حول كتاب (ثقب كوستى الاسود) أو مأساة عنبر جودة للمؤلفة ستيلا بزويك

كتاب (ثقب كوستى الاسود) أو مأساة عنبر جودة للمؤلفة ستيلا بزويك
عمل بائس، ولا يكافىء حبر الاستاذ، الهاشمى الذى ترجمه.
ملاحظات : على حمد ابراهيم
احد ابناء مدينة جودة وشاهد عيان.
ابدأ بشكر الاستاذ الهاشمى على محاولاته المستمرة فى التنقيب عن بعض القضايا التى وقعت فى المجتمع السودانى فى الماضى غير البعيد ولم تجد فرصتها فى التوضيح والتوثيق لاسباب معروفة وموضوعية لعل ابرزها غياب الدراية والوسائل الخاصة بالتدوين والتوثيق . المقال الذى ترجمه الاستاذ الهاشمى عن حادثة مشروع جودة التى اشتهرت باسم عنبر جودة حمل اخطاء تاريخية معيبة لا تليق باستاذة جامعية بل وابنة مدير عام مشروع جودة وكانت موجودة فى مدينة جودة اثناء تلك الحوادث . ولكنها كانت صغيرة السن وقتها . وواضح انها كتبت من ذاكرتها الصغيرة تلك عن تلك الاحداث ونقلت روايات شفاهية ممعنة فى الجهل بما جرى وما كان يجرى من احداث سبقت وتلت وقوع الكارثة. والمقال يعكس أن اسرة المستر بزويك مدير مشروع جودة كانت معزولة عن مجتمع مشروع جودة الصغير الذى كان رب الاسرة ، المستر بزويك ، اهم شخصية فيه . لقد شاهدت المستر بزويك كثيرا فى مدينة جودة فى ايام ازدهارها يتجول بعربته اللاندروفر فى حقول القطن الخضراء الزاهية وهو فى بنطاله الكاكى الشورت ، وقميصه الابيض ، وهو فى قمة وسامته . وكان شخصا ودودا مع مزارعيه. لقد كنت طالبا فى المرحلة الاعدادية الوسطى القديمة . وكنت صبيا ناضجا وملما بما كان يجرى من تطورات قادت فى النهاية الى الحادثة العرضية التى راح ضحية لها عشرون دستة من البشر على وصف الشاعر الملهم السفير صلاح احمد ابراهيم فى قصيدته المشهورة بهذا العنوان . قلت كنت ملما بما كان يجرى من حولى لاننى كنت اعايش ما كان يجرى صباح مساء من وقائع لأن اسرتى كانت فى قلب الاحداث . فجدى لأمى ، الشيخ اسماعيل يونس ، كان عمدة و زعيم البادية التى تسكنها عشائر ( نزّى ) ، احدى عشائر بوادى دار محارب . وهى العشيرة الاكبر فى المنطقة ، و الحاكمة . وخالى كان وكيل البادية بينما كان والدى احد كبار شيوخ الادارة الاهلية . من هنا جاءت معرفتى بما كان يجرى امام عينى كشاهد عيان شاف كل حاجة ، وليس مثل شاهد الاستاذ الزعيم عادل امام الذى لم يشاهد أى حاجة . ابدا بايراد الاخطاء الكبيرة فى مقال الدكتورة ستيلا بزوبك اولا . واقول ان المزارعين فى مشروع جودة لم يكونوا من البقارة حصرا . بل كانوا من الذين جلبهم من كل اصقاع السودان الازدهار الذى احدثته مشارع القطن الخصوصية التى انشأتها الرأسمالية الوطنية السودانية مع بداية خمسينات القرن الماضى . كانوا من الفور والبرقو والمسيرية والحسانية والوغداب والمسلمية والاحامدة . ولكن الاغلبية كانت من قبيلة نزىّ ? بتشديد الزاى وهى القبيلة سيدة المنطقة وصاحبة عموديتها والاكثر ثراء فى الثروة الحيوانية. وتعود اصول هذه العشيرة الكبيرة الى قبيلة الشكرية النزاوية قيل انها هاجرت الى المنطقة فى زمن السلطنة الزرقاء واصبح يقال عنها شكرية النيل الابيض . اما ما ذكرته المؤلفة عن افراد الشرطة الشايقية الذين قتلوا المزارعين تشفيا . فيعود الى واقعة حقيقية هى اتهام اهل الضحايا لضابط بوليس مركز كوستى ، الضابط محمود غندور ، الشايقى الاصل والذى امر بحبس المزارعين فى عنبر صغير كان تحت الانشاء فى حامية تابعة للجيش فى مدينة كوستى عندما تعذر وجود مكان آخر يستوعبهم حتى صباح اليوم التالى الذى كان مقررا فيه مثولهم امام قاضى التحقيق ، اتهامه بالتشفى غضبا على مقتل زميله صول الاادارة السمانى يوسف الذى قتل فى الصدام الاول فى مدينة جودة . خطا الضابط غندور تمثل فى عدم اهتمامه لصراخ المزارعين العالى وهم يطلبون جرعة ماء عندما اشتد بهم الاختناق . لقد حكم القاضى على الضابط غندور بالاعدام . ولكنه برئ فى مرحلة الاستئناف واعيد للخدمة . و قد سمعت نكتة وانا طالب فى مدرسة خورطقت الثانوية القريبة من مدينة الابيض فحواها ان الضابط غندور الذى نقل مديرا لسجن المدينة رفض التوقيع على كشف استلام المساجين وهم داخل عنابرهم واصر على استلامهم فى فناء السجن المفتوح . وعندما سئل عن السبب فى ذلك الطلب رد بأنه لم يصدق انه قد نجا من الاعدام فى ماساة عنبر جودة . عدد الذين قتلوا فى صدام مدينة جودة كان هو خمسة من رجال الشرطة و عدد مماثل من المزارعين فى نقطة تجميع جوالات القطن فى الكيلو اربعة بمدينة جودة . اما المصابين فكانوا خمسة عشر فردا اخفاهم ذووهم من عين الشرطة خوفا من الاعتقال . اما الذين ماتوا فى العنبر بالاختناق فقد كان عددهم 194 من مختلف الجنسيات وليس فيهم بقارة كما تزعم المؤلفة غير الملمة لأنها كانت صغيرة وغير مندغمة فى المجتمع الذى حدثت فيه المأساة . الخطأ الآخر فى المقال المترجم هو الحديث المبالغ فيه عن موت مئات المزارعين واصابة 500 منهم فى الحادثة . بل ذكر مؤلف سودانى يسارى حكايات عن الحادث من نسج خياله كان الحادث وقع فى جزر واق لواق . فقد زعم ذلك المؤلف الاسطورى ان خمسمائة مزارعا قد ماتوا بالعطش عندما هربوا من بطش البوليس . لقد كان أول الموتى بالاختناق عمى عبد الفراج عبد الله ابراهيم . وكان اعمامى صالح حامد يونس وابراهيم حامد ومضوى تاج الدين ، كانوا من الناجين من عنبر الموت . اما حديث المؤلفة عن النساء المعتقلات فهذا تهريف لا اساس له من الصحة. لم تعتقل و لا امرأة واحدة . عدد الذين قضوا بالاختناق فى العنبر من عشيرتنا كان هو 68 خصا كا على راسهم عمى اسماعيل عساكر رئيس اتحاد المزارعين الذى فجر المشكلة مع ادارة المشروع . بينما كان اول قتيل فى ميدان تجميع الاقطان السيد محمد ابوشاتين سكرتير الاتحاد. لقد نشرت رواية عن الحادثة الدامية اسميتها عشرون دستة من البشر فى تناول ادبى روائى نفذت فى ايام من معدودة من المكتبات . صحيفة ( الايام) السودانية وصفت الرواية بأنها رواية لكل الاجيال. وكان لتقريظ الصحف السودانية الاثر المباشر فى انتشار الرواية السريع ولم يتيسر لى صدار طبعات اخرى منها حتى اليوم .
السبب المباشر للصدام الدموى كان هو تاخير صرف مستحقات المزارعين لموسمين متواليين بسبب الكساد الذى ضرب اسواق الاقطان العالمية مما جعل المشترين يحجمون عن شراء الاقطان السودانية .
صحيح كان للحزب الشيوعى دور كبير فى تحريك الاحداث فى جودة وفى كل مشاريع القطن الخاصة فى ظل التنافس السياسى القائم وقتها بينه وبين القوى التقليدية وهو امر كان مفهوما و متوقعا . وقد حوكم عدد من اقطاب الحزب بالسجن فى هذه الاحداث كان على راسهم الاستاذ حسن الكاهر زروق بتهمة النشاط الهدام مما كانت توصف به نشاطات الحزب الشيوعى التى كانت الاكثر فعالية من نشاطات القوى التقليدية التى كانت وما زالت ختى اليوم معزولة عن نبض ووجدان الشارع الشعبى . من الكتاب الذين تناولوا هذه المأساة تناولا ادبيا الدكتور عبد الله على ابراهيم فى مسرحية بذات الاسم . اذكر ان الاستاذ الكبير داعبنى عندما علم بروايتى عن نفس الموضوع وصلتى المباشرة به بوصفى شاهد عيان ، اذكر قوله لى : يازول هوى ، انا تانى موضوع عنبر جودة ده عودى فيه عود مرة ! واختم واقول للاستاذ الهاشمى لا عزاء لك غير عزاء حسن النية . فقد ترجمت بحسن نية عملا هزيلا لا يكافئ قيمة الحبر الذى اسلته فى هذه الترجمة , ولكن يبقى لك اجر الاجتهاد والمناولة . ويبقى لنا اجر الصبر على تلقى هذا الهتر الباطل الحنبريت كما كان يقول استاذى الاريب عبد الله الطيب على قبره شآبيب من رحمة الله ورضوانه .
هذا الحادثة مؤلمة وفي الحقيقة لا تفارق بالي واعتقد انه في المستقبل المقبل للسودان يستحق شهداء هذه الحادثة تخليد لذكراهم كمتحف مثلاً على قرار متحف قرية دنشواي المصرية فهذا حق الاجيال في معرفة تاريخهم. رحم الله الشاعر صلاح احمد ابراهيم فلقد اثار فضولنا في وقت مبكر ونحن في بداية الجامعة لنعرف اكثر عن الحادثة عبر سرده المؤثر في قصيدتهعشرون دستة
عشرون دستة
لو أنّهم …
حزمةُ جرجير يُعدُّ كيْ يُباع
لخدم الإفرنج في المدينة الكبيرة
ما سلختْ بشرتهم أشعةُ الظَّهيرة
وبان فيها الاصفرارُ والذبول
بل وُضعِوا بحذرٍ في الظلِّ في حصيرة
وبلَّلتْ شفاههُمْ رشَّاشَةُ صغيرة
وقبّلتْ خدودهم رُطوبةُ الإنْداءْ
والبهجةُ النَّضيرة
****
لو أنَّهُم فراخ
تصنع من أوراكها الحساء
لنُزلاء (الفندق الكبير)
لوُضعوا في قفص لا يمنعُ الهواء
وقُدم الحب لهم والماء
لو أنهم …
ما تركوا ظماء
ما تركوا يصادمون بعضهم لنفس الهواء
وهم يُجرجرون فوق جثث الصحاب الخطوة العشواء
والعرق المنتن والصراخ والإعياء
ما تركوا جياع
ثلاثة تباع
في كتمة الأنفاس في مرارة الأوجاع
لو أنهم
لكنهم رعاع
من (الرزيقات)
من (الحسينات)
من (المساليت)
نعم … رعاع
من الحُثالات التي في القاع
من الذين انغرست في قلبهم براثن الإقطاع
وسلمت عيونهم مرواد الخداع
حتى إذا ناداهم حقهم المضاع
عند الذين حولوا لهاثهم ضياع
وبادلوا آمالهم عداء
وسددوا ديونهم شقاء
واستلموا مجهودهم قطنا وسلموه داء
حتى إذا ناداهم حقهم المضاع
النار …والرشوةُ …والدخان
والكاتب المأجور…والوزير
جميعهم وصاحب المشروع
بحلفهم يحارب الزراع
يحارب الأطفال والنساء
وينثُر الموت على الأرجاء
ويفتح الرصاص على الصدور
ويخنق الهتاف في الأعماق
ويفتح السجون حيث يُحشد الإنسانُ كالقطيع
ويحكم العساكر الوحوش
فيحرمون الآدمي لُقمة في الجوعْ
ويحرمون الآدمى جُرعة من ماء
ويغُلقون كل كوة تُمرر الهواء
وفي المساء
بينما الحُكام في القصف وفي السكر
وفي انهماك بين غانيات البيض ينعمون بالسمر
كانت هناك…عشرون دستة من البشر
تموتُ بالإرهاقْ
تموتُ باختناق
لو أنهم …
لكنهم
(2)
كانت هنالك اسرتان دينيتان تسيطران على السياسة السودانية في الفترة التي سبقت وأعقبت استقلال البلاد في العام 1956,الانصار ممثلة في عبدالرحمن المهدي من اسرة المهدي; والختمية بقيادة علي الميرغني, والتي كان لها تأثير على الحزب الوطني الاتحادي4. وقد مثل هذان الحزبان الارستقراطية الدينية التي كانت تحتكم على ثروات مادية واملاك زراعية ضخمة, تحديدا في الجزيرة5. هذا, وقد كان الانصار هم الطريقة الاكبر والاكثر تنظيما في السودان, وقد وصل عددهم في عشية الاستقلال الى ثلاثة ملايين. وقد مثلت تبعيتهم التامة لإمامهم في الامور الدينية والسياسية معا, العقبة الكؤود أمام نشؤ ديمقراطية حقيقية في السودان6. وقد اعتمدت كلتا المجموعتان على الولاء العقدي والاثني كمصدر أساسي للتأييد7, وكلتاهما أنشأتا نظاما سياسيا أبويا قائما على الاثنية8.
