مقالات سياسية

عفيف إسماعيل.. يا لك من شاعر ..

تكتب قصيدة النثر على أصولها.. تكتبها بشهية وإتقان ودون أن تتصنع ? كما يفعل الكثيرون والكثيرات – ذلك الغموض المقيت الذي يحاول أن يوهمنا بعمق غير حقيقي وغزارة لا وجود لها.
قصيدة النثر هي أقصى درجة من الحرية تتاح للشاعر العربي ولكن تحت اشتراطات قاسية فهي إذ تحرر الشاعر من الأوزان والقوافي وتتيح له امكانات التدفق والخوض في أدق الجزئيات فإنها تتطلب منه أن يملأ القصيدة بالصياغات المجنحة والتراكيب المجددة واللغة الغنية الموحية وتتطلب منه أن يكون جريء الخيال يصطاد ويسطر علاقات نائية بين الأشياء (كل الأشياء من العلاقات البشرية إلى اقباس التاريخ إلى الأجرام السماوية) وبالإضافة لكل ذلك تلزمه بإيقاع لغوي (إيقاع وليس وزنا عروضياً) يعطي القصيدة انسيابيتها وغناها وفي اعتقادي أنك قد وفيت ياعفيف إسماعيل بكل تلك الاشتراطات وربما زدت عليها. وفي اعتقادي أنه منذ رحيل الشاعر السوري محمد الماغوط لم يأت من فرسان قصيدة النثر من يستطيع الوقوف إلى جانب قامتك الفارعة. وأرجو أن لا تعتبر أن قولي مبالغة أو مدح أو تقريظ أو مجاملة لك إذ أن الوفاء بالاشتراطات الفنية شيء أولي وبسيط والإتقان والتفوق شأن آخر وهو ما يشبه قول النقاد القدامى في التفريق بين الناظم والشاعر. فليس كل ناظم شاعراً ولكن كل الشعراء(العموديين) نظامون ماهرون. بعد فراغي من قراءة عملك الشعري دخلت معك إلى عوالم مختلفة ذات إشعاعية مغايرة فيها أنبياء يسوقون أمامهم قطعاناً من اليمامات وكرة أرضية تضع أصابعها في حلقها وتتقيأ حمولتها من البشر. رأيت خفافيش يتيمة وظلالاً نعسانةً وملائكةً شديدة النصوع وحناناً صارماً ورأيت “قردة تتدلى من الأغصان مثل ثريات داكنة” وشخصاً “عارياً إلا من البكاء يتعلق بأستار بيت الله.” وكلها من تصاويرك التي علقت بذاكرتي، ثم نزلت معك إلى كوكب الارض ومضيت اشاهد وأشاهد إلى أن وصلنا إلى دارفور حيث رأيت:
بيوتا كئيبة الجدران
بلا ابواب خلفية
ثم أيقونة معلقة
وتحتها على بلاط الغرفة المعتمة
دماء خضر
ثم أطفالا من دارفور
مثل هياكل عظمية سمراء في لوحة سريالية
يتقاذفون جمجمة مثقوبة بين أرجلهم
ويغنون للمطر
لقد جعلت دمي يتجمد في ربيع كاليفورنيا الوديع ومضيت معك إلى مزيد من ساحات المجازر وأنت “تفنِّط” الآلام:
اذا رأيت وأنت مغمض العينين
صورة طفل
يرضع ثدي أمه الميتة
فاعلم أن هذا الشقي
من دارفور
خلال سياحتي في أنحاء هذا الديوان تعلمت أن آخذ حذري من سطرك الأخير أعني السطر أو السطور الأخيرة في بنية القصيدة حيث تدخر لنا في معظم الأحوال مفاجأة من هذا العيار:
حين أفاق الحوذي/ تمتم هامساً: حمدا/حمدا/لعناية الاله العالي/ الذي سحق ذراعي/ ولم يصب بأذى حصاني.
وعندما تحكي لنا عن جدك الذي ينام مفتوح العينين تأتينا في نهاية القصيدة بهذه المفاجأة:
عندما مات/ ظللت أدلك ساقيه /منذ الضحى إلى المساء/ فقد كنت أظنه نائما.
ثم هذا الشيخ الفاني في ضرامه الشهواني:
رجل في سن اليأس/بانتباه حاف/يرمق اهتزازات صبايا الرصيف المنعشة/يمضغ علكة منسية في فمه منذ خمسين عاما/ثم….يبصق آخر أضراسه، وحيث أنه لانهاية لهذه الأمثلة فلنختم القائمة بهذا المثال الأخير وهو قصيدة بعنوان “أوثان” ويستوحي فيها القصة المنسوبة لعمر بن الخطاب في جاهليته حين جاع في الصحراء فأكل صنمه معبوده المصنوع من العجوة الشهية:
وطني/وثني/كفني/إني جائع/أآكلك/أم /ككل/مرة/ستأكلني؟؟

تستهويني خصوبة خيالك وقدرتك على التحليق المستمر واعتقادي أن ذلك هو منبع الشعرية التي تطفح من كل أسطرك وسر الجاذبية التي يتمتع بها شعرك بين الشعراء والقراء المدربين.
ولكن تبقى هنالك بضعة أمور كنت أود لو تشاورنا حولها قليلاً قبل طباعة الديوان وهي أمور تتعلق باستراتيجية النشر ولي حولها بعض الافكار وأيضا بعض الخبرة.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لله درك يا محمد المكى ابراهيم, لم يبقى لنا الا ان نصطاد من حين الى اخر بعض ماضى نبيل الحرف شفيف, وحاضر كلما حسبناه اتفه الازمان, القمنا حرفا من اخر الرجال المحترمين, نشوف فيك باكر يا ود المكى والله فى.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..