غـَـوايـَـةُ الأسْــرارِ: إلى المسافر في قطار كلامي: على بن أبي طالب الجندي ..

صديقي الكاتب . .
هوَ مزجٌ مِن طينٍ بَـدَويّ تستغويهِ نساءٌ هولنديّات، ومِن لهبٍ مسيحيٌّ ملتبسُ التعريف، يتحرّش بنساءٍ مصريّات منقّبات في زحام حافلة قاهريّة، وسودانيّات مغموسات في عجينِ الخُمْرة وفوحِ العطر المُصندل. أفريقيّ هو، وفرعونيٌّ، قبطيٌّ يتوزّع جذره في الأنحاء، كأنّهُ في الطريق لصياغة هويته الخاصة، بتقاطيعه السبعينية المتصبينة، مراوغاً بلا حدود. ينظر وراءَهُ في غضب، وأمامهُ عالمٌ مغضوبٌ عليه، بل ومغضوب منه. “ريشُ النّعام” عند القاصّ البارع “عيسى الحلو”، في عصر السنوات الوسيطة من القرن العشرين، هي كتابة “الشاب المهذب”، والرّيش ممّا يعبث الريحُ به، وَمِمّـا يقـــــارب التهذيـــبَ ويتوشّجه.. كتاب صديقي بديع، يصعب تصنيفه وتحديد هويته، وكأنّه مكتوب بقلم شاب سبعيني متفلّت المزاج. لا أعرف هل التقىَ الكاتبُ “هُنيــدةَ” في الحُلم، أم استوهمَها في سَردهِ الباذخ البوح، منطلقاً بلا كوابــح ؟
هل ادخل في النصّ بوجداني أم بقلمي، أمْ بقلم “هُنيــدة”؟ هل تكون “ُهُنيــدة” هي الشّفرة التي تفتح لي، أنا الرّاوي ولست الأخطل، ذلك التائه في براري الخلافة الأموية..؟
ضحكَتْ “هُنيــدة”، ضحـكَ الغانيات في غنجٍ باذخٍ يستدعي فعلاً يعرفنهُ في الّليل البهيْم.
قالتْ “هُنيـدة”:
– قد أكون أنا في أحلام الكتابةِ الطليقة، وقد لا أكون. تمرّدي لا يقف عند حدودٍ، كما أني حبيسة دهليزي، فلا أعرف من أكون في أحايين كثيرة. هل تراك تصدّق ما أحكيه لك؟
يقول الرّاوي أنّ “هُنـيـدة” تلاقتْ والكاتب البعيد، ملاقاة الشّبح للشّبح، وتمازج الخيالِ بالطّيفِ، وكمثل لقاء الأخطل بالرّاوي، وما مِنْ شبحٍ ينطق، ولا من خيالٍ يجمح، بمثل جموح ذلك الكاتب البعيد، بعيونٍ مغمضةٍ، نحوَ الفتكِ ? أو هو الفتقِ ? بنسوةٍ شبقات من أسفل تكوينهنّ إلى أعلاه. تلاقيـــا سِـراراً، وعزما أن يكون خباؤهما في الشباك العنكبوتية، أو مستخفيين وراء نسجها، آمنين مطمئنين وراء حُجبٍ افتراضية. لم يقف التلاقي عند تخوم الخيال، بل تعدّاه تسرّباً ميسوراً، إلى البدنِ ورسمهِ الصّارخ، وأطرافهِ المستديرة، وثناياهُ المتكوّرة، وفاكهته النافرة، وحريره المُنسدل، ورماناته المنفلقة ووردهِ وياسمينهِ ورياحينهِ. فما كان التلاقي تلاقياً غُفلاً، بل استحال والطّرْفُ مُغتضٍ، إلى انكبابٍ وانسكابٍ ومَزج، فذهب منه ما يندلق سلسبيلاً من الدورقِ إلى الكأسٍ، يتشوّقها النبيذُ، توقاً وامتلاءاً، فكيفَ بالسّاقي ومَا إليه مُشتكَى ..؟
كتبَ الرّاوي في دفترهِ يسأل:
– وَهل يُسعف شعرُ “ابن زُهْر” عليلا..؟
ثُمّ أضافَ يستأنف مِن فيضِ خواطِرهِ، يُعينهُ خِدنه الأخطلُ:
( قال صديقي الكاتبُ قولاً متجرّداً، فلا لسانُه ولا همسُه، مِمّا قد تستوقفه خطوطٌ حمراءٌ في السّاحات الإلكترونية، أترجِم لكَ إلى اللغةِ المدرسيّة، ما تناهَى إليّ وقد أعملتُ كوابحَ اللغة قدرَ ما تبيح الحروف المُنخفضة، التي جاءتْ مِن طبيعة الأراضي التي أقام فيها عُمرا:
( استعمَرَتني البنتُ إلى أبعد حدود الإستعمار. لم تترك ليَ اليوم عقلاً يَدركَ ما بهِ، فلمْ تقل لي لِمَ هي غاضبة، عازفة عن التفاعل، تزدريه. . ما أعلنتْ أسبابها، أو هي تعاند عناد أنثى مِغناج. لا خارطة طريق تدلّني إلى تضاريس قلبها، ولا مفاتيح تُعين عزمي على فتح مغاليق مغاراتها. أزمعتُ أن انظر كيف أجلس إليها دونما ارتياب، أو أن اعيد صياغة كتابي إليها، وأرتّب ذخيرتي من الكلام، قبل أن أحشو خرطوشتي وأصوّب. لا أنكر أنني أحببتُ غموضها، وهنا مكمن قوتها وطغيان قلبها عليّ. كنتُ أحسّ قوتها تتماهَى مع ضعفي أمام عنفوانها، تتسيّد عليّ وتستعبد دواخلي، فامتليء انكسارا، ويزيد من خيلائها إسلامي إلى استقوائها بضعفي، وتمتّعها بما ترتشف من خمرةِ إذلالي. ما سكِرَت ْ هيَ، بل أنا المخمورُ لحظةَ هزيمتي، لحظة أن أحِسّ بعبوديةِ قلبي وانشراحه بذُلِّ العشقِ وَدَوسِ المحبةِ بمَيْسَمِ سحرها. لا أهرب من إذلالي ولا أجدني إلا مُرتاحا راكعاً عند قدمي أميرتي، غير أنّي أريد خلق معادلةٍ تعيد توازن قلبي مع قلبها. جسدها مع جسدي. التذاذي مع التذاذها. أنْ نصل إلى أقاصي النشوَة معاً، في غيبوبة الوجدِ فأتماهى معها وتغتسل بي . . . .
ولم يُغلق الرّاويّ بابَ الكلامِ المنقول، بهلالين، كما درَجّ أن يفعل عندَ كلِّ استشهاد، وكأنّ الشاعر أراد أن يصنع للالتباس حلية يلبسها ما سيأتي من كلامٍ أدناه.
أيّتها العابثة، أمَا طلبَ منك شيئاً حميماً.. من بعضِ فكرك، بعضِ خيالاتك، بعض جسدِك يتلهّى به في دهاليزه الافتراضية؟ ما تصوّرتُ، والبلّور يناور بين عَصْر وعصرٍ، أن لـ”صلاح الدين” هذه القدرة على الدّخول إلى مواقعِ الشبكةِ العنكبوتية، فيستدعي زوجة “ريتشارد” فيعابثها في مسامرة افتراضية على شاشةِ حاسوبه، ويطلبها فتستجيب، ناسية استئساد قلبه، فيصيدها في “شِباكه” و”مسنجراته”، وكأنّهُ لا يدرك أن “الانترنت” صنيعة أمريكية قد تفضي إلى فضائح وإلى هلاك .
– أريدك أنتِ قبلَ أن أبارزه هـوَ. لا مذاق للنّصر إلّا حين ترينني قُربكِ منتصباً قائماً، أرتشف من خمرِ جسدكِ ما يُسكِر. .
– مــا غازلني قبـلك أحـدٌ، ولا “ريتشارد” نفسُهُ، مثل غـزلك بي. هــل تُقبّـــل يديّ ..؟
– وأفعل أكثر..