خلال الحرب العالمية الثانية, حدث ارتفاع كبير في اسعار المنتجات الزراعية. ولهذا فقد استنت قوانين جديدة تسمح باكتساب الاراضي الحكومية , الاعفاءت الضريبية, بجانب امتيازات اخرى بمنطقة الجزيرة.هذه القوانين قصد منها تشجيع الاستثمار الخاص , المحلي والاجنبي9.
اسس مشروع الجزيرة 10 على مبدأ تأجير الارض حيث يمنع شراء الاراضي بواسطة أشخاص غير السكان المحليين أو الحكومة11. يدار المشروع بنظام ثلاثي, الشركاء ممثلين في الدولة, المستأجرين ( استبدلت مفردة “المستأجرين” التي تستخدمها الكاتبة في جميع اقسام المقال, بمفردة “المزارعين”) “المترجم” وشركات الامتياز البريطانية. في العام 1950 قامت الحكومة السودانية بتأميم المشروع, وولد عن ذلك جسم مستقل عرف باسم ادارة مشروع الجزيرة12. غالبية موظفي شركات الامتياز القديمة أصبحوا موظفين لدي الادارة الجديدة13. بالنسبة للحكومة فان التوسع في زراعة الاراضي قد كان أمرا ملحّا, فقد كانت الارض تمثل مصدر الدخل الاكثر اتاحة وسهولة بالنسبة للحكومة المعدمة.
حدث ايضا تطور كبير في القطاع الخاص في اجزاء اخرى من الجزيرة اسهم في تنامي مجتمعات سودانية ثرية. وقد اضحت مشاريع القطن التي تروى بالطلمبات شائعة بشكل كبير على طول النيل الابيض, وقد وصل عددها الى ألف طلمبة, تروي مساحة 620,000 فدان15 من الارض16. حوالي ثلثي هذه المساحة تقع في مديرية النيل الازرق (وهذا يشمل منطقة النيل الابيض). هذه المشاريع الخاصة لها اهميتها لأنها تمثل حوالي الثلث من مجموع الارض المروية في السودان حتى العام 1956 17.
بأوامر من السيد عبد الرحمن, فان اعدادا كبيرة من الانصار استوطنت في مديرية النيل الازرق, في حين ان قرى النيل الابيض قد وقعت تحت التأثير الختمي. عند اكتشاف السلطات لتسرب الانصار في بدايات الثلاثينيات, أمرت جميع المهاجرين بالتمركز في قرية أو قريتين في كلا المديريتين18. موضوع هذا المقال يدور حول قريتين من قرى الانصار تقعان في مشروع مملوك لعبدالحافظ عبدالمنعم, وهو لا ينتمي للانصار19.
في فترة الترقب للاستقلال, تحولت مؤسسة السودان الزراعية الى ادارة مشروع الجزيرة, وقد تم تنظيم السودانيين حتى يحلوا محل البريطانيين, و تم تعيين السيد عبدالحافظ عبدالمنعم كأول مدير لادارة مشروع الجزيرة. وبصفته كرجل اعمال له علاقات تجارية اسرية ممتدة مع مصر , فقد قام عبدالحافظ بربط ادارة المشروع لأول مرة بالمجتمع التجاري السوداني الصاعد20. في عامي 1954 و 1955 كان هو و مكي عباس, المشرف الاداري لادارة مشروع الجزيرة, كانوا تواقين لاستيعاب زراعيين انجليز للبقاء والعمل في المشروع, وبشكل خاص المميزين منهم والذين شغلوا مواقع مهمة لم تتوفر للسودانيين الخبرة الكافية لشغلها بعد21 .
يعرف نزى وغيرهم من رعاة الابقار (سليم ، الصبحة وبقية دار محارب )فى النيل الابيض ببقارة النيل الابيض.
الأستاذ/ علي حمد إبراهيم المحترم
لك التحية والتقدير على طرح موضوع عنبر جودة، وبعد ،،،
دعني أختلف معك تماما فيما ذهبت إليه بمقالك ومضمون كتاب الباحثة س .ف بوسيك
The Black Hole of Kosti: The Murder of Baggara Detainees by Shaigi Police in a Kosti Barracks, Sudan 1956
S. F. Beswick
Stephanie. F. Beswick
Michigan State University
فالكاتبة لم تدعي في كتابها بأنها تروى أحداث مذبحة، بل أوضحت في كتابها بأنها تنقل مذكرات والدها المستر/ بوسيك. كما أن الكاتبة لم تدعي في موضع عن ذكريات خاصة بها في موضوع المذبحة. ربما ترجمة الأستاذ الهاشمي التي أعتمدت عليها ليس دقيقة … سأنقل لك ترجمة الأديب والقاص المعروف/ معروف سند، هي ترجمة معتمدة لدى كثير من الباحثين والأكاديمين.
[b]
(3)
ولأن دوقلاس بيسويك هو أحد موظفي مؤسسة السودان الزراعية القلائل الذين استعربوا, فقد قبل العرض الذي قدمه له عبدالحافظ عبدالمنعم بالعمل في شركته. وفي العام 1953 بدأ عمله في مشروع جودة بمديرية النيل الازرق22.
لقد كانت جودة منطقة بكر. وقبل قيام المشروع كانت أرضا جرداء خالية ليس بها سوى قرى نزّي والواجودابي23. لقد كان مالك المشروع, عبد الحافظ عبدالمنعم, والذي يكبرني بسنوات عديدة, أحد الماليين السودانيين الأوائل. ورغما عن انه ينتمي الى اسرة سودانية تستوطن امدرمان, ولكن كانت لاسرته علائق وشيجة بمصر24.
الشركتان الاكبر في سودان ذلك الوقت هما شركة عبدالحافظ عبد المنعم, وهي مؤسسة اهلية محدودة,25 وشركة ابو العلا26. بالاضافة الى العديد من جمعيات المزارعين.
يرجع تاريخ منظمات المزارعين السودانيين الى العام 1946, عندما قرر مزارعو الجزيرة اعلان الاضراب ضد قرار مؤسسة السودان الزراعية بإنشاء صندوق مساعدات للمزراعين عن طريق خصم حصة كبيرة من عائدات مبيعات القطن. حيث استجابت الادارة البريطانية بإنشاء هيئة تمثيلية من المزارعين بصفة استشارية بحتة. وفي العام 1952 تم استبدال هيئة ممثلي المزارعين بجمعيات المزارعين, والتي سيطر عليها الزعماء الدينيين والقبليين27. في العام 1953 انضم زارعي القطن بالجزيرة الى الجبهة المتحدة لتحرير السودان , وقد جعل الحزب الشيوعي السوداني من نفسه متحدثا نيابة عن الجبهة المعادية الاستعمار خلال الانتخابات.
بحلول العام 1954 كان اتحاد المزارعين هو المخدّم الاكبر بالسودان28.وفي اواسط العام 1955 قامت اتحادات مزارعي النيل الازرق مع نظيراتها في النيل الابيض بدمج نفسها كمنظمة واحدة في كل الاقليم29.
خارج منطقة الجزيرة في المنطقة الواقعة بين النيلين الابيض والازرق, كانت هنالك اعدادا مقدرة من مشاريع الطلمبات الغير نظامية30, والتي لا يخضع ملاكها للمعايير المنظمة لادارة مشروع الجزيرة31. مثالا لذلك:
مشروع جودة له رخصته الخاصة والتي تقوم مقام ادارة مشروع الجزيرة في ترتيب امر المحاصيل, وهذه الرخصة لا تكفل حقا للمزارع على الاطلاق. فبمقدور المالك الادعاء بأنه قد باع المحصول لأي انسان; دون ان يكون لهم عليه اثبات. ويمكنه ان يدعي ان المحصول بالقيمة الفلانية, أو تم تقييمه بكذا أو حتى ان يدعي ان المحصول لم يتم بيعه بعد.ولكن الحقيقة ان المحصول قد بيع منذ شهور. لهذا فان المزارعين في مشاريع الطلمبات الخاصة مثل جودة كانوا في وضع مجحف للغاية. على الاقل فان ادارة مشروع الجزيرة كانت افضل ادارة واكثر عدلا32
(4)
لتلك الاسباب, وفقا لبيسويك, فقد كان للمزارعين كل الحق في الثورة:
التصنيف للمحصول كان يتم دوما عن طريق مصنفين يونانيين, وبالتحديد يونانيين مصريين. الشخص الذي كان ينجز تصنيف محاصيلنا كان يدعى مولي كرويوس.وهي مهنة تحتاج الى مهارة ولكن هنا ايضا, كان هناك الكثير المخالف للنظم. وليس لدي شك ان هنالك سؤ تصنيف للقطن من اجل تقليل سعره. وهذا كان غالبا ما يتم باتفاق مع المالك والذي, حسب اعتقادي, لم يكن نزيها مع المزارعين33.
لهذا فقد كانت المشاريع الخاصة في وضعية ضعيفة للغاية. فقد كانت تفتقر للخير القليل الذي تتمتع به نظيراتها في القطاع الحكومي وتواجه صعوبات جمة من أجل تأمين حقوقها التي تستحقها34.
خلال العام 1955 بدأ المزارعون بالمشاريع الخاصة التلويح بسلاح الاضراب لأول مرة35. فقبل بداية حكومة الاستقلال بقليل, قدم اتحاد مزارعي النيل الأبيض مذكرة للحكومة تتضمن مطالبهم التي تتمثل في: الحصول على 60% كنصيب في الارباح; تعيين محاسبين مستقلين ; ومشاركة المزارعين في القرارات المتعلقة بحلج وتسويق القطن36.
وقد طالب المزارعون بقيام مزاد حر ينصب في بورتسودان التي كان يرحل اليها القطن. بالاضافة لذلك, فقد طالبوا بالاعتراف باتحادهم. عليه فان التحدي الاول الذي واجه حكومة الاستقلال الجديدة في 1956 كان هو المد المتصاعد للهيجان الذي احدثه اتحاد المزارعين بمشاريع الطلمبات الخاصة.
على اية حال , فقد تجاهلت ادارة الازهري مطالب المزارعين, وفي مطلع فبراير 1956, تم اعتقال قادة اتحاد مزارعي النيل الابيض خلال جولتهم بالمشاريع الخاصة. نتيجة لذلك, احتشد اربعة آلاف مزارع بمدينة كوستي, المركز الاداري للنيل الابيض, مطالبين باطلاق سراح قادتهم. وقد هدد المزارعون بحجب محصول القطن عن اصحاب المشاريع في حالة عدم الاستجابة لمطالبهم. عندها ارتفعت حدة التوتر, وفيما بعد, نظم الاتحاد مسيرة كبرى, مما ادي الى اعتقال المزيد من المزارعين والعمال وممثلي الاتحاد37.
