قراءة في كتاب: (مرايا ساحلية)- لأمير تاج السر

‏ هذه قراءة إنطباعية عامة مبنية على نسخة الكتاب بذات العنوان و الصادرة من دار ‏العين بالقاهرة في عام2011. في البدء لا بد من القول بأن كتابات السيرة و التي ‏تُصنّف ضمن الأجناس الأدبية تتشابه في أسلوبها بدرجاتٍ متفاوِتة مع القصة أو الرواية ‏من جيث الأسلوب السردي. و قد عُرِفَت كتابات السيرة في مراحل متأخرة في العالم ‏العربي مقارنة بالعالم الغرب. و هذا النوع من الكتابات ً كما تتنوع أساليب كتابته كذلك ‏تتنوع أغراضه و مراميه. إما عبارة عن سردٍ لسيرة ذاتية تتعلق بحياة شخص أو عائلة ‏أوعبارة عن اعترافات شخصية. وقد تكون السيرة ذات طابع شخصي بحت، أو ذات ‏طابع سياسي أو فكري أو عبارة عن ذكريات أو توثيقٍ لحدث أو مجموعة من الأحداث ‏العامة أو الخاصة. و بالتالي غالباً ما يكون الزمن هو الدافع أو المحرك الخفي أو ‏الجلي لكتابة السيرة. ‏
من أشهر كتب السيرة (إعترافات جان جاك راسو) و( اعترافات توما الأكويني) و( قصة ‏تجاربي مع الحقيقة) لغاندي و (مذكرات تشيرشل) و (كفاحي) لهتلر.أما في العالم ‏العربي فقد اشتهرت (غربة الراعي) لإحسان عباس، و (كنت رئيساً) لمحمد نجيب و ‏‏(الأيام ) لطه حسين و (سارة) للعقاد. ‏
فيما يتعلق بكتاب (مرايا ساحلية) يلاحظ المرء أنها جاءت خلافاً لما هو معروف و ‏شائع في كتابات السيرة الذاتية. حيث كتب الكاتب هذه السيرة في عمرٍ مبكّر بالنسبة ‏لعمر الكاتب. حيث أنه من المتعارف عليه أن كتابة السيرة تكون بعد إنقضاء معظم ‏سنوات العمر و بعد أن تكون التجارب قد عركت كاتبها و لم يتبق منها إلا الدروس و ‏العِبَر.من ناحية أخرى قد تكون كتابة السيرة محاولة يوتوبية لربط للماضي بالحاضر، من ‏خلال بث الحياة أو إستعادة ذكريات أثيرة لاماكن أو أناسٍ لهم وقع عميق لدى الكاتب. ‏و في مثل هذه الحالة فإن كتابة السيرة تجيء و كأنها ضد منطق الأشياء، خاصة في ‏سيرورتها المضادة للزمن الفيزيقي. أو كأنها (تميمة ضد الزمن) كما يقول الشاعر ‏أمل دنقل. لذلك غالباً ما تجيء كتابات السيرة و الحال كما ذكرنا مشتملة على فيوضٍ ‏من أحاسيسَ شتىّ، تغلب عليها مشاعر الحنين، و الشجن من ناحية، و الإحساس ‏بالانتماء، و النزوع العاطفي من ناحية أخرى. قد تحمل السيرة كذلك في حناياها بعضاً ‏من رؤىً فلسفية و إحساس عميق بسطوة الزمن من خلال ما تختزنه الذاكرة من صور ‏ومشاعر التوق و الحنين. فهي بالتالي تعبّر بشكل أو بآخر عن التأثير الميتافيزيقي ‏والعاطفي و النفسي للزمان و المكان و ما يكابده الإنسان تأثير الموت، و الفراق، و ‏الفقد. و هو ما يتناقض مع نزوع الإنسان، وتوقه الغريزي للسرمدية، و الخلود. ‏
إذن كيف نفهم هذه السيرة(المبكرة)؟. هل هي إحساس وشعور عميق بالزمن؟ أو بمعنى ‏آخر هل هي بكائية لزمنٍ جميل ، كان بمثابة حلم ولّى و انقضى و تسرّب من بين ‏الايادي؟ أم أنها رد فعلٍ أو التزامٍ ذاتي و عبء ظل يحمله الكاتب نحو زمان و مكان ‏أثيرَين لديه ؟ً. أم هي مجرد نزوع نوستالجي و وجداني نحو زمن طفولة غضة و براءة ‏باكرة لا زالت باقية في الذاكرة و الوجدان ؟ أم يا ترى هي إشارة خفية و تذكيرٍ بإنتماءٍ ‏للوطن الأم له كفعلٍ مضادٍ الغربة و الإغتراب في تواصلٍ حميمي مع المكان؟.‏
