أخبار السودان

مأزق الفن في مصر السلفية

د. بليغ حمدي إسماعيل

اتفق المتخصصون في مجال الفنون على تقسيمات مميزة للفن عبر عصوره التاريخية، حتى أصبحت هذه التقسيمات متغلغلة في الوعي الجمعي لدى أفراد المجتمع باختلاف ثقافاتهم وأيديولوجياتهم الفكرية، ومن هذه التقسيمات ما عرف بالفن الإسلامي الذي امتلك خصوصية ميزته عن باقي التصنيفات التاريخية للفن عبر العصور. وقصد بالفن الإسلامي ذلك المنتج الذي تم إبداعه منذ الفتوحات العربية للأقطار والأمصار والذي اتسم بطراز إسلامي لم يخل من العمارة ذات الطابع الديني أو المتعلق بالرموز والإشارات الدينية مثل الخطوط العربية والنقوش المختلفة لها، وكذلك رموز خاصة مثل الهلال أو العرائس الصغيرة التي توضع داخل مجسمات وهياكل علاوة على الرسم العثكماني للقرآن الكريم الذي حفلت به كافة العمارة الإسلامية.

ولاشك أن الفن الإسلامي لعب دوراً كبيراً في الحفاظ على التراث المادي للثقافة العربية والإسلامية، فلقد مثل هذا الفن عبر عصوره جزءاً من ذاكرة الثقافة البصرية المرتبطة بتاريخ الإنسان العربي في بيئته، وهذا المنتج العربي الخالص كان يقف وراءه مبدع تشكيلي يتسم بالإبداع والجدة والأصالة، يستعين بكافة الطقوس الإسلامية الفريدة لتغليف منتجه الإبداعي الذي مثل خصوصية فريدة.

ويكفي المرء أن يطالع عملاً فنياً مصبوغاً بإشارات وطقوس إسلامية عربية حتى يتبين طبيعة وكنه هذا العمل، والذي كان يحمل عدة وظائف نفعية وجمالية، حيث إن الإنسان العربي قديماً كان يحتاج إلى الجمال الذي يحقق له ثقة وتميزاً وإشباعاً للوجدان.

ولم يقتصر الفن الإسلامي على الفنون التشكيلية المتعلقة بالمعمار أو الرسم بل تجاوز ذلك ليشمل فنوناً أخرى مثل الموسيقى والغناء وما يرتبط به من غيقاع جسدي يمكننا أن نطلق عليه على استحياء كلمة الرقص، ومن هنا تأتي المشكلة التي قد يواجهها الفن الإسلامي في المرحلة المقبلة والتي تشهد تصاعداً كبيراً للتيارات الدينية السلفية والتي ترى في الفن حرمة وبدعة.

فالكتب السلفية تؤكد على حرمة الفن بل تذهب بفكرها القمعي بعيداً بأن الفن شرك بالله وكفر بين، ومن هذا المنطلق فجميع الفنون حرام لأنها أولاً تلهي عن ذكر الله، بالإضافة إلى أنها من وساوس الشيطان التي تبعد المرء عن ربه، وبشأن فتاويهم دار الجدل الطويل بين المتزعمين لتكفير الفنون، وبين المستنيرين من رجال الدين الذي لا يرون حرمة أو شركاً في الفنون التي تبعث الجمال بالوجدان وليس من شأنها أن تبعد المرء عن ربه في عباداته وفرائضه المكتوبة.

ولكن تجد في سياق الكتابات السلفية من يشير إلى وجود ما يسمى بالفن الإسلامي ولكن متجنبين كلمة الفن ليضعوا مكانها كلمة عمل، وهم يقصدون بالطبع العمارة الإسلامية التي تتمثل في النقوش والزخارف والرسوم المجردة من التجسيد، لذا فلا وجود للأنواع الأخرى من الفنون التي ارتبطت بالفن الإسلامي مثل الرسم والنحت والموسيقى وأخيراً الغناء أو الإنشاد.

ولا يستطيع منكر أن ينسى الدور الذي لعبه الفن الراقي البعيد عن المشاعر الرخيصة المبتذلة، حين ساهم في تأجيج مشاعر المصريين للمشاركة في ثورتهم الشعبية، وكم كان الفن باعثاً لاستمرارية الثورة ورغم ذلك الحضور الطاغي للفن لم نجد ساعتها من أولياء التيارات الدينية من يحرمه أو أن ينكر دوره بالقول أو بالفعل.