على بعد مائة وعشرون ميلا جنوب كوستي حيث مشروع جودة, كانت الاحوال هادئة بشكل تام. ففي بدايات العام 1956 حصد المشروع كمية غزيرة من محصول القطن, والتي تم بيعها بسعر عالٍ. الافادة القادمة لبيسويك تصف
(5)
الاحداث التي ادت الى اضراب جودة.
كان على عبدالمنعم محمد وشركائه ان يدفعوا للمزارعين نسبة من ارباح المحصول. ولكنهم امسكوا عن الدفع. فبعد مدة طويلة من بيع المحصول لم يتحصل المزارعون على شئ. في الوقت نفسه قامت شركة عبدالحافظ عبد المنعم بالاستثمار في صفقات عدة للزيوت النباتية38, مثل السمسم39 والفول وبذرة القطن. اذن, فبدلا عن دفع مستحقات المزارعين بعد بيع المحصول فإن الشركة قد استولت على المال وقامت باعادة استثماره. لم يكن هنالك ما يمكن فعله من قبل المزارعين سوى احداث جلبة40.
في تلك الاثناء, كانت هنالك حركة واسعة في منطقة الجزيرة والتي تحولت في زروتها الى ثورة عامة ضد الحكومة السودانية. في هذا الجو من المواجهة, كان هناك احساس قوي لدي المزارعين في جودة انهم قد خدعوا, بل اصبحوا على يقين بأن اموالهم المستحقة لن يتم ادائها. حسب بيسويك:
امتنع المزارعون عن مواصلة لقيط القطن أو تسليم ما تم جمعه للشركة في انتظار تسوية حقوقهم السنوية من ارباح القطن, والتي دخلت حينها سنتها الثالثة من التأجيل. ومما صب الزيت على النار, فإن اسعار القطن في السنة الماضية قد كانت منخفضة بشكل كبير. حيث طمع المزارعين المعدمين في نسبة أكبر من الارباح التي طرأ الآن عليها التحسن41.
تعمقت التوترات, وبدأ المزارعون في تهديد بيسويك نفسه:
خلال الفترة من يناير وحتى فبراير بدأنا نجد منشورات في جميع انحاء المشروع تحرض المزارعين على التمرد. بعضها حمل الكلمات التالية ” ايها المزارعين, أرموا نير مضطهديكم”. ومزيدا من المنشورات قبل ايام قليلة من الاضراب, مكتوبة باليد, ” يومك يا بيسويك”. وقد ظلت الحكومة تؤكد ان هذه الاضرابات من الهام الشيوعيين42.
ومع استمرار حدة الاوضاع, فقد قام البوليس باخماد التظاهرات بمناطق المشاريع شمال الجزيرة بتهديد واعتقال عدد من الناس, مما اجبر منظمي التظاهرات على التوجه جنوبا. حيث تابع البوليس الثوار من مشروع الى مشروع لاسابيع, حتى وصل الجميع الى جودة.و لأن المشروع يقع في اقصى جنوب المنطقة, فقد أصبح أرض المعركة الحاسمة للثوار. هنالك في نهاية فبراير 1956, كانت للمزارعين وقفة ضد البوليس. تفاصيل تلك المعركة لم يسبق ان تمت تغطيتها بشكل كافٍ في وسائل الاعلام, فبواسطة عبدالحافظ عبد المنعم, تم منع بيسويك من كشف الحقائق لاي جهة داخل السودان. ولهذا فان افاداته الشخصية من الاهمية بمكان لانها توفر اشارات مهمة لتراجيديا كوستي اللاحقة
(6)
المعركة بجودة
في الصباح الباكر من 20 فبراير كان بيسويك بمكتبه:
كنا في محادثة تليفونية مع الجبلين وقد تم اخطاري بأن ناظر الخط في طريقه الينا مع عساكره من اجل التحدث مع المزارعين المضربين43. وقد كان هدفه محاولة الوصول الى تسوية مع المزارعين من اجل ايقاف الاضراب. فلشهر كامل لم يتم جمع اي كمية من القطن.
وصل الناظر بمعية عسكري مسلح ببندقية وبقى معي في مكتبي. بينما ركب العسكري تصحبه مجموعة على متن شاحنة الى منطقة وسط المشروع كانت تستخدم لتعبئة وترحيل القطن. تلك كانت هي المنطقة التي تجمهر بها المزارعون الساخطون الذين تسلحوا بالحراب والفؤوس.
مجموعة كبيرة تجمهرت هناك; اشخاص من كافة انحاء الجزيرة. لا احد يعرف من اين اتوا. هؤلاء تجمعوا بهدف منع العمال الآخرين من اداء اعمالهم. انا شخصيا لم اكن خائفا. ولكن تلك المنشورات المعلقة على الاعمدة “قطعت قلب” الموظفين الآخرين. مجموعة من المفتشين العاملين تحت امرتي كانوا في غاية التوتر.
وفجأة جاء الاربعة اشخاص الذين رافقوا رجل البوليس الى حيث المتظاهرين مهرولين على ظهر الشاحنة وهم يصرخون بأن بوليس الناظر قد تم تقطيعه اربا بواسطة المعتصمين. وعند هذه النقطة سارع الناظر بالاتصال طلبا لتعزيزات من البوليس.
وصلت تعزيزات البوليس بسرعة بالغة على ظهور الشاحنات. يبدو انهم كانوا بالقرب من منطقة الجبلين, عشرون او ثلاثون اقتحموا موقع الاحداث حيث بدأوا في اطلاق النار على كل من تقع عليه اعينهم. مجموعة من رجال البوليس الشايقية واجهوا مجموعة من المزارعين البقارة المسلحين بالفؤوس, والحجارة والبنادق البدائية44 وما تلى ذلك كان معركة دموية. اجساد ممزقة وميتة بفعل الرصاص في كل مكان. حوالي اربعين تم قتلهم.
اخيرا جاء رجال البوليس ليقولوا ” لقد نظمناهم”. لا ادري كم هو عدد الذين تم قتلهم, ولكنه كان عددا كبيرا; اثنين او ثلاثة من زملائهم العساكر قد قتلوا. كما اتذكر, جميع افراد البوليس كانوا من الشايقية, ولذلك صلة باحداث تالية.
في الصباح التالي اختفى اغلب الذين اتوا الى جودة من اجل مساندة الاضراب في اليوم السابق حيث توجهوا شرقا في اتجاه النيل الازرق. بعد انتهاء الصدامات , توجهت الى مسرح المعركة لمحاولة جمع المحصول الذي تم حصده, وعرفت ان المفتشَين قد هربا. لم يكن لدي السلطات علم بعدد الذين كانوا هناك اثناء وقوع المعركة, لقد كانت هنالك اعدادا كبيرة من الموتى. ولكن الكثير من الجثث قد تم سحبها قبل وصول السلطات45.
في اليوم التالي للمعركة تنامت الى اسماعنا اصوات الشاحنات على بعد اميال. وفي الصباح الباكر دخل الركب الى ساحة واسعة مفتوحة امام منزلنا والتي كانت تستخدم كمدرج هبوط لطائرات رش المحصول. شاحنتين أو ثلاثة قامت بانزال مجموعة من البوليس المسلح, عساكر شايقية, والذين باشروا في اعتقال كل من وقع عليه نظرهم. على كل, في ذلك الوقت لم يكن هنالك من الحاضرين الّا القليل ممن شاركوا في معركة الامس, المزارعين الذين بقوا هم من نزي والواجداب, وهم سكان المنطقة الاصليين, وليسو جميعهم من المزارعين. اما الباقين فقد هربوا.
تمت محاصرة الرجال والنساء بالمئات واجبروا على الجلوس في العراء لساعات عرضة لحرارة الشمس. وقد كانت العملية تحت قيادة قاضي باكستاني, والذي صرح ان مهمته تتمثل في القاء نظرة على التجمع. ثم القبض على المشتبه بهم في المنطقة وشحنهم الى كوستي من اجل التحقيق معهم.
لقد قمنا بمتابعة الوقائع من “برندة” منزلنا. كان هنالك على الاقل 600 شخص في الخارج قرب المنزل, لقد كان الوضع غير عادي. لو ان البوليس قبض على المتظاهرين لحظة المعركة لكانوا أمسكوا بالفاعلين الحقيقيين ولكن الآن هنالك فارق زمني كبير بين الاحداث46.
لقد اضحت استيلا بيسويك في غاية القلق بشأن ما قد تسببه الحرارة للنساء الجالسات في العراء, وفوق ذلك, فهي متأكدة تماما من انهن بريئات كل البراءة مما حدث:
بعد محاججة طويلة استطعت ان اقنع زوجي بالذهاب للقاضي الباكستاني ليوضح له انه قد قام باعتقال الاشخاص الخطأ, وكنت اؤكد انني قد رأيت مجموعة من هؤلاء الناس على مقربة من مكتب زوجي لحظة حدوث المعركة47.
طلب القاضي من بيسويك ان يقوم بتحديد جميع من -يمكنه ان يقسم صادقا- على انهم كانوا موجودين بجوار مكتبه لحظة المواجهة مع البوليس.
قمت بالمرور خلال المئات من المزارعين واضعا يدي على اكتاف خمسة عشر من الرجال الذين حددتهم كموجودين قرب مكتبي خلال الوقت الحاسم للمعركة. لقد استطعت ان انقذ الكثير من الناس, تحديدا من قبيلة نزي, بقولي تحت القسم, ان هؤلاء الناس لم يكونوا في مسرح المعركة بل في قراهم. لقد كانت قرية نزي على بعد مسافة قليلة من منزلي.و القرية الرئيسية للواجداب كانت على مقربة ايضا. لقد تم اطلاق سراح هؤلاء الرجال في الحال.
حوالي الساعة الرابعة مساء سمحوا لجميع النساء بالعودة الى منازلهن, بينما تم شحن مائتين وثمانية وسبعين رجلا داخل الشاحنات, بين هؤلاء, دون ان تنتبه له زوجتي, رجل مسن كانت قد ابتاعت منه بيضا في اليوم المشؤوم. لقد قاموا بأخذ شاحناتي ومقطوراتي التي كنت استخدمها في ترحيل القطن, حيث انهم لم يحضروا ناقلاتهم الخاصة. وكذلك استخدموا سائقي شاحناتي. لقد تم ترحيل الرجال الى كوستي التي تبعد مائة ميل 48 .
(7)
مذبحة بكوستي
مائة واربعة وتسعون من المعتقلين البقارة وجدوا ميتين49 في الصباح التالي باحد السجون المحلية بكوستي50. واحد من المقاصد الاساسية لهذا المقال تتمثل في توضيح ان ما حدث بكوستي لم يكن مجرد حادث كما ادعت الحكومة. التقارير الرهيبة التي سجلتها وسائل الاعلام عن مصير اولئك الرجال اوضحت بجلاء ان البوليس قد قصد الثأر من السجناء البقارة بسبب اغتيال زملائهم في جودة.
… جميع السجناء المائتين وواحد وثمانون وضعوا في مساحة ضيقة, قدرت باثنتي عشر متر طولا وعشرة امتار عرضا, والتي لم يتم استخدامها لثلاثة اشهر51.
… وقد بلغت درجة الحرار بكوستي حينها 104 درجة فهرنهايت…”52
…الغرفة التي احتجز بها السجناء… كانت مغلقة الابواب والنوافذ…”53
…رغم صيحات السجناء المؤسية فإن الحراس لم يعيروهم التفاتة. بعضهم مات وهو يصيح في هستيرية; وآخرون تكدسوا فوق بعضهم البعض في أكوام مع مرور الليل. وقد اوضحت الجروح على ايديهم وارجلهم والدماء على الحائط مدى ما بذلوه من جهد من أجل الوصول الى هواء نقي قبل ان يسقط السجناء من شدة الحرارة54.
… روى ثلاثة من الناجين… ان الحراس قد صاحوا فيهم ” من الافضل ان تموتوا” عندما صرخ السجناء طلبا للنجدة55.
? بدأ المزاعون في الضرب على النوافذ بعنف في محاولات جنونية لادخال الهواء. وعندها بدأ الحراس في اطلاق النار في اتجاه النوافذ خشيةً هروب السجناء56.