واستضْحَكَهَا قوله، فتنهّدتْ وقالتْ:
– مَنْ ذلك الذي غزا أرضَ الفِرنجَة- فيمَا يقول السَحَرةُ والمؤرّخون الكذَبة- بفحولتهِ، ليشبع غريزةَ الانتقام لإذلالٍ قديمٍ عرَضَ له. .؟
– مقتلُ الأسدِ في انفراجِ فخذيكِ. “حطّين” عندي، يا “غزال” الوادي، هوَ في الدّخول إليكِ، دخول الغزاة . .
وانقطعَ الوصلُ بغتةً. ثمّةُ “مُصطفى سعيد”- هذا المخلوق الذي استنشأه الروائي الطيب صالح- تهيّأ ليستعيد مَجداً بآلتهِ في نواحي لندن، وأوزارُ الاستعمارِ ماثلة. دفع بفحولته إلى ساحة العراك الحضاري، فكان الخسران والتراجع. .
…………………………………
قالَ لهَــا، والأثير أضاعَ كثيرَ كلامِه:
– أنتِ غزالي. أستعذب إجفالك كما أسعدُ بهياجِ قلبكِ وجسدِك يتصيّدني في انكساري أمامك.
كانتْ زوجةُ “قلب الأسد” الافتراضي، مومِسَ منسيّةً، وأميرةً صعلوكة.
لا سقف لطموحات قلبِها العاشق وتطلعات جسدها الشبقة. تمنح وقتما تحب، وتمنع وقتما يشاء قلبُها. كتبَ “الأيوبي” في دفترِ الكاتب السرّي:
( رأيتُها في شاشةِ حاسوبي، تتلوّى مِن وَخزِ الشّهوةِ، ترفع قدماً فينكشف السّر. تلعق إصبعاً، فلا يبقى في غاباتِ السِّحر، إلّا عسلُها وأنداؤها. لـ”ريتشارد” حروباته وغزواته، ولامرأته حروباتها وغزواتها. من كان يصدق أن اللبوَة لن تصبر على أسدٍ هصورٍ مثل “ريتشارد”، فتراها تتشهّى جُندياًّ لا حول له في المقاتلة، ولا قدرة في الطعان، ولكنه الأحذق طعناً في الأسرّة. الباترةُ أسيافه في الأجسادِ الرخوة الرَّطبـــة. .؟)
مَنْ يجرؤ أن يستنطق سرَّ التاريخ، وفي بطنِ البحر المتوسّط أسرار الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وأوكتافيوس وأنطونيوس وكليوباترا..؟
يكتب الكاتبُ في دفتره المائي، ومِن وراءِ ظهر الرّاوي:
(هَا هيَ “مها” تتحوّل قبلَ شروق الشّمس، إلى أنثى بمُسمىً آخر. ستكون بعد منتصفِ النهار امرأة ثالثة اسمها “مريم”، ويقيني انها ستتحوّل إلى عدة نساء، ما بين انتفاضة جسدٍ قبيل خسوف القمرِ وهموده، وتتعدّد أسماؤها.
إنّها امرأةٌ في عِدّة نساء. أو عِدّة نساء في امرأة واحدة، مثل العرائس الروسية. تفتح الصندوق وتستخرج عروسة. تفتح ثانية فتجد داخلها عروسة أخرى، وتفتح ثالثة فتجد عروسة أصغر.. تفتح لتجد رابعة، ثُمّ خامسة ..
رأيتها اليَومَ، مُلتهبة كقطعةِ جَمْر، ولكنّها ممسكة بخيوط اللحظة ودواعي الشّبق. تُمسك وتفلتْ بمزاجٍ طاغٍ. لو كانت في غير هذا العصر، لكانت كاهنة في معبد، أو إلهة في مخدعِ عشقٍ مَنسيّ، أو عشتروت في قمة جبلٍ أخفاه الغَيم..
