التمكين للتكنوقراط!!

لا ينقطع الحديث عن الحكومة القومية، تلك القومية المفترى عليها، ولو تمعن المراقب في الشأن السوداني لما رأى الحد الأدنى من القومية في تصرفات السياسيين حكاماً كانوا أم معارضين، فالروح القومية تلاشت تماماً في تصرفات السياسيين حاكمين كانوا أم معارضين!!
أين القومية في تفجير أنابيب البترول، بل أين القومية في مساندة التمرد من قبل الأحزاب السياسية المعارضة لجون قرنق والذين بواسطتهم وبتأييدهم نال الدعم من الغرب وحتى الشرق العربي، ذلك الدعم الذي ظهر في شعار معروف لدولة عربية غنية، ذلك الشعار الذي أظهرته الذخيرة التي تم ضبطها مع المتمردين!!
وأين القومية في السياسة التي ابتدعها النظام الحاكم والتي تجسدت في سياسة التمكين لقلة دون الملايين من أبناء السودان، حيث عاث الممكنون فساداً وإفساداً، وانحدرت الأخلاق إلى دركٍ سحيق، وأي قومية هذه التي يطالبون بها في ظل كبت الحريات، والمولى عز وجل أعطى الإنسان الحرية حتى في الكفر به!!
أين الروح القومية وقد ذهب الجنوب وبمباركة كل من النظام الحاكم ومعارضته التي تمتعت بقصر النظر وظنت أن نيفاشا هي الطريق الأوحد لتخليصهم من النظام الحاكم بعد أن عجز السياسيون عن إزاحته، بل وأين القومية وروحها عند ذكر عرمان على كل قنوات العالم عن أن أنموذج الجنوب سيطبق على دارفور والشرق والمناطق الثلاث، أي بكل بساطة تفتيت السودان إلى دويلات بعد نجاح أنموذج الجنوب ولم ينتقد «أي سياسي» حاكماً كان أو معارضاً هذا الحديث الذي يدعو صراحة لتفتيت السودان، أين ذهب الحس القومي؟!
هل كانت الروح القومية في ثبات ساعتها؟! وإن لم
تظهر الروح القومية في لحظة تفتيت السودان فمتى تظهر إذن؟! تظهر فقط لحظة ضعف النظام الحاكم وتهافت عطالى السياسة على كراسي الحكم والحظوة بوظيفة دستورية تؤمن له ـ دون حق ـ رغد العيش على حساب الملايين من البؤساء الذين يتحملون دون غيرهم العبء الأكبر لتوفير عيش رغد لبضعة آلاف من العطالى يحملون صفة دستورية؟!
فالذين يطالبون بالحكومة القومية هم آخر من يؤمن بها ذلك أن تفكيرهم السياسي يجتنب أول ما يجتنب القومية، فنواياهم ذاتية خالصة، وقد ذكرت أمثلة لحكومات ما بعد أكتوبر، والتي لم تدم لأكثر من شهرين والفوضى التي واكبت حكومة أبريل التي أنهاها المشير سوار الذهب خلال عام، بعد الفوضى السياسية التي سادت الشارع السياسي!!
السودان من البلاد القليلة في العالم التي تعتبر السياسة فيها مهنة، وقد شاهدنا الرؤساء في كل الدول المتقدمة حين تنتهي فترة رئاستهم يمارسون مِهَنهم الحقيقية، فكارتر مثلاً رجع إلى مزارع الفول التي يملكها، وبيل كلنتون رجع إلى مكتب المحاماة الذي يملكه وهو الآن يزاول مهنة المحاماة، والكثيرون من الرؤساء في العالم يمارسون أعمالاً عادية بعد أن انقضت فترات حكمهم!!
وفي السودان العكس تماماً فمن على قمة السلطة لا يجد نفسه إلا على رأسها، ومن على كرسي الوزارة لا يجد نفسه إلا وزيراً، فكيف سيتنازل هؤلاء لحكومة قومية قد لا يجد الرئيس نفسه رئيساً، أو الوزير وزيراً، وقد كيفوا حياتهم على هذا؟! إلا أن يتدخل عزرائيل فيريح البلاد والعباد منهم!!