… حكى احد الناجين… ” في البداية احدثنا جلبة عالية, ونحن نتوسل للبوليس ولكنهم اخبرونا فقط ان نظل ساكنين, هتفنا وصرخنا وضربنا على الابواب- ثم الانين- من أجل الماء, الماء, توسلنا للبوليس في الخارج حتى يحضروا لنا ماء فقد كنا في حالة اختناق, ولكن البوليس تجاهل نداءنا. لقد كانت الحرارة فظيعة, حوالي منتصف الليل, وبعد ساعات من الحر الخانق, بدأ الرجال في التساقط.تعرى من بقى منا ووقفنا على اجساد رفاقنا. حكى الناجي, عندما استطاع في النهاية ان يكسر احد النوافذ الصغيرة ويتسلق خارجا, ان البوليس قد اطلق عليه النار وهو يحاول الهروب خلال ساحة المعسكر. وعندها صاح ” انظر الى الباقين.” في تلك اللحظة كانت الابواب قد فتحت وخرج الناجون يدبّون نحو الهواء النقي في الخارج…”57
… رغما عن صياحهم وطلبهم للنجدة, فقد تم تجاهلهم من قبل البوليس الشايقي الموجود بالخارج. ثلاثة وتسعون فقط ممّن كانوا بالغرفة هم من نجوا.”58
? الطبيب الذي هرع الى المعسكر قال بفزع: ” من الصعب ان تفرق بين من هم الاحياء ومن هم الاموات. وكأنه مسرح لمذبحة رهيبة.”59
(8)
افادات الصحف اشارت ان البوليس لم يبد ادنى رحمة. ولقد ظهر لاحقا ان السجن المحلى حينها كان مكتظا, ولذلك تم اقتياد المعتقلين ليلا الى احد معسكرات الجيش التي كانت تحت التشييد على نحو ميل خارج مدينة كوستي.
مسألة أن يقوم البوليس بتفيذ القانون بيده وأن يتحول الى ” قوة للارهاب”60 قد كانت حقيقة ماثلة ما قبل الاستقلال, وقد اعتبرت بالتأكيد مشكلة حقيقية لعقود تلت. في تقرير رسمي بخصوص الاضطرابات في جنوب السودان, أكد وزير الداخلية ان هنالك قدر كبير من الاحتكاكات بين البوليس والسلطة الادارية?”61 وقد ذكر مسؤول حكومي ان بايداع سلطات للبوليس كانت في السابق تمارس بواسطة الادارة الانجلومصرية,62 فان البوليس الاقليمي قد شعر بأنه مسؤول فقط امام المفوض في الخرطوم.63 وفي مرحلة من المراحل كانت هنالك خشية من خطر تحلل البلاد الى دولة بوليسية خاصة في المناطق الاقل نموا من السودان والتي تنتشر فيها الامية والتخلف وسؤ التدريب بشكل واسع في اوساط البوليس.64 وقد كانت الاوضاع في اسوأ احوالها في المديريات الجنوبية.65 وقد كانت جودة في الحدود مع الاقليم الجنوبي. ولربما اعتقد العساكر الشايقية الذين اصطحبوا المعتقلين البقارة من جودة ان بامكانهم املاء عقابهم الخاص دون ان يكونوا مسآءلين امام الحاكم الاقليمي على فعلهم.66
قد يكون التنافس الاثني ما بين الشايقية والبقارة هو احد العوامل التي ادت الى هذه الحادثة. كما اوضحنا سابقا في هذا المقال, فقد هيمنت جماعتان دينيتان على مقاليد السياسة في السودان- هما الختمية والانصار.67 الختمية كانت مسنودة بشكل اساسي من قبل قبيلة الشايقية,والتي شكل ابنائها معظم قوات البوليس. اضافة لذلك فان الكثير من الختمية قد كانوا يشغلون مناصب مهمة في الحكومة, بما فيهم رئيس الوزراء الازهري. ومن جانب آخر, فان الكثير من مؤيدي المهدية الانصار كانوا من البقارة.الصراع الختمي-المهدوي له جزور تاريخية عميقة, ترجع الى القرن التاسع عشر.68 لهذا فقد شكلا معسكرين سياسيين في شمال السودان69 عقب الاستقلال في 1956. وقد مثل البوليس على الدوام اداة للحكومة السودانية. على كل, فهؤلاء العسكر الشايقية قد ارادوا الثأر لمقتل زملائهم في جودة, وقد زاد التناحر الاثني من حدة الانتقام.
اغتيالات كوستي وما تبعها من اضطرابات واوضاع متفجرة تم استغلالها من قبل الحكومة كسلاح ماض ضد الاتحادات الخدمية. فقد تم اعتقال مجموعة من اعضاء اتحاد مزارعي النيل الابيض, مع مجموعة من ممثلي عدد من الاتحادات التجارية الناشطين, وقد ووجهوا جميعا بتهم التحريض على الشغب واثارة الضغائن.70 على كل, فان تلك التكتيكات التي اتبعتها الحكومة قد أتت اكلها. حيث ادت صدمة موت ذلك العدد الكبير من المزارعين السجناء الى تخويف وكبح الكثير من النقابيين من الخروج الى الشوارع. ومن خرجوا منهم فقد تم اعتقالهم, ومن بينهم, احد اعضاء البرلمان, وهو السكرتير العام للجبهة المعادية للاستعمار وايضا رئيس اتحاد العمال.72
وقد اوضحت افادات الصحف اللاحقة ان التقارير الرسمية التي جآءت عن حادثة كوستي لم تكن صحيحة. فالرسالة الرسمية التي ملّكت لمراسلي الصحف الاجنبية كانت كالآتي:
? في البداية ساد اعتقاد بامكانية تعرضهم لعدوى ما خلال هروبهم?لقد كان هنالك على اية حال, الكثير من الهيجان شبه الشيوعي, في مشروع الجزيرة وغيره من المشاريع الاخرى الصغيرة, لقد كان مزارعي الجزيرة هم على الارجح اكثر اصحاب الاعمال الصغيرة رفاهية في الشرق الاوسط ولكن, وكما هو سائد, فان اصحاب الاعين التي لا تمتلئ, والعناصر التي تثير الفتن عن طريق التخريب قد جنت ثمارها.73
? كل هذا يشير الى عدم مسؤولية تبعث على الاسى من قبل بعض المسؤولين الغير مؤهلين.74
(9)
? السبب الذي ادى الى الوفيات لم يعرف بعد, ولكن حسب اعتقاد المسؤولين, ربما كانت بسبب التسمم الغذائي أو الاختناق.75
في نهاية الامر, فان موت الرجال المائة واربعة وتسعون قد مثل تهديدا ملائما وصريحا من قبل الحكومة ضد اي نشاطات مستقبلية للنقابات. وقد اثبت جدوى تامة.
في محاولة لاغراء الاستثمار الاجنبي, فان النخبة الحاكمة كانت في حاجة للظهور بمظهر المسيطر على دولة مستقرة.76 ولكن هذه الحادثة على العكس قد جلبت “دعاية سيئة” للحكومة السودانية, والتي كانت مدركة لحوجتها التامة للمزيد من الاستثمار الخاص الاجنبي من اجل التنمية في السودان.في 26 فبراير, قام هنري كابوت لودج المبعوث الامريكي لدي الامم المتحدة بزيارة خاصة للخرطوم من أجل بحث ما يمكن ان تقدمه الامم المتحدة من دعم للسودان. حيث تم استقباله بتظاهرات لعمال سكك حديد السودان تضامنا مع المائة واربعة وتسعون من ضحايا جودة الذين سقطوا في الاسبوع السابق77 وهم يهتفون ” تسقط حكومة الاقطاع”. لهذا فقد رأت الحكومة ضرورة وضع نهاية لممارسات النقابات أو اي دعاية سيئة تتصل بالتنافس الاثني.
وقد كانت للحكومة, مسنودة بعبد الحافظ عبدالمنعم بوصفه عضوا بادارة مشروع الجزيرة ومالكا لمشروع جودة, دواع كثيرة لمنع بيسويك من كشف الحقائق لوسائل الاعلام . ففي الصباح الذي اعقب الحادثة, وبعد ان تم شحن المعتقلين الى كوستي, استمع بيسويك واستيلا الى اخبار المذبحة عن طريق نشرة اذاعية تبث من استراليا78. حسب استيلا بيسويك:
بعد ساعات من اكتشاف امر مذبحة كوستي المرعبة, وصل عبدالمنعم محمد مخدم زوجي على متن طائرة مستأجرة من الخرطوم. وبعد حوار مغلق مع زوجي لبعض الوقت, جآءت الاوامر بحزم حقائبي والاستعداد الفوري للتوجه الى الخرطوم ومنها الى القاهرة. كنت على علم بأن هذه الاوامر قد صدرت عن عبدالمنعم محمد, والذي كان يخشى من وقوع ثورة اخرى للفلاحين. وقد فعلت ما طلب مني وغادرنا الى الخرطوم حيث كان في استقبال طائرتنا نصف دستة من الصحفيين, من بينهم نويل باربير مراسل ال (لندن تايمز), وقد كان تعليقي أن ” لا تعليق, لا تعليق, لا تعليق”. ثم واصلت طيراني الى القاهرة79.
لقد كان واضحا أن عبدالحافظ عبد المنعم وبوصفه رجل اعمال واول رئيس لمشروع الجزيرة, قد كان له الكثير الذي سيخسره بافشاء المعلومات عن معركة جودة وانتهاكاته الشخصية للنظم.
(10)
ما بعد الكارثة
في الخامس والعشرون من فبراير, وعقب تحقيقات رسمية, تم اعتقال اثنين من الضباط وعددا من جنود الشرطة بتهمة التسبب في وفاة السجناء عن طريق الاهمال80. ولكن, وفقا لعلي, لم يكن ذلك سوى نوع من الدعاية المسرحية المدروسة لتضليل الاعلام الخارجي. فبعد فترة قصيرة تم اسقاط التهم.وقد تمت الوعود باجراء تحقيقات شاملة بخصوص تراجيديا جودة ولكن ليست هناك دلائل على تنفيذ تلك الوعود81. كذلك اعلنت الحكومة لاحقا عن قرارا يقضي بدفع تعويضات مؤقتة لاسر ضحايا كوستي. مع الوعد بدفع تعويضات كاملة في المستقبل82. ولكن هذا لم يحدث اطلاقا83. ومن جهة اخرى, يبدو ان هنالك اشخاص بعينهم ممن تورطوا مباشرة في المسؤولية الادراية في احداث جودة ومذبحة كوستي قد تمت مكافأتهم على افعالهم. فقد تم تعيين المسؤول الاداري عن ذلك الاقليم في وظيفة دائمة باحدى الوزارات الرئيسية والذي شغل لاحقا منصب المدير الاداري لاحدى المؤسسات التجارية الكبرى84. وبحلول العام 1961, ظل عبدالحافظ عبدالمنعم في منصبه كمدير لادارة مشروع الجزيرة85
أخي السفير د. علي حمد ،،، نشكرك على هذا التوضيح المهم لتبين هذه الأخطاء التاريخية التي وقعت فيها هذه المؤلفة الإستعمارية، ونحن أبناء وأحفاد شهداء عنبر جودة مدانون لك لدفاعك المستميت دوماً عن أهلك في بحر أبيض عموم وعموم دار محارب كلما وظل قلمك يسطر أحرف مضيئة في مسيرة إنسان جودة بكل طيفها الزاهي بالمرؤة والكرم والذود عن حوض هذا الوطن، أنهم رجال عاهدوا الله وإمامهم المهدي أن يكونوا ملح أرض السودان وتعففون عند المغانم،، أيها السفير الشريف أنت مفخرة لأهل السودان جميعا ولأهلك في جميع عموم دار محارب لأنك حفرت سيرتك في السلك الدبلوماسي بأحرف من نور وأنت الفارس الذي كسر عصى طاعة الدكتاتورية وقلت يومها لا عندما كان الجميع يقول نعم في مكان لا،، فلك مليون شبال برائحة الصندل من حرائر دار محارب ،،، ودمت دوما فارس الفرسان
*(سمح الغُنا من خشم سيدو).
