عندما ينقلب السحر على الساحرالنظام السودانى نموذجا (-2)

النظام السودانى وفى سبيل إستمراريته على دفة السلطة والثروة برع وتفنن فى إبتداع وسائل وأنماط عديدة إستمد بعضها من أنظمة مشابهة وبعضها هى صناعته الخالصة والتى أهلته لها تجربة إمتدت لما يناهز العقدين ونصف من الزمان مكنته من الإمساك بمفاصل السلطة والثروة وتسخيرها بلا أدنى وازع أخلاقى أو وطنى. .
لننظر كيف إستطاع نظام الإنقاذ فى مراحله الأولى تجييش العواطف والعزف على وتر الاشواق الماضوية وبث خطاب حماسى ظاهره أن هيا على الجهاد ونصرة الدين وهزيمة (قوى الإسنكبار) و جوهره التمكين والإستحواذ على السلطة والثروة وهى مسألة لم تعد محل إنكار فقد أجاب أحد قيادات النظام وهو السيد ربيع عبدالعاطى فى برنامج حوارى باحد الفضائيات العربية أن التمكين بهذه الشاكلة هو مفهوم أصيل فى الفكروالممارسة الإسلامية ودلل على ذلك بالآية الكريمة (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ …..الخ) .وبالطبع فقد إستخدم الآية وكعادة الإسلاميين فى غير سياقها لينفذ الى القول بأن الحركة الإسلامية فى السودان كانت مستضعفة كما كان حال المسلمين قبل الهجرة الى المدينة المنورة وبالتالى فليس ثمة جرم أو خطأ فى أن تتحول مؤسسات الدولة الى ضيعات وغنائم للإسلاميين من أمثاله دون إكتراث لأى معايير قيمية أو مهنية أو ركون لإحتجاجات شركائهم فى الوطن فمفهوم الوطنية عند هؤلاء هو مفهوم ملتبس ومطاطى يتم تكييفه بحسب ما تقتضيه المصلحة والتى هى بالطبع مصلحة أهل النظام وليس الوطن أو المواطن بأى حال من الأحوال .
نشطت الآلة الإعلامية لنظام الإنقاذ مبكرا فى توجيه بوصلة الدعاية للحرب الأهلية التى كانت تدور رحاها بجنوب الوطن من خانة صراع على السلطة والثروة الى جهاد من أجل رفع راية الدين ونصرة الإسلام عبر برنامجها التلفزيونى الشهير الذى كان يتم إعداده فى فرع التوجيه المعنوى بالقيادة العامة وبالإستعانة بمراسلين حربيين وعدد من كوادر الحركة الإسلامية ممن برعوا فى التلاعب بعواطف البسطاء والسذج وإستغلال حالة الفراغ الثقافى والعطالة والإحباط لجذب الشباب الى أتون المعارك تحت زعم الشهادة والتبشير (بالحور العين ) وذهب هؤلاء الى أكثر من ذلك عندما حولوا مآتم وسرادق عزاء من قتلوا فى تلك المعارك الى ما اسموه (بعرس الشهيد ) !ودبجوا القصائد والأشعار الغنائية وإستعانوا على إكما مهمتهم بسرقة ألحان غنائية جاهزة . هذا البرنامج التلفزيونى والذى كان يتم إعداده بحرفية شديدة لم يدخر أصحابه حتى الإستعانة بقصص (الكرامات ) المزعزمة فى محاولة لإستلهامات كاذبة ترمى الى الإيحاء بأنهاكانت معركة بين حق وباطل , إسلام وكفر . حظى البرنامج بدرجة مشاهدة عالية تجاوزت الحدود الى دول مثل تشاد ونيجيريا وغيرها وقد شاهدت بنفسى إبان تلك الفترة كيف أن النيجيريين فى (مايدوقرى ) و (كانو) ومدن أخرى كانوا يقبلون على شراء أشرطة الفيديو الخاصة ببرنامج (فى ساحات الدفاع) وللمفارقة فإن نيجيريا الآن وتحديدا فى هاتين المنطقتين ترزح فى حمامات من الدماء بسبب ما تسلل إليها من هوس دينى وجد بذوره الأولى فى التجربة السودانية الإسلاموية التى فتحت الباب واسعا لحالة إستقطاب إسلامى مسيحى وعربى أفريقى .
