عم عبد السلام – الحلقة الثانية

عم عبد السلام الحلقة الثانية
1-
عَمّنَا عَبْد الْسَّلام، مِن أَوَائِل الْنَّاس الَّذِين طَاب لهُم الْمَقَام فِي مدينة (كَرَن)، بَعْد الانْسِحَاب الْمُذِل لِلْجَيْش الإيَّطَالي مِن كَسَلا، وَزَحْف قُوَّات الْجَيْش الانْجلِيِزِي، وَقُوَّة دِفَاع الْسُّودَان، وَالْقُوَّات الْهِنْدِيَّة، خَلَف الْجَيْش الايَّطَالي الْمُنْسَحِب إلى دَاخِل جِبَال وَمُرْتَفَعَات (اريتريا)، لْيَتوَاجهَا فِي الْمَعْرَكَة الْفَاصِلَة، وَقَاصِمَة الْظَّهْر لِلجِنرَال (جِرزْيَانِي)، قَائِد الْجَيْش الايطَالِي، فِي مُرْتَفَعَات (كَرَن). و(كَرَن تَعْنِي فِي لَهْجَة البلين ،الْحَجَر).
كَانَت مَعْرَكَة ( كرن)، مِن أَشْرَس و أَخْطر الْمَعَارِك الْحَرْبِيَّة التي خاضتها قوات الحلفاء ضد الجيش الإيطالي، وَقَد وَصَل مُجْمَل الإصَابَات فِيْهَا مَا يُقَارِب الْخَمْسِين أَلْفا. قُدِّر عَدَد قَتْلى الإيْطَالِيِّيْن بِمَا يَزِيد عَن الثَّلاثَة أَلآف، وَتِسْعَة أَلآف مِن الْمُجَنَّدِين الأرْتَرِيين وَالأثْيوبِيين. وَقدَّر عَدَد قَتْلَى الْجَيْش الْبِرِيْطانِي بِخَمْسَة أَلآف. وفقدْت الْفِرْقَتَان الْهِنْدِيَتَان، الْرَّابِعَة وَالْخَامِسَة، وحدهما، مَا يُقَارِب ثلاثة أَلآف مِن الْرِّجَال.
كَانَت مرتفعات مدينة (كَرَن)، مُحْصَنَة تَحْصِيناً قَويّا بِوَاسِطَة الايطَالِيين. إذ أنها تُمثل خط الدفاع الأخير للجيش الإيطالي. فِي حَالَة احْتِلالِهَا، ينفتح الطريق أمام قوات الحلفاء إلي أَسْمَرَة وَمُصْوّع.
بَعْد قِتال دَام لِمُدَة شَهْرَيْن، تَمَكَّنَت الْقُوَّات الْمُهَاجَمَة مِن احْتِلال مرتفعات (كَرَن)، بعد أن تكبدت خَسَائِرِ كَبِيْرَة، كما أسلفنا.. بَعْد انْتِهَاء الْمَعْرَكَة، وَسُقُوْط كَرَن، اسْتَسْلَم الألاف مِن الايطَاليين، وَهَرَب مِثْلهم مِن الأثْيُوْبِيين، وَالصُّوَمالِيين، وَالارتَرِيين، وَغَيْرِهِم مِن الْمُجَنَّدِين، إلي الْجِبَال.
بَعْد انْتِهَاء الْحَرْب، أَصْبَح الْطَّرِيق سَالِكاً لِلْذهَاب إِلَى ارِيتَريّا لِلْتِّجَارَة وَالإقَامَة.