العزيزالغالي لك التحية .انت تذكر ان صديقك كمال ابراهيم بدري طيب الله ثراه كان مديرا لمشروع بركة العجب خارج القيقر في بداية الستينات وبركة العجب كانت بمساحة مشروع جودة ، 48 بوضة او ا8 الف حواشة . واختلف كمال مع الخال عبد الكريم ميرغني شقيق الاستاذ عبد الكريم ميرغني الذي رثاه المبدع رحمة الله عليه محجوب شريف بقصيدة يابا مع السلامة . وكمال كان يقول ان هنالك تجاوزات في الحساب المشترك واجحاف في حق المواطن . والخال عبد الله ميرغني كان المدير العام . واستقال كمال وضحي بالمكافئة .
وطلب منه آل ابو العلا ان يدير جودة لانه عمل في مشروع الجزيرة سنين عديدة . وكان اقتناعهم ان مدير انصاري جده بابكر بدري مستشار السيد عبد الرحمن سيهدئ الانصار في المشروع . واصطدم كمال بالادارة في الخرطوم بسبب ظلم المزارعين . واستقال وضاع حقه في مكافئة الخدمة .
اخونا المشترك كاريل او محمد فضل تية ابن بلدك القيقر طيب الله ثراه كان حاضرا الاحداث . وكان يحكي لي في امدرمان حيث كنا لانفترق عن الاحداث . وذكر ان احد ابناء الغرب هو من اندفع جاريا وقتل يوسف . وسمعت من اهل جودة ان ابو شاتين لم يكن يقصد شرا بيوسف للمعرفة والصله التي ربطت يوسف بالمنطقة . الا ان ابو شاتين كان منفعلا وكان يقترب كثيرا من يوسف الذي كان متأكدا من ان ابو شاتين لايقصد شرا . ولكن رجل البوليس اضطرب وخاف علي رئيسة وضرب ابا شاتين بالرصاص .
لقد كتبت قديما موضوعا مفصلا لا اجده الان . ولكن وجدت جزئا من موضوع آخر . وعدد 500 جريح عدد مبالغ ، واظن المقصود وجود 500 مزارع . لايفتي ومالك في المدينة وانت سيد العرفين . رحم الله اخانا كاريل كان ضحية ظلم آخر فلقد امتلا ظهره ارصاص الخرطوش الذي كان يطلقه سويرس في العرس واخذت الطلقة يد الاخ المساح . واستقر كثير من الرش في ظهر كاريل . وكنا نعرف انه قد يموت متأثرا بالتسمم . ودعني في يونيو 1964 في امدرمان ومات في الباخرة المحلي قبل وصوله القيقر .
اقتباس
إن أكبر ظلم وقع علي السودانيين يوم من الأيام هو حوادث جودة ولم يجد المزارعون من يقف معهم سوي الشيوعيين فلقد أحجم رجال حزب الأمة عن مهاجمة أصحاب المشروع لأن الكثير من رجال حزب الأمة كانوا يملكون مشاريع زراعية ضخمة . والرجل القوي في الحزب الحاكم وقتها (فبراير 1956 ) كان في حفلة في السفارة الفرنسية وكان يحمل في يده كأس “كونياك كورفوازير” وعندما أتي خبر موت 193 مزارع في جودة لم يضع الكأس من يده . ولكن المناضل سلام أخذ عناصر شابة من الحزب الشيوعي السوداني وانطلق إلي النيل الأبيض مخاطرا بحياته .
وعندما قال البعض أن هذه المشاكل سببها الشيوعيون كان سلام يقول :
في شيوعي عنده مشروع هنا ؟
المشكلة أن قانون (لائحة سحب مياه النيل ) وقتها كان يلزم الشركات بتقديم حسابات سنوية أو دفع 100 جنيه غرامة . والأسرة التي كانت تمتلك المشروع لم تقدم أي حسابات لمدة سنين وكانت تكتفي بدفع الغرامة ، واستخدم المال في بناء أكبر عمارة في شارع القصر . وأخيرا طالب المزارعون بحقهم والمشروع يسيطر علي حياة عشرة ألأف أسرة ويمتد حتى داخل أعالي النيل . وكما أورد شلقامي في كتابه وبشهادة المفتش الزراعي دوقلاس بسويك (Douglas beswick) المفتش الزراعي ومصنف الأقطان اليوناني مولي كريوسوس شهدوا بالظلم . وفي يوم 21 فبراير 1956 قتل 150 من المزارعين و500 جريح بخلاف الذين ماتوا في الأحراش عطشا وجوعا وبسبب جروحهم . وفي اليوم الثاني حضر الجنود وأخذوا 287 من المزارعين وساقوهم كالقطعان وأدخلوهم في عنبر الجيش بالقوة وعندما كانوا يطلبون المساعدة ويستنجدون طلبا للهواء كان الجنود يسبونهم ويسبون أمهاتهم وعرضهم . ومات 194 مزارعا ونجي 93 مزارعا . وقتها قال شيوعي شاب في عينيه بريق اسمه صلاح أحمد إبراهيم رحمة الله عليه قصيدة اسمها عشرون دستة من البشر . حفظناها ونحن لم نبلغ الحلم بعد، أذكر منها :
لو أنهم فراخ
تصنع من أوراكها الحساء
لنزلاء الفندق الكبير في المدينة
لوضعوا في قفص لا يمنع الهواء
ولقدم لهم الحب والماء
لو أنهم حزمة جرير يعد لكي يباع
لوضعوا في الظل علي حصيرة
ولبللت شفاههم رشاشة صغير
إلا أنهم رعاع
من الحثالات التي في القاع…
…… إلخ
لماذا نسيت يا دكتور خالد كل هذا ؟ من هم اللصوص ؟ أصحاب المشروع الزراعي في القرن العشرين أم أصحاب المشروع الحضاري في القرن ال 21
لهم الرحمة والمغفرة … واستاذك العلامة عبد الله الطيب … وشكرا لمن اضاف للمكتبة السودانية الضعيفة و لو عنوان …!!!
الدكتور/ علي حمد إبراهيم والمؤرخ الأستاذ/ شوقي بدري وضيوفكم الأكارم لكم التحية والتقدير
فيما يلي ترجمة المقال كاملة
لكم التحية والتقدير مرة أخرى
الدكوك
____________________________________________________
ثقب كوستي الاسود: اغتيال المعتقلين البقارة على ايدي رجال البوليس الشايقية في معسكر بكوستي, السودان, 1956
س.ف. بيسويك
جامعة ميتشجن الولائية
ترجمة معروف سند
في العام 1956 , وبعد خمسة عقود من الاستعمار البريطاني, فإن حكومة الاستقلال الجديدة في السودان قد وطّنت نفسها من أجل ان تثبت للعالم ان الافارقة جاهزون لتحدي الحكم الذاتي .لم يكن لأحد,بريطانيا كان أو سودانيا, ان يتخيل ان عنان السلطة سوف يدار ,بعد خمسة وثلاثون سنة لاحقة,بواسطة حكومة وطنية ترتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان ضد ذات الشعوب التي ادعت تحريرها.(اشارة الى حقبة بداية التسعينات من القرن الماضي) “المترجم”.
ومع ذلك, فان نظرة فاحصة لاوضاع حقوق الانسان الكارثية المعاصرة في السودان توضح ان جرثومة الطغيان قد كانت حاضرة منذ فجر الاستقلال. لقد كانت فترة ملتهبة, اتحاديون ساخطون يتظاهرون في الشوارع بالآلاف , واستقلاليون يعقبهم علمانيون, بينما انطلق عنان الضغائن الاثنية. أما البوليس السوداني, والذي يستمد سلاحه من الحكومة, فقد أضحى قوة بلا كابح, حيث يتصرف باستقلالية تامة في مناطق نفوذه, واثقا من ان حكومة الخرطوم سوف تبارك أفعاله.فقد مضت بالكاد ستة أسابيع على استقلال السودان عندما انفجرت التوترات; مائة واربعة وتسعون من البقارة قد قتلوا عن طريق رجال البوليس الشايقية في معسكر بكوستي. هذه الحادثة مثلت حلقة مفتاحية في التاريخ السوداني القريب, فقد اظهرت موقف الحكومة القومية تجاه الاقليات الاثنية,الحرية الدينية, والوعي الطبقي.
الحدث المباشر الذي قاد الى تراجيديا كوستي هو معركة دارت رحاها في أحد المشاريع الخاصة في الجزء الجنوبي من مديرية الجزيرة1 في العام 1956(حسب التقسيمات الادارية القديمة) “المترجم” . مصادري الاساسية للمعلومات الشفوية أتت من دوقلاس بيسويك2 , مفتش مشروع جودة3, حيث حدثت المعركة, وزوجته, استيلا بيسويك بويد, التي كانت حينها برفقته.وهذا المقال يغطي الاحداث التي سبقت مذبحة كوستي مباشرة وذلك بتوصيفه لوقائع معركة جودة التي قادت الى اعتقال المزارعين. هذه الحقائق لم يسبق لها ان سجلت بتفاصيلها حيث منع بيسويك من التحدث الى الاعلام.
كانت هنالك اسرتان دينيتان تسيطران على السياسة السودانية في الفترة التي سبقت وأعقبت استقلال البلاد في العام 1956,الانصار ممثلة في عبدالرحمن المهدي من اسرة المهدي; والختمية بقيادة علي الميرغني, والتي كان لها تأثير على الحزب الوطني الاتحادي4. وقد مثل هذان الحزبان الارستقراطية الدينية التي كانت تحتكم على ثروات مادية واملاك زراعية ضخمة, تحديدا في الجزيرة5. هذا, وقد كان الانصار هم الطريقة الاكبر والاكثر تنظيما في السودان, وقد وصل عددهم في عشية الاستقلال الى ثلاثة ملايين. وقد مثلت تبعيتهم التامة لإمامهم في الامور الدينية والسياسية معا, العقبة الكؤود أمام نشؤ ديمقراطية حقيقية في السودان6. وقد اعتمدت كلتا المجموعتان على الولاء العقدي والاثني كمصدر أساسي للتأييد7, وكلتاهما أنشأتا نظاما سياسيا أبويا قائما على الاثنية8.
خلال الحرب العالمية الثانية, حدث ارتفاع كبير في اسعار المنتجات الزراعية. ولهذا فقد استنت قوانين جديدة تسمح باكتساب الاراضي الحكومية , الاعفاءت الضريبية, بجانب امتيازات اخرى بمنطقة الجزيرة.هذه القوانين قصد منها تشجيع الاستثمار الخاص , المحلي والاجنبي9.
اسس مشروع الجزيرة 10 على مبدأ تأجير الارض حيث يمنع شراء الاراضي بواسطة أشخاص غير السكان المحليين أو الحكومة11. يدار المشروع بنظام ثلاثي, الشركاء ممثلين في الدولة, المستأجرين ( استبدلت مفردة “المستأجرين” التي تستخدمها الكاتبة في جميع اقسام المقال, بمفردة “المزارعين”) “المترجم” وشركات الامتياز البريطانية. في العام 1950 قامت الحكومة السودانية بتأميم المشروع, وولد عن ذلك جسم مستقل عرف باسم ادارة مشروع الجزيرة12. غالبية موظفي شركات الامتياز القديمة أصبحوا موظفين لدي الادارة الجديدة13. بالنسبة للحكومة فان التوسع في زراعة الاراضي قد كان أمرا ملحّا, فقد كانت الارض تمثل مصدر الدخل الاكثر اتاحة وسهولة بالنسبة للحكومة المعدمة.
حدث ايضا تطور كبير في القطاع الخاص في اجزاء اخرى من الجزيرة اسهم في تنامي مجتمعات سودانية ثرية. وقد اضحت مشاريع القطن التي تروى بالطلمبات شائعة بشكل كبير على طول النيل الابيض, وقد وصل عددها الى ألف طلمبة, تروي مساحة 620,000 فدان15 من الارض16. حوالي ثلثي هذه المساحة تقع في مديرية النيل الازرق (وهذا يشمل منطقة النيل الابيض). هذه المشاريع الخاصة لها اهميتها لأنها تمثل حوالي الثلث من مجموع الارض المروية في السودان حتى العام 1956 17.
بأوامر من السيد عبد الرحمن, فان اعدادا كبيرة من الانصار استوطنت في مديرية النيل الازرق, في حين ان قرى النيل الابيض قد وقعت تحت التأثير الختمي. عند اكتشاف السلطات لتسرب الانصار في بدايات الثلاثينيات, أمرت جميع المهاجرين بالتمركز في قرية أو قريتين في كلا المديريتين18. موضوع هذا المقال يدور حول قريتين من قرى الانصار تقعان في مشروع مملوك لعبدالحافظ عبدالمنعم, وهو لا ينتمي للانصار19.