ماذا قدم السياسيون حكاماً كانوا أم معارضين خلال أكثر من نصف قرن بعد الاستقلال؟! لقد عجزوا عن تقديم أسلوب حكم له هدف وله برامج لتنفيذ ذلك الهدف، فالمعارضة وهي في قمة عجزها، أخذت تستجدي النظام الضعيف المشاركة في الحكم بحجة القومية التي لا يقيم أياً منهم لها وزناً!!
ولماذا احتواء روسيا؟! لأن روسيا هي القومية الوحيدة في العالم التي يمكنها الوقوف في وجه القطبية الأحادية التي تمارسها أمريكا!!
أقولها وبكل الصدق أن المطالبة بحكومة قومية هي كلمة حق اُريد بها باطل، أين هذه القومية التي ينادون بها والكل تفكيره ذاتي بحت؟! ولو فكر السياسيون مرة في عمرهم المديد يوماً واحداً تفكيراً قومياً وغير ذاتي، لما وصلت البلاد من دمار وتفكك جعلها أفقر الأمم رغم أن السودان يعتبر ثاني دولة في العالم بعد روسيا من حيث الموارد الطبيعية!!
الروح القومية تظهر أول ما تظهر في المواطن حين يرتبط اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً مع الآخرين، إن الذي يربط الشمال بالغرب أو الشرق أو الجنوب هو سهولة ويسر التواصل الاقتصادي ومن ثم ينمو التواصل الاجتماعي وتمازج الثقافات التي يضع عليها الدين لمساته فينقحها من الشوائب فتصبح ثقافة يلتزم بها الجميع، يوصف السودان بتعدد الثقافات لم يستطع مَنْ حملوا لواء الدين أن ينقحوا تلك الثقافات والخروج بثقافة يرضى بها الجميع. وغياب الثقافة المنقحة هو ما يضعف الانتماء إلى الوطن وكذلك الروح القومية، التي بعدما عجز السياسيون أخذوا يطالبون بالقومية في شكل حكومة قومية تفتقر أول ما تفتقر إلى روح الانتماء القومي!!
تاريخ الدول يقول إنها ما أصبحت دولاً إلا بعد ربط أجزائها اقتصادياً بالطرق والمشروعات الاقتصادية، لذا تتماسك الدول وتنمو فيها روح الانتماء للوطن، وعلى سبيل المثال نجد أمريكا مثلاً لا توجد فيها أي روح انفصالية، بل وبرغم التعددية الإثنية فيها إلا أن الشعور بالانتماء لأمريكا يفوق كل روح، هذا لأن أمريكا مرتبطة ببعضها البعض اقتصادياً، فشبكة الطرق البرية تفوق العشرات من الملايين من الكيلو مترات، هذا إلى جانب الخطوط الجوية والبحرية، وفكرة الانفصال قضي عليها منذ أكثر من قرنين ونصف من الزمان!!
المستعمر دخل السودان بقطار، يعني أن أول من دخل السودان هم من التكنوقراط العسكريين، ولو لم يكونوا مسلحين بالعلم لما استطاعوا إنشاء خط حديدي وكان فيهم مهندس المساحة ومهندس الطرق الحديدية ومهندس الكباري والمهندسين الميكانيكيين، ومهندس الإشارة والشحن والتفريغ، هذا الكم من التكنوقراط هو أول من دخل مع الجيش الغازي، وتبعهم بعد ذلك خبراء الزراعة والطرق فقامت لأول مرة في السودان زراعة مروية، وقد ربط الخط الحديدي في خلال نصف قرن كل مديريات الشمال الست، والتي بدورها ارتبطت اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وكان لتدمير السكة الحديد الأثر الفعال في التباعد وتصنيف أهل البلد الواحد لبعضهم البعض!!
والتكنوقراط الذين يرفضهم السياسيون هم مطلب الكثير من الدول، حيث يهاجرون إليها ويقدمون لهم خبراتهم التي رفضتها أنظمة الحكم قصيرة النظر، فالتكنوقراط عندما يهاجرون إنما لتقديم خبراتهم، أما السياسيون عندما يهربون إلى الخارج لا يمارسون سوى العطالة والاسترزاق والسكن في فنادق خمس نجوم!!