الحالة النيجيرية تشبه كثيرا الحالة السودانية من حيث البنية السكانية الإجتماعية والثقافية المتنوعة ومن حيث تقلبها بين أنظمة ديمقراطية وأخرى إنقلابية ونيجيريا أيضا فى شقها الإسلامى يحكمها المزاج الصوفى حيث يتبع السواد الأعظم من مسلميها الطريقة التجانية وهى واسعة الإنتشار فى السودان وبصفة خاصة غرب السودان . كثير من المؤرخين يشيرون الى أوجه الشبه بين دولة الفولان فى شمال نيجيريا ودولة الفونج فى سنار من حيث أن الدولتان قد جنحتا تاريخيا الى خلق حالة من التسامح والتصاهر والتعايش السلمى بين المكونات الوطنية المختلفة . ليأتى السؤال الآن كيف إنحدرت الأوضاع فى البلدين الى هذا الدرك الذى أصبحت أهم مفرداته هو العنف والقهر وأنهار من الدماء تسيل ؟
السودان بموقعه الجغرافى وخلفيته الحضارية والتاريخية كان يمكن أن يكون مؤهلا ليلعب الدور الأهم فى التأثير الإيجابى على محيطه الإقليمى فى وسط وغرب وشرق أفريقيا وتجسير الروابط التى يمكن أن تكون كفيلة بتحقيق الإستقرار فيها عبر تقديم النموذج الأفضل لإدارة التنوع والذى يمثل السمة المميزة لمعظم دول المنطقة , ويدرك كل من سافر زائرا الى مناطق الغرب الأفريقى مدى تاثير الثقافة السودانية على تلك المناطق وكيف أن حاجز اللغة لم يمنع شعوبها من الإقبال على كل ماهو سودانى من غناء وموسيقى ومسرح ولا يتوقف الأمر على دول مثل تشاد ونيجيريا وأفريقيا الوسطى بل يتجاوزها الى بنين وتوجو و مالى والسنغال ..الخ .
تعامل نظام الإنقاذ مع هذا الواقع تعاملا إسستعلائيا فتدخل فى الشأن الداخلى لكثير من دول المنطقة من جيرانه بدعمه لبعض حركات التمرد مثلما حدث مع أثيوبيا ولا حقا أرتيريا وبشكل أكثر سفورا فى تشاد الأمر الذى قاد لأول مرة فى تاريخ البلدين الى قطع كامل للعلاقات تم تداركها لاحقا لضرورات تتعلق بمصلحة النظامين .
النظام السودانى وفى إطار رغبته الأممية والأمنية فى التمدد فى دول القارة وفتح قنوات تواصل عمد الى إستغلال وسائل أخرى فأحال مؤسسة تعليمية مثل جامعة أفريقيا العالمية والتى بدأت كمبادرة شعبية فى العام 1977بإسم (المعهد الإسلامى الأفريقى) على مستوى المرحلة الثانوية والمتوسطة ثم توقف ولكن حكومة السودان فى العام 1986 قد أقدمت على تطويره من (المركزالإسلامى ) الى جامعة أفريقيا العالمية بمساهمة عدد من الدول عبر مجلس أمنائه فى الدعم قبل أن يأتى نظام الإنقاذ على دفة الحكم ليحيل الجامعة الى أحدى ثكناته فى نشر الفكر الإسلاموى الإخوانى ويستخدمه كأحد وسائل الإستقطاب ويضع إدارته تحت إمرة كوادره المخضرمة . هذه المؤسسة التعليمية كان من الممكن أن تلعب دورا رياديا فى نشر ثقافة التسامح وفى بلورة الدور المطلوب أفريقيا وعالميا ولكن هيهات مع أهل التمكين .
النظام السودانى أيضا أجهض فرص كبيرة كان مواتية لربط السودان عبر طريق برى بتشاد والذى كان بدوره سيربطنا بكامل الغرب الأفريقى ويدر علينا عائدا إقتصاديا مقدرا فتشاد مثلا دولة ليس لها منفذ على البحر وبترولها يتم تصديره بكلفة باهظة عبر خط أنابيب الكاميرون هى المستفيد الأكبر منه وهى مضطرة لإستخدام موانى الكاميرون ونيجيريا وبنين فى غياب الطريق البرى الذى يربطها بالسودان . هذا طبعا بجانب ما يمكن أن يساهم فيه هذا الطريق من تعزيز الرباط الثقافى والإجتماعى بين دول المنطقة و كذلك تعزيز فرص الإستقرار الأمنى .
قيل أن أحد المتنفذين فى الإنقاذ عندما تحدث معه البعض بشأن الطريق البرى قال لهم ساخرا : ( والله كان سوينا ليهم الطريق ديل حيجونا بالعجلات ويملوا لينا الخرطوم ) . نعم هذه هى ذهنية الأسلاميين والتى لا تتوانى فى الكشف عن عنصريتها البغيضة التى (تخشى من الحزام الأسود ) بتعبير د. حسن مكى فتعمل حثيثا على التمكين (لمثلث حمدى ) لأن مادون ذلك سيدخلها فى حسابات تقلص حظوة السلطة وتصيب ثروتها بالضمور .
نواصل

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..