في فترة الترقب للاستقلال, تحولت مؤسسة السودان الزراعية الى ادارة مشروع الجزيرة, وقد تم تنظيم السودانيين حتى يحلوا محل البريطانيين, و تم تعيين السيد عبدالحافظ عبدالمنعم كأول مدير لادارة مشروع الجزيرة. وبصفته كرجل اعمال له علاقات تجارية اسرية ممتدة مع مصر , فقد قام عبدالحافظ بربط ادارة المشروع لأول مرة بالمجتمع التجاري السوداني الصاعد20. في عامي 1954 و 1955 كان هو و مكي عباس, المشرف الاداري لادارة مشروع الجزيرة, كانوا تواقين لاستيعاب زراعيين انجليز للبقاء والعمل في المشروع, وبشكل خاص المميزين منهم والذين شغلوا مواقع مهمة لم تتوفر للسودانيين الخبرة الكافية لشغلها بعد21 .
ولأن دوقلاس بيسويك هو أحد موظفي مؤسسة السودان الزراعية القلائل الذين استعربوا, فقد قبل العرض الذي قدمه له عبدالحافظ عبدالمنعم بالعمل في شركته. وفي العام 1953 بدأ عمله في مشروع جودة بمديرية النيل الازرق22.
لقد كانت جودة منطقة بكر. وقبل قيام المشروع كانت أرضا جرداء خالية ليس بها سوى قرى نزّي والواجودابي23. لقد كان مالك المشروع, عبد الحافظ عبدالمنعم, والذي يكبرني بسنوات عديدة, أحد الماليين السودانيين الأوائل. ورغما عن انه ينتمي الى اسرة سودانية تستوطن امدرمان, ولكن كانت لاسرته علائق وشيجة بمصر24.
الشركتان الاكبر في سودان ذلك الوقت هما شركة عبدالحافظ عبد المنعم, وهي مؤسسة اهلية محدودة,25 وشركة ابو العلا26. بالاضافة الى العديد من جمعيات المزارعين.
يرجع تاريخ منظمات المزارعين السودانيين الى العام 1946, عندما قرر مزارعو الجزيرة اعلان الاضراب ضد قرار مؤسسة السودان الزراعية بإنشاء صندوق مساعدات للمزراعين عن طريق خصم حصة كبيرة من عائدات مبيعات القطن. حيث استجابت الادارة البريطانية بإنشاء هيئة تمثيلية من المزارعين بصفة استشارية بحتة. وفي العام 1952 تم استبدال هيئة ممثلي المزارعين بجمعيات المزارعين, والتي سيطر عليها الزعماء الدينيين والقبليين27. في العام 1953 انضم زارعي القطن بالجزيرة الى الجبهة المتحدة لتحرير السودان , وقد جعل الحزب الشيوعي السوداني من نفسه متحدثا نيابة عن الجبهة المعادية الاستعمار خلال الانتخابات.
بحلول العام 1954 كان اتحاد المزارعين هو المخدّم الاكبر بالسودان28.وفي اواسط العام 1955 قامت اتحادات مزارعي النيل الازرق مع نظيراتها في النيل الابيض بدمج نفسها كمنظمة واحدة في كل الاقليم29.
خارج منطقة الجزيرة في المنطقة الواقعة بين النيلين الابيض والازرق, كانت هنالك اعدادا مقدرة من مشاريع الطلمبات الغير نظامية30, والتي لا يخضع ملاكها للمعايير المنظمة لادارة مشروع الجزيرة31. مثالا لذلك:
مشروع جودة له رخصته الخاصة والتي تقوم مقام ادارة مشروع الجزيرة في ترتيب امر المحاصيل, وهذه الرخصة لا تكفل حقا للمزارع على الاطلاق. فبمقدور المالك الادعاء بأنه قد باع المحصول لأي انسان; دون ان يكون لهم عليه اثبات. ويمكنه ان يدعي ان المحصول بالقيمة الفلانية, أو تم تقييمه بكذا أو حتى ان يدعي ان المحصول لم يتم بيعه بعد.ولكن الحقيقة ان المحصول قد بيع منذ شهور. لهذا فان المزارعين في مشاريع الطلمبات الخاصة مثل جودة كانوا في وضع مجحف للغاية. على الاقل فان ادارة مشروع الجزيرة كانت افضل ادارة واكثر عدلا32.
لتلك الاسباب, وفقا لبيسويك, فقد كان للمزارعين كل الحق في الثورة:
التصنيف للمحصول كان يتم دوما عن طريق مصنفين يونانيين, وبالتحديد يونانيين مصريين. الشخص الذي كان ينجز تصنيف محاصيلنا كان يدعى مولي كرويوس.وهي مهنة تحتاج الى مهارة ولكن هنا ايضا, كان هناك الكثير المخالف للنظم. وليس لدي شك ان هنالك سؤ تصنيف للقطن من اجل تقليل سعره. وهذا كان غالبا ما يتم باتفاق مع المالك والذي, حسب اعتقادي, لم يكن نزيها مع المزارعين33.
لهذا فقد كانت المشاريع الخاصة في وضعية ضعيفة للغاية. فقد كانت تفتقر للخير القليل الذي تتمتع به نظيراتها في القطاع الحكومي وتواجه صعوبات جمة من أجل تأمين حقوقها التي تستحقها34.
خلال العام 1955 بدأ المزارعون بالمشاريع الخاصة التلويح بسلاح الاضراب لأول مرة35. فقبل بداية حكومة الاستقلال بقليل, قدم اتحاد مزارعي النيل الأبيض مذكرة للحكومة تتضمن مطالبهم التي تتمثل في: الحصول على 60% كنصيب في الارباح; تعيين محاسبين مستقلين ; ومشاركة المزارعين في القرارات المتعلقة بحلج وتسويق القطن36.
وقد طالب المزارعون بقيام مزاد حر ينصب في بورتسودان التي كان يرحل اليها القطن. بالاضافة لذلك, فقد طالبوا بالاعتراف باتحادهم. عليه فان التحدي الاول الذي واجه حكومة الاستقلال الجديدة في 1956 كان هو المد المتصاعد للهيجان الذي احدثه اتحاد المزارعين بمشاريع الطلمبات الخاصة.
على اية حال , فقد تجاهلت ادارة الازهري مطالب المزارعين, وفي مطلع فبراير 1956, تم اعتقال قادة اتحاد مزارعي النيل الابيض خلال جولتهم بالمشاريع الخاصة. نتيجة لذلك, احتشد اربعة آلاف مزارع بمدينة كوستي, المركز الاداري للنيل الابيض, مطالبين باطلاق سراح قادتهم. وقد هدد المزارعون بحجب محصول القطن عن اصحاب المشاريع في حالة عدم الاستجابة لمطالبهم. عندها ارتفعت حدة التوتر, وفيما بعد, نظم الاتحاد مسيرة كبرى, مما ادي الى اعتقال المزيد من المزارعين والعمال وممثلي الاتحاد37.
على بعد مائة وعشرون ميلا جنوب كوستي حيث مشروع جودة, كانت الاحوال هادئة بشكل تام. ففي بدايات العام 1956 حصد المشروع كمية غزيرة من محصول القطن, والتي تم بيعها بسعر عالٍ. الافادة القادمة لبيسويك تصف
الاحداث التي ادت الى اضراب جودة.
كان على عبدالمنعم محمد وشركائه ان يدفعوا للمزارعين نسبة من ارباح المحصول. ولكنهم امسكوا عن الدفع. فبعد مدة طويلة من بيع المحصول لم يتحصل المزارعون على شئ. في الوقت نفسه قامت شركة عبدالحافظ عبد المنعم بالاستثمار في صفقات عدة للزيوت النباتية38, مثل السمسم39 والفول وبذرة القطن. اذن, فبدلا عن دفع مستحقات المزارعين بعد بيع المحصول فإن الشركة قد استولت على المال وقامت باعادة استثماره. لم يكن هنالك ما يمكن فعله من قبل المزارعين سوى احداث جلبة40.
في تلك الاثناء, كانت هنالك حركة واسعة في منطقة الجزيرة والتي تحولت في زروتها الى ثورة عامة ضد الحكومة السودانية. في هذا الجو من المواجهة, كان هناك احساس قوي لدي المزارعين في جودة انهم قد خدعوا, بل اصبحوا على يقين بأن اموالهم المستحقة لن يتم ادائها. حسب بيسويك:
امتنع المزارعون عن مواصلة لقيط القطن أو تسليم ما تم جمعه للشركة في انتظار تسوية حقوقهم السنوية من ارباح القطن, والتي دخلت حينها سنتها الثالثة من التأجيل. ومما صب الزيت على النار, فإن اسعار القطن في السنة الماضية قد كانت منخفضة بشكل كبير. حيث طمع المزارعين المعدمين في نسبة أكبر من الارباح التي طرأ الآن عليها التحسن41.
تعمقت التوترات, وبدأ المزارعون في تهديد بيسويك نفسه:
خلال الفترة من يناير وحتى فبراير بدأنا نجد منشورات في جميع انحاء المشروع تحرض المزارعين على التمرد. بعضها حمل الكلمات التالية ” ايها المزارعين, أرموا نير مضطهديكم”. ومزيدا من المنشورات قبل ايام قليلة من الاضراب, مكتوبة باليد, ” يومك يا بيسويك”. وقد ظلت الحكومة تؤكد ان هذه الاضرابات من الهام الشيوعيين42.
ومع استمرار حدة الاوضاع, فقد قام البوليس باخماد التظاهرات بمناطق المشاريع شمال الجزيرة بتهديد واعتقال عدد من الناس, مما اجبر منظمي التظاهرات على التوجه جنوبا. حيث تابع البوليس الثوار من مشروع الى مشروع لاسابيع, حتى وصل الجميع الى جودة.و لأن المشروع يقع في اقصى جنوب المنطقة, فقد أصبح أرض المعركة الحاسمة للثوار. هنالك في نهاية فبراير 1956, كانت للمزارعين وقفة ضد البوليس. تفاصيل تلك المعركة لم يسبق ان تمت تغطيتها بشكل كافٍ في وسائل الاعلام, فبواسطة عبدالحافظ عبد المنعم, تم منع بيسويك من كشف الحقائق لاي جهة داخل السودان. ولهذا فان افاداته الشخصية من الاهمية بمكان لانها توفر اشارات مهمة لتراجيديا كوستي اللاحقة
المعركة بجودة
في الصباح الباكر من 20 فبراير كان بيسويك بمكتبه:
كنا في محادثة تليفونية مع الجبلين وقد تم اخطاري بأن ناظر الخط في طريقه الينا مع عساكره من اجل التحدث مع المزارعين المضربين43. وقد كان هدفه محاولة الوصول الى تسوية مع المزارعين من اجل ايقاف الاضراب. فلشهر كامل لم يتم جمع اي كمية من القطن.
وصل الناظر بمعية عسكري مسلح ببندقية وبقى معي في مكتبي. بينما ركب العسكري تصحبه مجموعة على متن شاحنة الى منطقة وسط المشروع كانت تستخدم لتعبئة وترحيل القطن. تلك كانت هي المنطقة التي تجمهر بها المزارعون الساخطون الذين تسلحوا بالحراب والفؤوس.
مجموعة كبيرة تجمهرت هناك; اشخاص من كافة انحاء الجزيرة. لا احد يعرف من اين اتوا. هؤلاء تجمعوا بهدف منع العمال الآخرين من اداء اعمالهم. انا شخصيا لم اكن خائفا. ولكن تلك المنشورات المعلقة على الاعمدة “قطعت قلب” الموظفين الآخرين. مجموعة من المفتشين العاملين تحت امرتي كانوا في غاية التوتر.
وفجأة جاء الاربعة اشخاص الذين رافقوا رجل البوليس الى حيث المتظاهرين مهرولين على ظهر الشاحنة وهم يصرخون بأن بوليس الناظر قد تم تقطيعه اربا بواسطة المعتصمين. وعند هذه النقطة سارع الناظر بالاتصال طلبا لتعزيزات من البوليس.