الْكُل اتَّجَه إلى ( جُوَّه )، كَمَا كَان يُسَمِّيهَا الْنَّاس فِي ذَلِك الْوَقْت، فَيَقُوْلُوْن ( فلان مِن نَاس جُوَّه )، أَو ( فلان سَافَر جُوَّه )، وَلا أَدْرِي أصل هذه الْتَّسْمِيَة، رُبَّمَا لِوُجُوْد تلك الْجِبَال وَالْمُرْتَفَعَات، الَّتِي تُشَكِّل حَاجِزاً بين السودان واريتريا، يمْتَد مِن الْجَنُوْب إلى الْشِّمَال، وَمِن يَتَجَاوَزهَا دَاخِلاً، فَهُو كَأَنَّه قَد دَخَل (جُوّهَ) وَالْلَّه أَعْلَم. وكان عم عبد السلام من أوائل الذين ذهبوا الى اريتريا، وبالتحديد الى مدينة كرن، بعد انتهاء الحرب.
فِي (كَرَن) مَارَس عَمِّنَا عَبْد الْسَّلام بِلال مِهْنَة الْخِيَاطَة، بِالإضَافَة إِلَى انْضِمَامِه لأحد فِرَق كُرَة الْقَدَم بِالْمَدِينَة، فَلَعِب حَارِسَاً لِلْمَرْمَى، وَلَه فِي ذَلِك ذِكْرَيَات تَعْكِسُهَا تِلْك الْصُّوَر الَّتِي تُزَيِّن جدْرَان محلَّه، وَلا يَنْفَك يَتَحدث عَن مُنَاسِبَاتِهَا لِكُل زَائِر.
لَم يُعَمَّر عَمّنَا عَبْد الْسَّلام بِلال فِي المَلاعِب الكرناوية طَوَيْلاً، إِذ ابْتَعَد عَنْهَا بَعْد إِصَابَة بَالِغَة، لِسُوْء الْمَيَادِين، وَعَدَم وُجُوْد ضَوَابِط فِي ذَلِك الْزَّمَان تحِد مِن الْعُنْف في الملاعب، عَلَى حَد قَوْلِه.
تَزَوَّج عَمّنَا عَبْد الْسَّلام بِلال، الْخَالَة (عِيْشَة)، مِن أَهْل كَرَن، وَحِين عَاد إلى كَسَلا أَحْضَرَهَا مَعَه. الْحَق يُقَال أَنَّهَا امْرَأَة بِمَعْنَى الْكَلِمَة، بِجَمَالِهَا الْهَادِئ، وَلَوْنهَا فَاتِح الْسَّمْرَة، وَحَوَر عَيْنِيْهَا الْخَفِيف الذي يزِيد جَمَالهَا أَلَقَا. دَائِمَة الابْتِسَام، قَلِيْلَة الْكَلام، وَإِن تَحَدَّثْت، تْشُوْب حُرُوْفهَا لُكْنَة (كْرَنَاوِيّة)، تَجْعَل لِحَدِيثِهَا وَقَعَاً مُحَبَّبَاً فِي الآذَان. كُنَّا نتسَابِق، نَحْن صَبِيَّة الْمَحَل، فِي الْذَّهَاب لإحضار عَمُوْد الْغَدَاء، لِمَا تُتْحِفنَا بِه الخالة (عيشة)، مِن حَلْوَى مُرْفَقَة بِابْتِسَامَة عَطُوْفَة.
وشَتَّان مَابَيْنَهَا وَبَيْن عَمّنَا عَبْد الْسَّلام مِن اخْتِلاف فِي الطِّبَاع
2-
لا يُمَاثِل عِشْق عَمّنَا عَبْد الْسَّلام لكَسلا، إِلا تَعَصَّبَه لِنَادِي الْمِيرغنِي. تَعَصُّباً يَخْشَاه كُل مَن يَقِف بِجَوِارِه فِي الإستاد، إِذ لا يَقْبَل عَمّنَا عَبْد الْسَّلام أَيَّة إِهَانَة أَو سُخْرِيَة مِن المتفرجين تجاه لاعِبِي الْمِيرغْنِي، وَإِن حَدَث ذَلِك فَعَصَاه ( الْكِرِيز ) جَاهِزَة لَتلْقِيَن مِن يَجْرُؤ دَرْسَاً لا يَنْسَاه. رَحِم الْلَّه الْفَاتِح جَوْهَر، ( الْسَّد )، الَّذِي لَسَعَتْه ( الْكِرِيز ) لسعَةً، جَعَلْتَه يَتَجَنَّب الْوُقُوف خَلَف الْمَرْمَى مِن الْنَّاحِيَة الْجَنُوْبِيَّة للإستاد، وَهُو الْمَكَان الْمُفَضَّل لدى الْعَم عَبْد الْسَّلام.
