انتكاسة التعليم العالي

قبل 25 سنة وبعد مجيء حكومة الإنقاذ بشهور قليلة جاءت بمشروع أسمته ثورة التعليم العالي، كان الهدف منه زيادة عدد الجامعات والطلاب فقط، ولم تضع أي هدف آخر في اعتبارها فلم تكن لديها رؤية مستقبلية تعطي التعليم العالي قدره كواحد من ركائز نهضة الدولة والمجتمع، انبهرت بالكم وأهملت الكيف فكانت نتيجة تلك الثورة بعد ربع قرن صفر كبير، أما البحث العلمي فلم يكن له وجود إلا على الورق.
حين كثرت الشكوى من المشاكل التي سببتها تلك الثورة بعد سنوات قليلة من انطلاقتها، كلفت الحكومة لجنة برئاسة بروفيسور التنقاري لتقييم التجربة، توصلت اللجنة إلى نتيجة محزنة وكشفت عن مدى الدمار الذي انحدر إليه التعليم العالي خلال سنوات قليلة، تقرير اللجنة أكد بالبراهين والأدلة أن حالة التعليم العالي حرجة وتحتاج إلى مراجعة وإلا فإنه سينتهي، الحكومة لم تر في تلك الثورة عيب حتى تنفذ توصيات اللجنة وتقوم بإصلاح أماكن الخلل، ضربت بذاك التقرير عرض الحائط وسارت في طريقها لا ترى في تلك الثورة إلا انجاز تفتخر به، بل وفتحت أسواق للاستثمار فيه التعليم العالي ودون الاهتمام بأدنى المعايير التي تجعل التعليم العالي يساهم في نهضة البلاد.
وزارة التعليم العالي ستقيم خلال هذا الشهر ثلاثة فعاليات هي : مؤتمر التعليم العالي تحت شعار “التعليم العالي والبحث العلمي أساس النهضة”، و”ملتقى تقويم تجربة كليات ومراكز تنمية المجتمع”، و”معرض الكتاب الجامعي” .
الوزارة تقوم بهذه الفعاليات في ظل تراجع كبير في أداء الجامعات والمعاهد العليا لدرجة أن أصبحت تخرج أنصاف متعلمين، فأعرق الجامعات السودانية تتذيل الجامعات العالمية والعربية والأفرقية في التصنيفات العالمية التي تعتمد على معايير جودة التعليم وإنتاج البحوث، ولم يعد للجامعات السودانية دور في المجتمع، بل أصبحت مجرد مظهر اجتماعي ومكان يقضي فيه الشباب سنوات من أعمارهم ثم يحتفلون بتخرجهم بأساليب جديدة لا تليق بمستواهم التعليمي لتنتهى الرحلة بصورة دراماتيكية لا يحمل منها الطلاب إلا صور وفيديوهات تذكارية ثم تتفرق بهم الدروب دون أن يفيدوا الوطن فتراهم يرحلون زرافات ووحدانا .
ويبدو أن الأمر فعلاً شعار، فما فعلته الحكومة في التعليم العالي والبحث العلمي خلال الربع قرن الماضية تسبب له في شلل إعاقة عن المساهمة في النهضة التي توقفت يوم وصلت الإنقاذ إلى كرسي السلطة ليس في التعليم فحسب، بل في كافة المجالات.
وزارة التعليم العالي قبل أن تقوم بهذه البرامج عليها أن تعيد النظر في جودة التعليم العالي ورفع مستوى الجامعات المتدني ودعمها لتساهم في إنتاج البحوث والدراسات، بل عليها أن تمنح الجامعات مكانتها في خارطة الدولة كمؤسسات قادرة على توجيه سياسات الدولة، حتى تصبح قادرة على الإسهام في النهضة فعلياً وليس بالشعارات، أما الآن فهي تكذب أن قالت: إن التعليم العالي يساهم في النهضة، ففاقد الشيء لا يعطيه.
وزارة التعليم العالي يبدو أنها هي نفسها من تحتاج إلى إعادة تقييم، لتنهض بنفسها وتصبح قادرة على إخراج التعليم العالي من قبضة الحكومة وسوق السياسة الذي جعله سلعة تباع في الأسواق مما عرَّضه لانتكاسات كبيرة ومستمرة، عليها أن تقف هنا ألف مرة قبل أن تفعل أي شيء.
التيار