وصلت تعزيزات البوليس بسرعة بالغة على ظهور الشاحنات. يبدو انهم كانوا بالقرب من منطقة الجبلين, عشرون او ثلاثون اقتحموا موقع الاحداث حيث بدأوا في اطلاق النار على كل من تقع عليه اعينهم. مجموعة من رجال البوليس الشايقية واجهوا مجموعة من المزارعين البقارة المسلحين بالفؤوس, والحجارة والبنادق البدائية44 وما تلى ذلك كان معركة دموية. اجساد ممزقة وميتة بفعل الرصاص في كل مكان. حوالي اربعين تم قتلهم.
اخيرا جاء رجال البوليس ليقولوا ” لقد نظمناهم”. لا ادري كم هو عدد الذين تم قتلهم, ولكنه كان عددا كبيرا; اثنين او ثلاثة من زملائهم العساكر قد قتلوا. كما اتذكر, جميع افراد البوليس كانوا من الشايقية, ولذلك صلة باحداث تالية.
في الصباح التالي اختفى اغلب الذين اتوا الى جودة من اجل مساندة الاضراب في اليوم السابق حيث توجهوا شرقا في اتجاه النيل الازرق. بعد انتهاء الصدامات , توجهت الى مسرح المعركة لمحاولة جمع المحصول الذي تم حصده, وعرفت ان المفتشَين قد هربا. لم يكن لدي السلطات علم بعدد الذين كانوا هناك اثناء وقوع المعركة, لقد كانت هنالك اعدادا كبيرة من الموتى. ولكن الكثير من الجثث قد تم سحبها قبل وصول السلطات45.
في اليوم التالي للمعركة تنامت الى اسماعنا اصوات الشاحنات على بعد اميال. وفي الصباح الباكر دخل الركب الى ساحة واسعة مفتوحة امام منزلنا والتي كانت تستخدم كمدرج هبوط لطائرات رش المحصول. شاحنتين أو ثلاثة قامت بانزال مجموعة من البوليس المسلح, عساكر شايقية, والذين باشروا في اعتقال كل من وقع عليه نظرهم. على كل, في ذلك الوقت لم يكن هنالك من الحاضرين الّا القليل ممن شاركوا في معركة الامس, المزارعين الذين بقوا هم من نزي والواجداب, وهم سكان المنطقة الاصليين, وليسو جميعهم من المزارعين. اما الباقين فقد هربوا.
تمت محاصرة الرجال والنساء بالمئات واجبروا على الجلوس في العراء لساعات عرضة لحرارة الشمس. وقد كانت العملية تحت قيادة قاضي باكستاني, والذي صرح ان مهمته تتمثل في القاء نظرة على التجمع. ثم القبض على المشتبه بهم في المنطقة وشحنهم الى كوستي من اجل التحقيق معهم.
لقد قمنا بمتابعة الوقائع من “برندة” منزلنا. كان هنالك على الاقل 600 شخص في الخارج قرب المنزل, لقد كان الوضع غير عادي. لو ان البوليس قبض على المتظاهرين لحظة المعركة لكانوا أمسكوا بالفاعلين الحقيقيين ولكن الآن هنالك فارق زمني كبير بين الاحداث46.
لقد اضحت استيلا بيسويك في غاية القلق بشأن ما قد تسببه الحرارة للنساء الجالسات في العراء, وفوق ذلك, فهي متأكدة تماما من انهن بريئات كل البراءة مما حدث:
بعد محاججة طويلة استطعت ان اقنع زوجي بالذهاب للقاضي الباكستاني ليوضح له انه قد قام باعتقال الاشخاص الخطأ, وكنت اؤكد انني قد رأيت مجموعة من هؤلاء الناس على مقربة من مكتب زوجي لحظة حدوث المعركة47.
طلب القاضي من بيسويك ان يقوم بتحديد جميع من -يمكنه ان يقسم صادقا- على انهم كانوا موجودين بجوار مكتبه لحظة المواجهة مع البوليس.
قمت بالمرور خلال المئات من المزارعين واضعا يدي على اكتاف خمسة عشر من الرجال الذين حددتهم كموجودين قرب مكتبي خلال الوقت الحاسم للمعركة. لقد استطعت ان انقذ الكثير من الناس, تحديدا من قبيلة نزي, بقولي تحت القسم, ان هؤلاء الناس لم يكونوا في مسرح المعركة بل في قراهم. لقد كانت قرية نزي على بعد مسافة قليلة من منزلي.و القرية الرئيسية للواجداب كانت على مقربة ايضا. لقد تم اطلاق سراح هؤلاء الرجال في الحال.
حوالي الساعة الرابعة مساء سمحوا لجميع النساء بالعودة الى منازلهن, بينما تم شحن مائتين وثمانية وسبعين رجلا داخل الشاحنات, بين هؤلاء, دون ان تنتبه له زوجتي, رجل مسن كانت قد ابتاعت منه بيضا في اليوم المشؤوم. لقد قاموا بأخذ شاحناتي ومقطوراتي التي كنت استخدمها في ترحيل القطن, حيث انهم لم يحضروا ناقلاتهم الخاصة. وكذلك استخدموا سائقي شاحناتي. لقد تم ترحيل الرجال الى كوستي التي تبعد مائة ميل 48 .
مذبحة بكوستي
مائة واربعة وتسعون من المعتقلين البقارة وجدوا ميتين49 في الصباح التالي باحد السجون المحلية بكوستي50. واحد من المقاصد الاساسية لهذا المقال تتمثل في توضيح ان ما حدث بكوستي لم يكن مجرد حادث كما ادعت الحكومة. التقارير الرهيبة التي سجلتها وسائل الاعلام عن مصير اولئك الرجال اوضحت بجلاء ان البوليس قد قصد الثأر من السجناء البقارة بسبب اغتيال زملائهم في جودة.
… جميع السجناء المائتين وواحد وثمانون وضعوا في مساحة ضيقة, قدرت باثنتي عشر متر طولا وعشرة امتار عرضا, والتي لم يتم استخدامها لثلاثة اشهر51.
… وقد بلغت درجة الحرار بكوستي حينها 104 درجة فهرنهايت…”52
…الغرفة التي احتجز بها السجناء… كانت مغلقة الابواب والنوافذ…”53
…رغم صيحات السجناء المؤسية فإن الحراس لم يعيروهم التفاتة. بعضهم مات وهو يصيح في هستيرية; وآخرون تكدسوا فوق بعضهم البعض في أكوام مع مرور الليل. وقد اوضحت الجروح على ايديهم وارجلهم والدماء على الحائط مدى ما بذلوه من جهد من أجل الوصول الى هواء نقي قبل ان يسقط السجناء من شدة الحرارة54.
… روى ثلاثة من الناجين… ان الحراس قد صاحوا فيهم ” من الافضل ان تموتوا” عندما صرخ السجناء طلبا للنجدة55.
? بدأ المزاعون في الضرب على النوافذ بعنف في محاولات جنونية لادخال الهواء. وعندها بدأ الحراس في اطلاق النار في اتجاه النوافذ خشيةً هروب السجناء56.
… حكى احد الناجين… ” في البداية احدثنا جلبة عالية, ونحن نتوسل للبوليس ولكنهم اخبرونا فقط ان نظل ساكنين, هتفنا وصرخنا وضربنا على الابواب- ثم الانين- من أجل الماء, الماء, توسلنا للبوليس في الخارج حتى يحضروا لنا ماء فقد كنا في حالة اختناق, ولكن البوليس تجاهل نداءنا. لقد كانت الحرارة فظيعة, حوالي منتصف الليل, وبعد ساعات من الحر الخانق, بدأ الرجال في التساقط.تعرى من بقى منا ووقفنا على اجساد رفاقنا. حكى الناجي, عندما استطاع في النهاية ان يكسر احد النوافذ الصغيرة ويتسلق خارجا, ان البوليس قد اطلق عليه النار وهو يحاول الهروب خلال ساحة المعسكر. وعندها صاح ” انظر الى الباقين.” في تلك اللحظة كانت الابواب قد فتحت وخرج الناجون يدبّون نحو الهواء النقي في الخارج…”57
… رغما عن صياحهم وطلبهم للنجدة, فقد تم تجاهلهم من قبل البوليس الشايقي الموجود بالخارج. ثلاثة وتسعون فقط ممّن كانوا بالغرفة هم من نجوا.”58
? الطبيب الذي هرع الى المعسكر قال بفزع: ” من الصعب ان تفرق بين من هم الاحياء ومن هم الاموات. وكأنه مسرح لمذبحة رهيبة.”59
افادات الصحف اشارت ان البوليس لم يبد ادنى رحمة. ولقد ظهر لاحقا ان السجن المحلى حينها كان مكتظا, ولذلك تم اقتياد المعتقلين ليلا الى احد معسكرات الجيش التي كانت تحت التشييد على نحو ميل خارج مدينة كوستي.
مسألة أن يقوم البوليس بتفيذ القانون بيده وأن يتحول الى ” قوة للارهاب”60 قد كانت حقيقة ماثلة ما قبل الاستقلال, وقد اعتبرت بالتأكيد مشكلة حقيقية لعقود تلت. في تقرير رسمي بخصوص الاضطرابات في جنوب السودان, أكد وزير الداخلية ان هنالك قدر كبير من الاحتكاكات بين البوليس والسلطة الادارية?”61 وقد ذكر مسؤول حكومي ان بايداع سلطات للبوليس كانت في السابق تمارس بواسطة الادارة الانجلومصرية,62 فان البوليس الاقليمي قد شعر بأنه مسؤول فقط امام المفوض في الخرطوم.63 وفي مرحلة من المراحل كانت هنالك خشية من خطر تحلل البلاد الى دولة بوليسية خاصة في المناطق الاقل نموا من السودان والتي تنتشر فيها الامية والتخلف وسؤ التدريب بشكل واسع في اوساط البوليس.64 وقد كانت الاوضاع في اسوأ احوالها في المديريات الجنوبية.65 وقد كانت جودة في الحدود مع الاقليم الجنوبي. ولربما اعتقد العساكر الشايقية الذين اصطحبوا المعتقلين البقارة من جودة ان بامكانهم املاء عقابهم الخاص دون ان يكونوا مسآءلين امام الحاكم الاقليمي على فعلهم.66
قد يكون التنافس الاثني ما بين الشايقية والبقارة هو احد العوامل التي ادت الى هذه الحادثة. كما اوضحنا سابقا في هذا المقال, فقد هيمنت جماعتان دينيتان على مقاليد السياسة في السودان- هما الختمية والانصار.67 الختمية كانت مسنودة بشكل اساسي من قبل قبيلة الشايقية,والتي شكل ابنائها معظم قوات البوليس. اضافة لذلك فان الكثير من الختمية قد كانوا يشغلون مناصب مهمة في الحكومة, بما فيهم رئيس الوزراء الازهري. ومن جانب آخر, فان الكثير من مؤيدي المهدية الانصار كانوا من البقارة.الصراع الختمي-المهدوي له جزور تاريخية عميقة, ترجع الى القرن التاسع عشر.68 لهذا فقد شكلا معسكرين سياسيين في شمال السودان69 عقب الاستقلال في 1956. وقد مثل البوليس على الدوام اداة للحكومة السودانية. على كل, فهؤلاء العسكر الشايقية قد ارادوا الثأر لمقتل زملائهم في جودة, وقد زاد التناحر الاثني من حدة الانتقام.
اغتيالات كوستي وما تبعها من اضطرابات واوضاع متفجرة تم استغلالها من قبل الحكومة كسلاح ماض ضد الاتحادات الخدمية. فقد تم اعتقال مجموعة من اعضاء اتحاد مزارعي النيل الابيض, مع مجموعة من ممثلي عدد من الاتحادات التجارية الناشطين, وقد ووجهوا جميعا بتهم التحريض على الشغب واثارة الضغائن.70 على كل, فان تلك التكتيكات التي اتبعتها الحكومة قد أتت اكلها. حيث ادت صدمة موت ذلك العدد الكبير من المزارعين السجناء الى تخويف وكبح الكثير من النقابيين من الخروج الى الشوارع. ومن خرجوا منهم فقد تم اعتقالهم, ومن بينهم, احد اعضاء البرلمان, وهو السكرتير العام للجبهة المعادية للاستعمار وايضا رئيس اتحاد العمال.72
وقد اوضحت افادات الصحف اللاحقة ان التقارير الرسمية التي جآءت عن حادثة كوستي لم تكن صحيحة. فالرسالة الرسمية التي ملّكت لمراسلي الصحف الاجنبية كانت كالآتي:
? في البداية ساد اعتقاد بامكانية تعرضهم لعدوى ما خلال هروبهم?لقد كان هنالك على اية حال, الكثير من الهيجان شبه الشيوعي, في مشروع الجزيرة وغيره من المشاريع الاخرى الصغيرة, لقد كان مزارعي الجزيرة هم على الارجح اكثر اصحاب الاعمال الصغيرة رفاهية في الشرق الاوسط ولكن, وكما هو سائد, فان اصحاب الاعين التي لا تمتلئ, والعناصر التي تثير الفتن عن طريق التخريب قد جنت ثمارها.73
? كل هذا يشير الى عدم مسؤولية تبعث على الاسى من قبل بعض المسؤولين الغير مؤهلين.74
? السبب الذي ادى الى الوفيات لم يعرف بعد, ولكن حسب اعتقاد المسؤولين, ربما كانت بسبب التسمم الغذائي أو الاختناق.75
في نهاية الامر, فان موت الرجال المائة واربعة وتسعون قد مثل تهديدا ملائما وصريحا من قبل الحكومة ضد اي نشاطات مستقبلية للنقابات. وقد اثبت جدوى تامة.
في محاولة لاغراء الاستثمار الاجنبي, فان النخبة الحاكمة كانت في حاجة للظهور بمظهر المسيطر على دولة مستقرة.76 ولكن هذه الحادثة على العكس قد جلبت “دعاية سيئة” للحكومة السودانية, والتي كانت مدركة لحوجتها التامة للمزيد من الاستثمار الخاص الاجنبي من اجل التنمية في السودان.في 26 فبراير, قام هنري كابوت لودج المبعوث الامريكي لدي الامم المتحدة بزيارة خاصة للخرطوم من أجل بحث ما يمكن ان تقدمه الامم المتحدة من دعم للسودان. حيث تم استقباله بتظاهرات لعمال سكك حديد السودان تضامنا مع المائة واربعة وتسعون من ضحايا جودة الذين سقطوا في الاسبوع السابق77 وهم يهتفون ” تسقط حكومة الاقطاع”. لهذا فقد رأت الحكومة ضرورة وضع نهاية لممارسات النقابات أو اي دعاية سيئة تتصل بالتنافس الاثني.
وقد كانت للحكومة, مسنودة بعبد الحافظ عبدالمنعم بوصفه عضوا بادارة مشروع الجزيرة ومالكا لمشروع جودة, دواع كثيرة لمنع بيسويك من كشف الحقائق لوسائل الاعلام . ففي الصباح الذي اعقب الحادثة, وبعد ان تم شحن المعتقلين الى كوستي, استمع بيسويك واستيلا الى اخبار المذبحة عن طريق نشرة اذاعية تبث من استراليا78. حسب استيلا بيسويك:
بعد ساعات من اكتشاف امر مذبحة كوستي المرعبة, وصل عبدالمنعم محمد مخدم زوجي على متن طائرة مستأجرة من الخرطوم. وبعد حوار مغلق مع زوجي لبعض الوقت, جآءت الاوامر بحزم حقائبي والاستعداد الفوري للتوجه الى الخرطوم ومنها الى القاهرة. كنت على علم بأن هذه الاوامر قد صدرت عن عبدالمنعم محمد, والذي كان يخشى من وقوع ثورة اخرى للفلاحين. وقد فعلت ما طلب مني وغادرنا الى الخرطوم حيث كان في استقبال طائرتنا نصف دستة من الصحفيين, من بينهم نويل باربير مراسل ال (لندن تايمز), وقد كان تعليقي أن ” لا تعليق, لا تعليق, لا تعليق”. ثم واصلت طيراني الى القاهرة79.
لقد كان واضحا أن عبدالحافظ عبد المنعم وبوصفه رجل اعمال واول رئيس لمشروع الجزيرة, قد كان له الكثير الذي سيخسره بافشاء المعلومات عن معركة جودة وانتهاكاته الشخصية للنظم.
ما بعد الكارثة
في الخامس والعشرون من فبراير, وعقب تحقيقات رسمية, تم اعتقال اثنين من الضباط وعددا من جنود الشرطة بتهمة التسبب في وفاة السجناء عن طريق الاهمال80. ولكن, وفقا لعلي, لم يكن ذلك سوى نوع من الدعاية المسرحية المدروسة لتضليل الاعلام الخارجي. فبعد فترة قصيرة تم اسقاط التهم.وقد تمت الوعود باجراء تحقيقات شاملة بخصوص تراجيديا جودة ولكن ليست هناك دلائل على تنفيذ تلك الوعود81. كذلك اعلنت الحكومة لاحقا عن قرارا يقضي بدفع تعويضات مؤقتة لاسر ضحايا كوستي. مع الوعد بدفع تعويضات كاملة في المستقبل82. ولكن هذا لم يحدث اطلاقا83. ومن جهة اخرى, يبدو ان هنالك اشخاص بعينهم ممن تورطوا مباشرة في المسؤولية الادراية في احداث جودة ومذبحة كوستي قد تمت مكافأتهم على افعالهم. فقد تم تعيين المسؤول الاداري عن ذلك الاقليم في وظيفة دائمة باحدى الوزارات الرئيسية والذي شغل لاحقا منصب المدير الاداري لاحدى المؤسسات التجارية الكبرى84. وبحلول العام 1961, ظل عبدالحافظ عبدالمنعم في منصبه كمدير لادارة مشروع الجزيرة85
خاتمة
العزيز الغالي علي لك التحية . بعد ان مسحت دمعي تذكرت الاهل في اعالي النيل . في بداية السنة غادرنا والدي اسماعيل خليل تاجرملكال وصهر الوالد فديت او ايوب ياو او محمد عبد الله عبد السلام وتذكرت الشقيق فقوق نقور جوك . وابني فقوق يستعد للذهاب الي امريكا للدراسة علينفقة السويد . وتذكرت فريق السواري في الرنك سكن السلطان يوسف نقور جوك الرحمة للجميع . وربنا يغطي علي اشقائك . سال الدمع وتحسرت علي الوطن الذي اضعناه .
هنالك شئ لم ارد ان اورده حتي لا افتح الجروح . ولكن يجب ان اقول ان حوادث اول مارس هي التي القت بظلالها علي حوادث جودة . فلقد قتل في حوادث مارس ظابط البوليس البريطاني وظابط سوداني . وكان اشهر من قتل هو الشاويش ميرغني الذي كان بطلا في امدرمان وكان يضرب به المثل ,, قايل نفسك الشاويش ميرغني . ومات كثير من البوليس الذي لم يكن مسلحا. واغلبهم من الشايقية . وكان بعض اولاد الاشلاق يقفون امام القبه ويهتفون ,و شن القبة والراس في اوربا ,, وقمت انا كابن الانصار بالهجوم علي صديقي الفاتح عبد العزيز وضربته وطرحته ارضا امام السور الجنوبي للقبة، وتلوثت ملابسه بوحل الخريف . وشقيقه ناصر عبد العزيز كان حاضرا وهو اكبر مني وزميل شقيقي الشنقيطي . ووالده كان رجل بوليس ومنزلهم الاول في الصف الاول في الاشلاق . والفاتح كان يقول لي الانصار كتلوا اهلنا . وبعدها سلح البوليس . والان يحمل البوليس الكلاش
وفي جوادث المولد قتل الشاويش الزبير وابنه ابو داؤود رجل بوليس الحركة الذي عرفته كل امدرمان . لقد اخطانا في حكم انفسنا . وثالثة الاثافي كانت حوادث الجنوب . ثلاثة مصائب في سنة واحدة . وبعد حوادث اول مارس تكونت فكرة الانصار كوحوش متعطشين للدماء .
سعادة الدكتور/ علي حمد إبراهيم
CC: الأستاذ/ شوقي بدري
بعد التحية والتقدير وبعد ،،،
لا أخفي عليك بأنني ومنذ قراءتي لمقالك بالأمس ما زلت مندهش أيما أندهاش من المعلومات الخاطئة،التي أحتوها مقالك أعلاه. ولولا درايتي الوثيقة بشخصك الكريم من خلال كتاباتكم، لظننت بك الظنون، أقلها بأنك على خط من أمرك أو أنك أعتمدت على ترجمة غير دقيقة أو أنك أطلعت على نسخة غير الأصلية من الكتاب. The Black Hole of Kosti: The Murder of Baggara Detainees by Shaigi Police in a Kosti Barracks, Sudan 1956
S. F. Beswick
Michigan State University
لذلك سارع شخصي بنشر الترجمة الكاملة للكتاب، لعلك تستدرك ما وقعت فيه من أخطاء جسيمة ومخلة بمضمون المقال محل تعقيبك ونقدك. الأخطاء الورادة في مقالك، جوهرية وتضرب في العض، بل في الهيكل العظمي للمقال وهي على النحو التالي:
1- عنوان المقال حسب المؤلف: ثقب كوستي الاسود: اغتيال المعتقلين البقارة على ايدي رجال البوليس الشايقية في معسكر بكوستي, السودان, 1956، بينما كان عنواك: “كتاب (ثقب كوستى الاسود) أو مأساة عنبر جودة”
2- أسم كاتبة المقال/ المؤلفة هي: أستيفاني ف. بيسويك، بينما شخصكم نسب المقال لأسم أخر مختلف: “للمؤلفة ستيلا بزويك”.
3- ذكرت المؤلفة صراحة في مقالها بأن مصدر معلوماتها هو المستر دقلاس بيسوك وزوجته استيلا بيسويك “مصادري الاساسية للمعلومات الشفوية أتت من دوقلاس بيسويك2 , مفتش مشروع جودة3, حيث حدثت المعركة, وزوجته, استيلا بيسويك بويد, التي كانت حينها برفقته”، ولم تشير المؤلفة في أي من فقرات مقالها بأنها كانت حاضرة للأحداث أو أنها تروى عن ذكرياتها، بينما نسب شخصكم ما ورد بالمقال إلى ذاكرة المؤلفة، حيث ذكرت ” المقال الذى ترجمه الاستاذ الهاشمى عن حادثة مشروع جودة التى اشتهرت باسم عنبر جودة حمل اخطاء تاريخية معيبة لا تليق باستاذة جامعية بل وابنة مدير عام مشروع جودة وكانت موجودة فى مدينة جودة اثناء تلك الحوادث . ولكنها كانت صغيرة السن وقتها . وواضح انها كتبت من ذاكرتها الصغيرة تلك عن تلك الاحداث”بأنه “.
4- وصفت المقال بالعمل البائس، وأردفت “ولا يكافىء حبر الاستاذ، الهاشمى الذى ترجمه”، متنسياً بأن المقال صادر عن دار نشر لمؤسسة أكاديمية أمريكية مرموقة، هي جامعة متشجان الولائية، والمؤلفة أكاديمية وأستاذة جامعية. وأنت الأكاديمي والعالم المدرك لمهنية ومصداقية المؤسسات الأكاديمية الغربية بصفة عامة والأميريكية بصفة خاصة.
5- المقال، الذي وصفته بالعمل البائس، والذي أوردنا ترجمته إدناه، يعتبر وحتى تاريخ اللحظة الوثيقة التاريخية والرسمية الوحيدة التي رصدت أحداث مأساة “عنبر جودة” من بدايتها إلى نهايتها. بدءاً بالأرهاصات الأولية وأسباب الخلافات. والأكثر تسلسلاً وأشملها والأكثر مصداقية ومطابقة مع شاهدات الناجين من الضحايا، مقارنة مع الكتابات والنشورات بهذا الصدد.
6- تحدثت عن نفسك، بأنك أبن منطقة جودة وشاهد عيان شاف كل حاجة بشأن مأساة عنبر جودة وأردفت “قلت كنت ملما بما كان يجرى من حولى لاننى كنت اعايش ما كان يجرى صباح مساء من وقائع”، ومع ذلك لم يصدر لك أو لأي أحد من زملاءك علماء السودان وأكاديميه أي كتاباً أو توثيقاً يضاهي مقال أستيفاني بسيوك الذي أنتقدته بشدة ووصفته بالعمل البائس، الذي يساوي حبر ترجمته.
وتفضل بقبول وافر الأحترام
أخوك/ علي الدكوك