– يَا خَي عَمّك دَه مَا يَدِّي الْزَّوْل فُرْصَة لِلمَفَاهَمة، بَس يديك بالكريز، لُب، لَبَع.
يَقُوُلُهَا الْفَاتِح ( رَحِمَه الْلَّه )، ضَاحِكاً. والفاتح معروف بتشجيعه لنادي التاكا، الند التقليدي لنادي الميرغني . َ من بعد، اتَّخَذ الفاتح مِن تِلْك الْوَاقِعَة طَرْفَة، يَحَكيَهَا دَوْمَاً.
مِن نَاحِيَة أُخْرَى، فَعَمَّنَا عَبْد الْسَّلام كَان يُؤْمِن إِيْمَاناً قَاطِعَاً، بِجَدْوَى الْسِّحْر وَالْشَّعْوَذَة
( الِبَاتُوْتّة )، في حسْم نَتَائِج المباريات. لِذَا فَهُو يَحْرَص قَبْل كُل مُبَارَاة هَامَّة عَلَى ذَبْح ( تَيْس أَسْوَد )، ثُم يَطْلُب مِن لاعِبِي الْفَرِيق الْقَفْز فَوْقه.
يذْكَر ( عِصَام سرُالْخَتم )، حارس مرمى الفريق، أَنَّه مَرَّة هَرَب مِن أَدَاء ذلك الطَّقْس، وَمَع بِدَايَة الْمُبَارَاة وَلَج مَرْمَاه هَدَف سَرِيع، فَصَاح فِيْه عَمّنَا عبد السلام غَاضِبَاً:
– اسْتَنَّى لِي، أَبَيت تَنُط الْتَّيْس يَاوَلَد، دايِرُم يَغْلِبُونا وَلا شنُو؟.
الْحَمْد لِلَّه أَن الْنَّتِيجَة الْنِّهَائِيَّة جَاءَت لِصَالِح الْفَرِيق، لَّوْلا ذَلِك لما سَلَّم عِصَام مِن غَضْبَة
( الْكرِيز ).
إلى جَانِب ذَلِك، فَهُو يَتَخَيَّر بَعْض اللاعِبِيْن الَّذِيْن يُعْتَبَرُوْن دعَامَة الْفَرِيق، وَيَغْرِز فِي شعْر كُل وَاحِد مِنْهُم عُوْداً خَشَبِيّاً رَفِيعَاً، يَزْعُم أَن أَحَد شِيُوخ غَرْب الْقَاش قَد قَرَأ عَلَيِه، لِيُدْخِل الْرُّعْب فِي قُلُوْب الْمُنَافَسِين:
– عَشَان يَجَهْجِه الجماعة وما يقدرو يلعبو.
حَسب قَوْلِه واعتقاده.
إِن حَدَث وَهُزِم الْفَرِيق، فَإِن الَّذِين يقفون قريباً منه، يَفِرُّوْن من جواره قَبْل انْتِهَاء الْمُبَارَاة، كَمَا يَفِر( الْصَّحِيْح مِن الأَجْرَب). َيَومُهَا عَمّنَا ( يشاكِل ضُلُّو) كَمَا يَقُوْل رِفَاقِه. وَالْوَيْل لِمَن يُحَاوِل مُنَاقَشَة أَمْر تِلْك الْمُبَارَاة مَعَه.

يتبع………..

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..