وقائع موت مبكر

في صباح ذلك اليوم و في تلك الساعة شدخ الفضاء الهاديء صوت ضحكة باذخة انيقة ‏معطرة بأريج اشجار الليمون اليانعة لتستقر في آذان متيقظة.لكنها لم تتبين مصدره و لم ‏تعرف كنهه. انسلت تلك الضحكة من ذلك الفم الذي سرعان ما أغلقته يدها اليسرى ‏خشية أن يفتضح ما وراءه . تلفتت يمنة و يسرة في خوف و هي تتكئ في فراشها ‏الدافيء في ذلك الظل البارد في خلفية الدار‎
تلك كانت واحدة من المداعبات الخفيفة التي تجعلها تحلّق و لو دقائق فوق آفاق تنسّيها ‏سجنها و دوامة عملها الممل و تطير به فوق أحلامها المسدودة الأفق. كانت تتكئ على ‏ذراعها و هي لم تقم بعد من تأثير أحلامها العابرة و قد نضدت ثيابها في استرخاء. ‏أغراها عدم وجود أي فرد من أفراد الأسرة في تلك الساعة‎. ‎فاستدعت ذاكرتها طيف طالما ‏زارها و لكنها كانت تصده و هي مكرهة. كانت تصده و هي تكوّم الثياب للغسيل، تصده ‏و هي تقشر البصل أثناء الطبخ و أثناء إعداد الشاي أو العصير لسيل لا ينقطع من ‏الضيوف و الزوار و أصحاب الحاجات‎.
كانت عيونها لا تستقبل النوم إلا بعد أن تنقطع جميع الأصوات في ذلك البيت الواسع. ‏و بعد أن ينقطع الحديث و الضحك في لهاة المتسامرين و بعد ان يسحب الكرى دثاره ‏على الأعين التعبى الساهرة و بعد أن تنعس الحيوانات الأليفة و الطيور الداجنة و ‏الحشرات التي تقلق المنام .إذا كانت هي آخر من ينوم في ذلك البيت باستثناء كلب ‏الحراسة الضخم ذو الفك الضخم و الاذنين الطويلتين. و في المقابل كانت أول من ‏يصحو إذ لم يكن نومها نوم و لا حتى صحوها صح. فقد كان النوم يستدعيها عدة مرات ‏قبل أن تستجيب. و حتّى حينما تجيء للسرير لكي تنام كانت تعرف أن الساعات القليلة ‏التي ستنامها لن تكفيها لمقابلة شقاء يومها السابق أو يومها التالي‎.

كانت (فاطمة) و كان ذلك اسمها الذي اختاره لها سيدها او ابيها كما تطلق عليه مجازا ‏حينما تبناها بعد وفاة والدتها كثيرا ما يمر بخيالها طيف والدتها العزيزة.و تتذكر لحظات ‏فراقها الأبدي لوالدتها. كان ذلك قبل عشرة اعوام. كان عمرها هي ثمانية سنوات، وكانت ‏والدتها هي من تقوم بمهام العمل في المنزل. في تلك اللحظات كانت تجمع الملابس ‏القذرة و تكوّمها استعداد للغسيل. فتحت الماء لها كما طلبت منها والدتها. و تفاجأت ‏حين رجعت بان وجدت والدتها مستلقية على جنبها الأيسر و يداها مبسوطتان و رأسها ‏يميل للخلف. تفاجأت لهول المنظر و هي انحنت و هي تنادي عليها في توسل أليم: ‏امي! امي‎! ‎انهضي‎! ‎لم تستجيب لندائها اليائس المستجدي….. و لكن لا فائدة. ثم ‏أعقبتها صرخت مكلومة فجاءت جاءت ربة المنزل و بقية أفراد الأسرى مفزوعين. و كان ‏سلك الكهرباء اللعين لا يزال ملامسا للماء المتجمع من الغسيل الذي كانت تقوم بها ‏أـمها.سرقت الكهرباء في لحظة إحساسها بالأمن و الحنان و الاطمئنان. و ذهبت والدتها ‏و تركتها تكابد العذاب و الملل و تقاسي الإحساس باليتم و الضياع. كانت تتذكر كيف ‏كانت أمها طيبة و صبورة و جميلة الملامح حتى اجمل من سيدة الدار‎.