‎ ‎في بداية السيرة يقدّم الكاتب عرضاً لفلسفته و رؤيته أو للحياة و التي أوحت إليه كتابة ‏هذه السيرة حيث يقول: ( كثير هو الفرح، كثير هو الحزن، أخوان عدوان يسكنان حياة ‏واحدة… يتناوبان دفء المشاعر). كما يوضح بعضاً من دوافعه لكتابة الكتاب و هي ( ‏لكي يحرر ذكرياته معهم من حبل معقود بشدة). ‏
من ناحية أخرى يستبطن عنوان الكتاب إشارات و دلالات ذات معنى. فكلمة (مرايا) ‏الواردة في الجزء الأول من العنوان تحمل معنى الإنعكاس( انعكاس الملامح مثلاً)، حيث ‏تتضمن معانى التأثير المتبادل بين الأصل و الصورة، حيث المكان هو(الأصل) و ‏الإنسان هو (الصورة). كما تدل كلمة ( مرايا) على معاني الجلاء و الوضوح (سطح ‏المرايا الصقيل). أما كلمة(ساحلية) الواردة في النصف الثاني من العنوان فهي بالإضافة ‏لإشارتها الواضحة للمنطقة الجغرافية (الساحل). فهي تستبطن كذلك إشارات دلالية تحمل ‏معاني الإنتماء/ الإنجذاب، و الإحتواء /الاحتضان.‏
فيما يتعلق بأسلوب السرد في السيرة في شكل مقاطع حكائية مستقلة تحمل شحنات و ‏دلالات عاطفية و ارتباط عميق بشخوص، و اماكن توارت بفعل الزمان أو المكان. و قد ‏اعتمد الراوي في كتابته للسيرة على استخدام تكنيك يعتمد على الوصف الخارجي الدقيق ‏بالإضافة للوصف الداخلي (الشعوري) الذي ينفذ للداخل متجاوزاً ملامح الأشخاص، و ‏الأماكن إلى الدواخل كاشفاً في جلاء معاني الإرتباط، و الإنتماء، و الحنين و النزوع. و ‏‏ الكاتب يتّخذ موقف السارد بحيث يبتعد مسافة يتوارى فيها أحياناً بحيث يرتبط مع ‏الاشياء و الشخوص بخيوط غير مرئية حتى نحس بوطأة الزمن الذي مضى و حتى لا ‏يفسد السرد بتقريرية غير مستساغة. ثم يطل أحياناً ليؤكّد لنا وجوده في ذلك المشهد. ‏
‏ استخدم الراوي في سيرته لغة شعرية و عبارات بالغة التكثيف تفيض بالحنين و الشجن ‏و الشوق و الإنتماء كما أشرنا من قبل بما يخدم الغرض من توصيل الرسالة التي من ‏أجلها كتبت السيرة. ‏
فيما يتعلق بوصف الحياة في المدينة ، لم تفلت من ذاكرة الكاتب الراصدة وصف ‏البيوت و الأحياء .ً فقد احتشدت السيرة بوصف دقيق و شامل للمدينة: البشر،المساكن، ‏السكان، الشوارع، الساحات ..إلخ. كما نراه يصف الأماكن و الشوارع بشكل يكاد يجعلها ‏كائن حي له ملامح و أدوار و مريدين. ‏
إن وصف الكاتب للمدينة الذي جاء معبّراً و دقيقاً ليس للشكل الخارجي للمدينة و ‏ساكنيها بل جاء في شكل وصف تشريحي عميق لتفاصيل المدينة في دلالةٍ واضحة عن ‏علاقة ارتباطية حميمية و إندماج حسي و شعوري لا تنفصل فيه المدينة الموصوفة عن ‏الذات الواصفة مذكرٍ إيّانا بهذه الحميمية و الإلفة و التوق للمكان بفكرة ( جمالية ‏المكان)‏‎[1]‎‏ الذي أشار إليه باشلار..‏