لكن، ماذا يحدث لو غيرت مصر وجهتها المدنية وسقطت في أيدي التيارات الدينية المتشددة؟ هذا سؤال لابد وأن يطرح استشرافاً لمستقبل قد يبدو غامضاً بعض الشيء، ولا يستطيع شخص أن يتنبئ بإحداثيات هذا الوطن في ظل حالات الالتباس والغموض التي تعتريه. فهل حينئذ سيتم القضاء على هذا الرصيد التاريخي للفن في مصر؟ وحينما أتكلم على الفن لا أشير إلى الفنون الاقتصادية تلك التي تستحوذ على ما في جيوب المصريين من نقود مثل السينما والغناء التجاري والمسرح الاستثماري، بل الفن في منحاه غير الاقتصادي مثل الرسم والنحت والأشغال الفنية والفنون الشعبية والموسيقى التي لا تستهدف الربح ولا تقيم عماد ما تقدمه على تجارة الجسد الرخيصة.

وهؤلاء المنتمون لهذه الفنون الجميلة بالطبع يعانون من أزمة الاستبعاد الاجتماعي من الأساس فلا تراهم في برامج التوك شو، وربما تجاهلهم التليفزيون الرسمي لعقود طويلة اللهم سوى استضافتهم في أوقات عادة ما يكون جهاز التلفاز مغلقاً كساعات العصر المنسية، أو بعد الثالثة صباحاً، وبالتالي لن يشاهد الفنان سواه منفرداً بالجلوس على مقعده.

ولعل ما شاهدنا على سبيل المثال في الإسكندرية من تغطية لبعض التماثيل التاريخية في إحدى اللقاءات الدينية لأحد مشايخ السلفية لهو خير دليل على مستقبل آت، يحرم فيه الفن الجميل، ولست أدعي رغم كوني متخصصاً في الدراسات الإسلامية بأن وجود تلك التماثيل وغيرها لا تدخل في باب التحريم من منطق الاجتهاد، أولاً لأننا لا نعبد مثل هذه التماثيل والحمد لله منذ بزوغ الإسلام، ثانياً أن هذه الأعمال الفنية هي خير شاهد على حقبة تاريخية مرت واستقرت بمصر المحروسة وجزء من ماضيها الذي لم نشاهده رأي العين.

وإذا كان المنتمون للتيارات المتشددة دينياً يدركون أن هناك وجوداً لا يمكن طمسه اسمه الفن الإسلامي، فكيف يجوز لهم بعد ذلك طمس معالم هذا الفن الذي كان ضمن سياق الحضارة الإسلامية في أزهر وأزهى عصورها، وتكفي شهادة عالمين أثريين هما دوجلاس بريور وإيملي تيتر حينما أكدا انفراد المصري في صبغ جميع ألوان الفنون، وأن الهوية المصرية العربية تبدو ثابتة في كافة الفنون التي أنتجتها الحضارة الإنسانية.

وإذا كنا غير مشاركين للدولة العثمانية حينما قررت أن تنقل الصناع المهرة إلى الأستانة لتشييد حضارة عالمية هي تركيا الآن، فإننا نبدو الآن أكثر تخاذلاً حينما نصمت ونحن نرى بعض مظاهر القمع تجاه الفن الراقي النظيف والبعيد عن الابتذال والعهر.

وإذا كان النظام السياسي البائد قد تفنن في استكمال مسلسل نهب آثار مصر وتهريبها إلى معارض وصالونات الآثار بالخارج مقابل حفنة دولارات هم بعيدون عنها الآن، واشترك في سرقة اللوحات الفنية التاريخية، وانتهى بتوجيه أصابع الاتهام نحوه بحرق المجمع العلمي المصري في القاهرة لكي يكفل عملية تنسيق ونشر الأبحاث العلمية، ذلك المجمع الذي أسسه نابليون بونابرت بمشاركة مائة وخمسين عالم في مختلف تخصصات الجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ والحيوان والنبات والطب وأخيراً اللغويات فكيف يجوز لنا المشاركة في سحق تراث فني نعجز عن إتمامه وإنجازه في هذه الأحايين المحمومة والمضطرمة سياسياً؟

ميدل ايست أونلاين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..