ماذا لو كانت امها عائشة؟ لربما كانت تجد الفرصة لكي تواصل تعليمها الذي انقطع ‏منذ السنة الثانية. و لربما كانت لا تلجا للعمل في هذا المنزل و لربما لم تكن تكابد ما ‏تكابده من مشقة و رهق و سهر و تعنيف و شدة من سيدة الدار أو من بنتها الكبرى‎.
و كان (هو) هو الإبن الأصغر كان مدللاً، كان طويل القامة وسيماً و معجبا بنفسه ‏مولعاً‎. ‎لكنه كان كثير الطلبات مولعاً بإلقاء الأوامر، و مرهقة. أصدقاؤه كثيرون و ‏ضيوفه كذلكو بالتالي طلباته كثيرة. الملاحظ أنه بدأ في الاونة الأخيرة يغيّر من أسلوبه ‏معها و بدأ أكثر لطفاً من ذي قبل. قبل شهرين فقط ، بدأ لأول مرة يشعر بها كأنثى ‏حيث تنبّه فجأة لتغييرات بدأت تزيّن جسمها حولّتها في ناظريه فجأة من شغالة إلى أنثى ‏مشتهاة.تغييرات في مشيتها و في صوتها و في إنحناءات و نتواءات و استدارات و ‏تجاويف و بروز أنوثة طامحة تطل برأسها معلنة عن مكامن الشهوة الجديدة و عن موارد ‏أثيرة للرواء. فكان هو أول من تلقّف هذه البشائر المبكرة و أول من التفت إلى تلك ‏التغييرات المثيرة و لم تكن تلفت نظره من قبل. فصار يتوقف قليلا ليتساءل عن سر تلك ‏النشوة التي صار يشعر بها و هو يطالعها و هي واقفة أو جالسة أو منحنية. و .. ‏اختمرت الفكرة في رأسه‎.

كان صباح اليوم يحمل لها الكثير. اندلقت تلك الضحكة الناعمة من فمها في الأثير ‏فمرت خافتة في تلك الساعة دون أن تنتبه لها آذان مترصّدة أو قلوب متيقّظة. انسربت ‏تلك الضحكة رد فعل تلقائي لكلمة معسولة المنغمة الماكرة الخادعة المضمغة بالخبرة و ‏الدراية و الممعنة في الفجور و المتعة غير البريئة من فمه الذي خبر كيف و متى يتفوّه ‏بها.و اخترقت الكلمة المنمقة المدربة و انسابت في طريقها إلى أذن صافية و رائقة في ‏تلك الساحة و انسربت من الأذن إلى الخياشيم و منها الأوردة و الخلايا فصحا القلب و ‏تنبّهت المشاعر و تدفقت هرمونات و تسارع دقات القلب و فاحت نشوة ضاقت بها ‏عيونها صبوة و احتلبت ذاكرتها كل خزين الأشواق الذي كانت تكنّه منذ أعوام. و مرّت ‏تلك النشوة على ذلك الجسم المثير الوثير المنسي فاهتز و ارتج وانتصبت أعضاؤه و ‏تنبهت حواسه‎.
أما هو فقد تلفت دماغه ذاك العنيد في حركة آلية يمنة و يسرى للتأكد من أنه لا احد. ‏كان ابوه يرقد في سريره في شبه إفاقة، او فلنقل في شبه صحو، لا يهم فهو يكون ‏مستيقظاً يبدو كالنائم و هو يمسك مسبحته مستغرقاً في ملكوت الدعوات و توقعات ‏الاستجابة‎.
مرت الأيام و الأسابيع و هو يجتر في لذة ذكريات تلك الساعة عدة مرات في اليوم و ‏هو لاهي و هادئ البال. أما هي فكانت إذ تستعيد نشوة تلك الساعة و هي غارقة في ‏شغلها الذي لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد تطرد شبح قلق وليد بدأ يطل برأسه و يزداد يوماً ‏إثر يوم‎.