تسبح روح الراوي من جديد فوق سماء المدينة في جولة تعريفية يعرّفنا فيها بالمدينة. و ‏مدينة الراوي ليست المدينة البحر أو الشوارع و البيوت فقط و لكن المدينة الكائن الحي ‏بكل مكوّناتها في رحلة تخييلية شبه حقيقية. بالتالي فإن كتاب (مرايا ساحلية) يتضمن ‏ذكريات أثيرة و نوستالجيا نحو ذلك المكان الساحلي و نحو زمان انقضى تتضمن حنيناً ‏و توقاً إليهما معاً.‏
‏( كانت للشوارع وظائفها الاجتماعية ……كان شارع المستشفى هو شارع الشراء ‏الشعبي. شارع المحطة هو شارع الاستعجال و السفر. شارع السينما …هو شارع ‏الترفيه. شارع البحر …هو شارع النزهات البريئة. و شارع المدارس.. هو شارع ‏الحب)ز بناء على ما ذكرنا آنفاً فإن السيرة تشبه في كثير من أجزائها كثيراً من ملامح ‏التحليل(الانثروبولوجي) للمدن التي تتضمن وصف و تشريح للمدينة‎(Anatomy of ‎the City) ‎‏. ‏
و بالرغم من أن السيرة تتضمن ذكريات للأحداث، و الأماكن، إلا أن الشخصيات تحتل ‏مكانا مقدّراً في هذه الذكريات. و هنا نجد أن الكاتب في إطار وصفه و تعريفنا ‏لشخصيات السيرة يقوم باستدعاء تلك الشخصيات و تقديمها للقاريء فرداً فرداً بصورة ‏تؤكّد قوة العلاقة بكل منهم. و يتم التعريف بهؤلاء الاشخاص ليس فقط بوصف ملامحهم ‏الخارجية، و لكن بوصف إنتماءاتهم القبلية، و تحديد خلفياتهم الإجتماعية، و أصولهم ‏الإثنية، و منابتهم الجهوية و الجغرافية. ‏
‏ عرف الكاتب من خلال كتاباته الروائية السابقة باحتفاله باللغة الشعرية في كتاباته ‏حيث تحتشد مفرداته بإحتشاد المعاني المعبّرة و الدلالات المكثفة التي تتجاوز الوصف ‏الخارجي لتصوّر الحدث و تبرز الملامح من خلال الإحساس الداخلي.‏
‏ تفيض السيرة بإيراد حشد من شخصيات المدينة (راجو الهندي- شيتا الحبشية- فهمي ‏قرياقوس الترزي ذو الأصول اليونانية…).و لكنها تتوقف مع بعضهم خاصة أولئك ‏الأشخاص غريبي المنبت و الأصول يظهرون من حيث لا تدري لكنهم سرعان ما ‏ينغرسون في جسم المدينة و يؤثرون فيها):‏
عزيزو المجذوب: الذي استأثر بمساحة مقدّرة من الذكريات و التي لا بد أنها تماثل ‏تأثيره فيستحضره أمامه ليسأله: (من أنت يا عزيزو…؟..( اتركك الآن يا عزوز…في ‏الذاكرة مائة ألف وجه و مائة ألف قناع…ليست كلها في خصوبة وجهك…)‏
و لكن الفراق دائماً له الغلبة (…اختفى عزيزو و لكنهم ظلوا يغالبون فراقه-إلى أن ‏ظهر وجه غريب جديد في مكانه.إنها إمرأة ( حمدة) بظهورها الغامض و اصولها ‏الغامضة…(حمدة) الحجازية أو النجدية و التي لا تنتسب للمنطقة حتى اسمها كان ‏غريباً.ثم ظهرت ..جميلة…). و هناك أيضاً أخوها (بشارة) متسول معوق اتقن كرة ‏الطاولة.و العم حمزة الذي كان يقص عليهم الحكايات (أحسن القصص) ثم اختفى فجأة.‏
و لا تزال الشخصيات تتوالى عارضة نفسها في حميمية للقاريء و كأن تلك الشخوص ‏هي التي تكتب ذكرياتها وتصر على إدراج ملامحها في السيرة: (مدني الحضرمي) بائع ‏الأحذية- (علي سمارة العجلاتي) و هنا يتوقف لينفحه بعض كلمات علها تزيد تثبيته ