هاشم صديق: الشاعر يسقط بأدواته وليس من خلال اتهامات الآخرين

في البداية اود أن اقول ان اول مرة رأيت فيها الشاعر محمد الحسن سالم حميد وسمعت شعره كان ذلك في جامعة الخرطوم في أمسية شعرية اقامتها الجبهة الديمقراطية في اول ثمانينات القرن الماضي ولم اكن اعرفه من قبل ولم اسمعه ولفت نظري في تلك الامسية انه عندما تم تقديمه ليلقي اشعاره رفض ان يجلس على كرسي خلف المنصة وحمل المايكرفون في يده وتقدم أمام المنصة واقفاً واخذ يلقي اشعاره بلهجة ريفية وضح لي منذ البداية انه ينتمي الى «الشايقية» واستغرقني التفكير وانا استمتع الى أشعاره انه كيف يمكن لشاعر ان يطوع هذه المفردات اللغوية، الممعنة في «العامية القبلية» وأعني ذلك مفردات الشايقية المفرطة في اللسان القبلي وان يحول هذا الاستخدام الى ابداعية راقية تصب في خانة الرؤى الابداعية الفكرية وهذا ما لمسته منذ البداية.
ان هذا هو واحد من عبقريته الشعرية استلهام «المحلي القح» وتحويله الى لهجة شعرية عامية قومية. وهو بذلك يشبه افذاذ الشعراء المتميزين ليس على مستوى السودان فقط بل على مستوى العالم وهو يشبه في ذلك حتى بعض الكتاب المسرحيين من امثال ابراهيم العبادي على مستوى السودان وهارلود بنتر الكاتب الانجليزي من رواد حركة التجديد الذي استلهم لغة الحديث اليومي في مسرحه.
ما يميز حميد ثانيا هو انه جاد في توظيف هذه اللغة على المستوى القومي في التعبير عن الغالبية العظمى من المهمشين والغلابى والبسطاء على المستوى القومي، الذين انحاز اليهم بشراسة وابداعية عالية واعتقد انه كسب محبتهم واحترامهم لانه اصبح صوتا معبرا عن قضاياهم واحلامهم وكوابيسهم.
شيء آخر ان حميد لم يتنازل في مشروعه الشعري عن أي قيمة مبدئية تعبر عن هذا الانحياز قاتل وصبر وصمد وانجز والغريب في الامر وهذه نقطة هامة ان الذين ناصبوه العداء لم يكونوا الانظمة الشمولية وحدها ولكن حتى بعض المثقفين «بلا تعميم» الذين ارادوا ان يحاكموه سياسياً بمنظور ايدولوجي ضيق وهو انه عندما صرح في فترة من الفترات وكان ذلك قبل سنوات طويلة، انه لا ينتمي لتنظيم سياسي بالمعنى الحزبي حاكموه واتهموه ببيع القضية.
والواقع الابداعي المبدئي يقول ان المبدع لا يسقط بعدم حيازته للبطاقة الحزبية او يكون صك البراءة المبدئية هو حيازته للبطاقة الحزبية واعتقد ان ذلك من ادران السياسة لدينا في تقييمها للمبدعين اذ ان المبدع يسقط بأدواته وهذا يعني ان السقوط بالنسبة لحميد هو ان يكتب قصيدة يتغزل فيها في عيون الانظمة الشمولية والسلطات وقوى الشر والعدوان وهذا ما لم يفعله حميد مدى رحلته الابداعية، واعتقد انه كان معبرا عن الغلابى والمهمشين وقد وضحت قامته جلية عندما فجع الناس في رحيله التشييع المهيب والجموع الغفيرة التي التفت حول جثمانه وتنادت الى مشرحة مستشفى ام درمان وذلك العويل الهستيري والمر يثبت ان هذا الحميد هو مبدع بقامة وطن وجماهير المستضعفين فيه ويتبين كذلك ان اشعار المبدع الملتزم بقضايا الناس هي اقوى من خطب السياسيين وامضى من منشورات الاحزاب وان المبدع الحق يستطيع ان تحبه كل اطياف الطيف السياسي وربما حتى الذين يختلفون معه.
انا لا استطيع ان اوفي حميد حقه في هذه العجالة ولكني اعد وبعد ان اتجاوز هذه الغصة التي تسكن الحلق ان اكتب دراسة نقدية عن مشروعه الشعري بتركيز وافاضة.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..