كان النسيم الفجري البارد قد اعتاد أن يغشى ذلك الدار كل يوم هامساً في دجى الليل ‏المتواري في فضاء الكون، و ينادي في صبح الطيور و الديكة ليوقظها من نومها ‏الخفيف لتبدأ يومها بصياحها المنبّه المقدّس. و يمر النسيم الصباحي البارد كذلك ليمس ‏الضان و الماعز مسا خفيفا و هي واقفة أو جالسة او راقدة على جنوبها فتستيقظ من ‏سباتها الوثير‎.
أما هو فقد كان هو وحده من بين تلك الأحياء من لم يوقظه ذاك النسيم و لا الشمس ‏الزاجرة و لا صحو الطيور و لا استفاقة الحيوانات و لا صوت المؤذن و لا حتى نداء ‏بائع الحليب الطازج الذي يأتي متأخرا. كان الصحو يستعصي عليه لطول السهر. و ‏لأنه يغالب الصحو بما يكفي من غطاء يسد به على تلك الأصوات المنبّهة كافة المنافذ ‏بحيث تصل واهنة رقيقة أمام نومه الغليظ‎.
صحا ذلك اليوم مبكرا على غير العادة. اغتسل و استعد و ذهب متلصصا على أطراف ‏أصابع قدميه.اختار وقتا مناسبا والده نائم بعد صلاة الفجر و إخوته الصغار ذهبوا ‏للمدرسة و أخيه الكبير ذهب للعمل مبكرين كالعادة و تبقت فقط الدته هي الوحيدة ‏المستيقظة يقلل من خطورة استيقاظها قلة حركتها و ثقل السمع. منذ يومين أعد العدة ‏لكي يستمتع بذلك الجسم الطازج الفتي الدافيء. كم مرة ألح و لم تستجيب من المؤكد ‏أنه لا مانع لديها لكنها تخاف الآخرين و العواقب. اليوم يوم مناسب و الساعة مناسبة و ‏الظروف أكثر من مناسبة. تسلل في هدوء تحفه شهوته المشتعلة و فوران رغبته الجياشة ‏و جرأة لا بد منها لكي ينال ما يشتهي‎.
دقائق سريعة و كان بقربها في السرير مطبقا شفتيه في عناد. كانت أعضاؤه في أوج ‏تيّقظها. ….و استسلمت هي في لذة مباغتة لم تجد منها بد من الاستسلام. في تلك ‏اللحظات لم يكن قلبها فقط يضخ الدم الفوار الساخن في خلايا جسمها و يكاد أن يخترق ‏جدران الشرايين بل كان طبل يدق على جدار الصدر في عنف يكاد يخرق الضلوع. ‏داهمتها في لحظة شهقة قصيرة مفاجئة. لكنها سرعان ما توارت وراء خدر مدغدغ و لذة ‏عميقة تغلبت على ردة فعلها المندهشة. كانت تلك تجربته البكر الأولى، فتدفقت في ‏ارض شبقها البكر ما رشح من نبع شهوته الطامحة و منجم شهوته البكر بدأ دافقاً في ‏عنفوانه ثم … ثم اعقبه خمود فاتر الدفق………..و انسل هو متهالك الجسد خائر ‏القوى و تركها تلملم بقايا لذتها في تراخي و خدر واهن. و …..ظلت هي في استكانتها ‏إلى أن هدأ بركانها. و ظلت في غفوتها المستسلمة تلك ثم اعقبتها افاقة هزتها من ‏لتستيقظ مفاجئة و قصيرة على لحظة يقظة أرعبتها‎.
بعد أن نهضت من رقدتها تلك و سوت هيئتها ذهبت لتطمئن على أن ما تم قبل دقائق ‏لم يشهده و لم يسمع به سواهما. غسلت بقايا اللذة التي هربت منها سريعا قبل أن ‏ترتشف منها ما يكفيها.و عندما أكمل الصباح صحوه كانت قد اندمجت في جدول ‏أعمالها اليومية كأن شيئا لم يكن‎.