فلماذا لا تستغل تلك الخبرات لبناء بلدنا وهي تعطي عصارة علمها وخبراتها لآخرين وترفضها حكوماتنا وتستبدلها بالعنصرية تارة، وتحت ستار التمكين تارة أخرى.
وما يؤلم حقاً ذلك المفهوم الخاطئ «عمداً» لمصطلح التمكين الذي شرطه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتعالوا لنفهم هذا فهمه الصحيح، إن الصلاة فرض يجب على كل مسلم، ونأتي إلى إيتاء الزكاة والتي لا يمكن أن تؤدى إلا حين يكون هناك إنتاج فمن الذي يمهد لإيتاء الزكاة؟ إنهم التكنوقراط الذين يقيمون المشروعات الاقتصادية الرابحة التي تؤدي الزكاة، فيعيش المجتمع في مناخ إنتاجي تقام فيه الصلاة وتؤتى الزكاة، والتي بعدمها ينعدم المعروف وتسود الفاحشة، فالزكاة تزكى الإنتاج وتزكي النفوس والمجتمع فيأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في ظل العيش الرغد المزكى.. وهذا ما لا يُدركه الذين تم تمكينهم زوراً وبهتاناً، دون أهل العلم والخبرة من التكنوقراط الذين هم أولى بالتمكين من غيرهم في بلد ساد فيه الانهيار والانحطاط الأخلاقي، ونسي الجميع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطالبوا بحكومة قومية!!
في البدء يجب بناء الوطن وإعادة إعماره، ومن ثم يُحكم قومياً، فأي نظام يقوم دون إعادة الإعمار لن يكون ذا جدوى. وإعادة الإعمار لا يقوم بها إلا التكنوقراط.
دكتور هاشم حسين بابكر
[email][email protected][/email]
يسلم فمك يا دكتور
نعم .. و نبصم عليها بالعشرة لحكومة انتقالية من التكنوقراط ( غير المتحزبين ) .. و كفانا ما لقينا من تكنوقراط انتهازيين أساءوا للعلم و العلماء بمداهنتهم للوطني و الاتحادي و الأمة ….
الاخ الدكتور/ هاشم حسين بابكر
لك مني التحية و لكل حادب علي رفعة هذا الوطن .
الموضوع حيوي جدا و في غاية الاهمية . و ما ذكرته هو الخطوة الاولي اذا اريد اعادة بناء السودان علي
دعائم ثابتة . تمكين العلماء (التكنوقراط ) هو المطلب اولا وثانيا و ثالثا و عاشرا . و لكن……..
يلزم تصنيف هؤلاء التكنوقراط اولا الي فئتين .
1- الفئة الاولي هم التكنوقراط المخططون
2- الفئة الثانية هم التكنوقراط المنفذون . و هؤلاء ينقسمون الي عدة مستويات تتدرج حسب متطلبات التنفيذ .
فيما اعتقد ان ما قعد بالسودان منذ خروج الاستعمار و ما ادي بنا الي التراجع التدريجي ابتداء من صباح الاول من يناير 1965 بعد ان كنا نسير بوتيرة متسارعة في مضمار التطور منذ العام 1899 و حتي العام 1956
هو التسرع في سودنة الوظائف العليا و اسنادها الي كبار الموظفين التنفيذين في ذلك الوقت . و عدم احلال
و ظائف المخططين بخبراء مؤهلين للتخطيط لهذا البلد او الانتظار لحين تاهيل خبراء تخطيط. و هذا هو الخطا الذي سارت عليه كل الحكومات اللاحقة بعد ذلك ( عدم وجوي خبراء تخطيط ) لهذا البلد حتي وصلنا الي كارثة التمكين لاهل الولاء في عام 1989. التي ابادت من تبقي من التكنوقراط التنفيذيين بكل مستوياتهم . فانهار كل شيء . و جلسنا ننظر للعالم من حولنا تملؤنا ندامة الكسعي .؟؟؟؟؟؟؟؟