هيَ الأنثَى المُتطلعةُ باقتدارٍ لتمتلك مصائرها، ليسَ لإشباعِ الرّغائبِ الجسدية فحسب، بل لاستقصاءِ أقصى حدود الطاقةِ، تستنطقها في الوجود المُزدحم بالممنوعات وبالمَحاذير وبخطوطٍ باللّون الأحمر مرسومة، فتربحها الحياة ويخسرها الناسُ. قالت لـ”صلاح الدين” الافتراضي وحطّين في حُلم الذاكرة: هيتَ لكَ، ولم تقلها لـ “قلبِ الأسدِ”، فمَن يملـكَ إدانةً لامــرأة العزيــز.. ؟)
نظرَ الكاتبُ في الذي جرَى، ولكنّه عرفَ مَا لم يكن يُعرف قبلاً، وأدركَ ما لم يكن مُدركاً مِن قبل، في أسفارِ الغيبِ، فكتب:
ها هيَ “هنيدة” السَّمراء، وقد وقفتْ كما وقفتْ من قبل في كتب الأسطورة إلهات أنثويات مثل “إيروسا”، وهيَ توخزه ذلك الوخز المتواتر. “إيروسا” هي صياغةٌ مِــن سالبٍ ومن موجـب، تكسب لونين. يحمل كيانها ذلك الرّخو الذي يُوخَز، وذلك الصلب الذي يطعن.. هي كيانٌ في كيانٍ في كيان. هي المدية الطاعنة القاتلة، وهي الجسد الطريّ القتيل . .
قال الرّاوي، في تسكّعه بين الخطّ الأحمر في دفتره، والخطّ الأزرق:
– هو سَفهُ السنواتِ الأخيرة، قبل سويعات مِن الرحيل النهائي. ضحكتْ “بت مجذوب” ? فيما حكى الطيب صالح في روايته تلك عن الهجرة إلى الشمال، وأضحكتْ كهولاً من حولها، ومِن سامعي حكاياتها، يسترجعون خيوطاً تبعدهم من عصف الزهايمر الدّاهم، وتأخذهم إلى أقصَى حُلم في ماضٍ راحل. ثمّةُ من لا يرى إلّا مَا يستوجب إقرار حدود الله، حتى في اللحيظات التي بقيت من أعمارٍ عمَّرت حتى ارتدّتْ طفولة غضّة، وارتوتْ حتى جفّت ذاكراتها وغدَتْ بلا صَلاحيّة. ثمّة مَــن يَجْرؤ على مُحاصرة الحُلم وكسرِ الفكرة، كما تُكسر الّلوزةُ قسراً، فلا تسلم اللوزةُ ولا محتواها. يا لحُمقٍ جَريءٍ جاهلٍ..!
لكنّ الرّاوي استدركَ كيفَ كانت سنواتُ طفولته وصباه. جاءت من ينابيع الوعي الغافي، مثل كلماتٍ مبتورة عن مقاطعها، بلا بداياتٍ وبلا نهايات.
القوْسُ المُنزلقُ على وترِ النّغم، يئنّ ولا يسترجع أنفاسه. في فصلِ الدّرسِ، يكون تلاميذُ الفصلِ إلى انكبابٍ وقراءةٍ صامتة، والمعلّم يتســلّل في أزقـــة الصّمت المُطبق، يتحسّس بأصابعهِ، ويتحرّش مجترئاً متغوّلا. لم تكن قراءة صامتة، بل اعتداءاً صامتاً مكبوتا. لا مَهرب من مَلمسِ الكفّ الّلزج، تتلصّص في استحياءٍ على كتف صبيٍّ في براءة الرؤى. حدّثه عن ذلك الأخطلُ وقتذاك وهو الذي رأى بعينيه ما يفعل ورّاقو دمشق بتلاميذهم الملاح. لكن الصّبيّ صديق الرّاوي، أذعن مستسلما وأظهر رضا وقبولا، فضمن من معلم درس الفقه، أن يمنحه كامل العلامات.
كان المعلّم ذاك، ورّاقاً قدِمَ مِن نواحي دمشق على أيّام الخلافة الأمويّة. .
“المَسكوتُ عنه” – إذاً – قديمٌ قِدم الخلافة الأمويّة ..
=====
[email][email protected][/email]