مرّ يومان و كانت تسرح في ما حدث تجتر ذكرياته في لذة ممزوجة بالخوف و ‏الإنزعاج. حكت ما حدث لصاحبتها و رفيقتها في العمل في المنزل و التي سبق لها ‏الزواج قبل أن يتوفى زوجها و تلتحق بالعمل معها بالمنزل. مرت أيام و أسابيع و بدأت ‏ثمرة الشهوة في النمو و بدأ يغزو هدوء و رتابة حياتها الهواجس و المخاوف. أما هو ‏فقد انتقلت إليه توابع سرحانها المتكرر و قلقها البادي فلم يستكين و لم يرتاح طيلة ‏الأسابيع الفائتة. تحرك يمنة و يسرة و استشار الرفاق و الصحاب و لم يروى ذلك غليله ‏و لم يقنعه‎ . ‎فالحلول جلّها صعبة و كلها غير مأمونة. فاتحته في الموضوع و هو عالم ‏به و أشارت إليه بأن يجد الحل. فكان ذلك يزيد من إنزعاجه و تشوّشه. أما هو في هذه ‏الأيام فكان لا يجد في النوم ملاذاً آمناً و لا لذة آسرة كما كان من قبل،بل صار يجد فيه ‏مهربا واسعا و ملجأ امينا للهرب و التخفّي‎ ‎‏.‏‎
و في صباح لا يختلف عن باقي صباحات أيام الله كانا أمام أحد المنازل يسبقهما خوف ‏و أما هو كان يرى أن اليوم سيحمل له الحل و الراحة . كانت هي رغم خوفها الغامض ‏و ترددها تجد نفسها مساقة مضطرة لحل لا يوجد في أفقها المحدود غيره‎.
جاء من في يده مفاتح الحل مد يده و استلم المبلغ، المبلغ الذي ادخرته لشهور من الكد ‏و السهر . مدت يدا معروقة خالية من مظاهر النعومة و الرقة يد طالما أطعمت و ‏سقت و غسلت و رفعت و أنزلت‎.
جلست على اطراف المحفة العالية و قلبها ينبض بالقلق و هي ترى المكان مزدحم ‏بالمعدات الطبية و الشاش و زجاجات العقاقير‎. ‎نظرت يمنة و يسرة في حيرة.طلب منها ‏ان ترقد .تذكرت أمها الحنون يا ليتها كانت معها. فمن يحيطها بالعطف و الحنان بل ‏بالخوف ، أي الخوف من المجهول‎.
استسلمت في رقدتها و مدت يدها لحقنة المخدر. ثواني و انساب المخدر في عروقها ‏المستسلمة كدبيب النمل. و سرى ببطء إلى أوعيتها و شعيراتها الدموية و انساب في ‏كيانها خدراً و راحة،راحة عميقة الراحة التي لم تذقها منذ سنوات. مرت الدقائق بطيئة و ‏اليد المدربة تعمل و القلوب الواجفة تنتظر و الدقائق تمر متثاقلة و متمهلة . بعد هنيهة ‏تم اقتطاع الثمرة المحرمة. الثمرة التي نمت في غفلة من الجميع و نمت رغماً عن ‏الجميع فذهبت غير مرغوب فيها أو في قدومها.كانت فاطمة ترقد و ملامحها تفيض ‏بالهدوء و قد تحس بانتهاء القلق الذي أقضّ مضجعها طيلة الشهور الفائتة‎.
مرت الدقائق و السكون يحيط بالمكان في صمت قاتل. و سرت السكينة الباردة الناعمة ‏في صمت أطرافها التي لم تعرف النعومة و لا السكينة. أخيراً جاءت تسعى إليها ما ‏كانت تطلبها من قبل و لم تجدها. جاءت الراحة لتعلن في حسم انتهاء سنوات الإرهاق و ‏العذاب و المعاناة و القلق‎. ……….
‎..‎ثم‎ ….‎
راحت في سبات…طويل

و راحة … أبدية..‏‎.‎

محمد عبدالله الحسين
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..