سبب لهم إرهاقاً، ماديا ونفسيا. فترك بعضهم المدينة إلى مدن أخرى, واستبدل من بقي منهم مهنة الليل بمهن أخرى, في حدود القانون, وبما أن العود أعوج, فإنهم أحياناً يمارسون عادتهم القديمة في تقديم الخدمات لمن يثقون فيه، وبسرية تامة.
وبدأ الهدوء المفقود يعود إلى الشارع، و تنفس سكان الجزء الجنوبي من الشارع الصعداء, وعرفوا سبيلهم إلى النوم الهادئ الآمن, ودهنوا أبوابهم مجدداً، ليخفوا آخر ذكرى لأيام مجنونة. من بعد, في الخرطوم, وحاج احمد يكمل إجراءات السفر لحجته الثانية, دهسته شاحنة, فمات. جاء شقيقه واستولى على البيتين والأموال. قام بتأجير البيت الرئيسي بقسميه, وباع الآخر, واصطحب زوجة حاج احمد، ومولودتها، وسافر بهما إلى بلده البعيد، غربا0
البيت الذي كانت به ( سيده)، هدمه صاحبه, وأعاد تشييده، ومن ثم أسكن به عائلته.
في هذه الأثناء توفيت الحاجة سعاد, فورثها ما تبقى من أهلها, وقاموا بتأجير بيتها الذي كان زينة بيوت الحي, حتى إذا ما تقدمت الأيام, تهدم البيت من الإهمال، وأصبح خراباً. ثم قاموا ببيع ما تبقى من بيوتها. وكذلك فعل مثلهم شقيق حاج احمد ، عاد وباع البيت الرئيسي لأحد الأثرياء الجدد 0

وهكذا، فالشارع الذي شهد على مر عقود من الزمان, تبديلاً في شكل مبانيه، وتركيبته السكانية, وعلاقات قاطنيه الاجتماعية, ما عاد هو الشارع القديم. شارع ناس شاميت البارياوية, وسعيده الداية, وخديجة الممرضة, وخضرة, وعبد الفضيل فتّال الحبال، ومدينة العميانة بلسانها الذي لا يهدأ، وزنبيش الأثيوبية التي ما فتئت حتى مماتها تمضغ ذكرى عز أسرتها المغتصب, وأم النور ودجاجاتها المشاكسة, والحاجة سعاد وحكاياتها الفاضحة, وبنات رزق الله, وأبو حوه, وعلي الورّي. رحل من رحل ومات من مات، ومازال الجيل الثاني من آل درير، باقياً بالشارع، قابضاً على جمر الذكرى والحنين إلى عهدٍ مضى.

انتهى

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. الاخ القاص الحكاي الطيب محمود النور لك التحية والشكر على هذه الحلقات القصصية الممتعة التى انستنا بها . يبدو واضحا ان لك موهبة في فن السرد القصصي نرجو ان تستمر وان نقرأ لك قصصا اخري من نوع الادب القصصي الممتع . لك التحية ومزيد من الانتاج .

  2. رائع يا الطيب والله امتعتنا

    وخففت عن وظأة ووحشة الايام

    لكنك تركت فينا آفة الادمان

    وبعدين قالوا الرضاعة ساهلة

    صعب الفطام وبعدين رايك شنو

    هل من جديد اوعى تتركنا في

    مفترق الطرق واوعى تطول الغياب

  3. هكذا استمتعتم معنا وما بالكم بنا ونحن نتابع هذا السرد الرائع تتجسد امامنا كل شخصية من ابطال الطيب وهى على فكرة شخصيات حقيقية كانت تمشى بيننا انا لست من جيل الطيب ولكن اذكر على الورى جيدا وسيدة وبعض منهم عزيزى الطيب كيف الت العمودية فى كسلا لاحمد جعفر ومن ثم صارت ورثا متداولا حتى وصلت للحفيد العميد ثم ماسر هذه العمودية الشرفية اعتقد ان كسلا بكل ما تميزت به تميزت ايضا بان يكون للمدينة عمدة قصدت ان انقلك من المرعنية والضريسة الى القوازة والختمية على تعود بنا فى مرة قادمة وحكاية اونور الهمباتى الرائع المشهور

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..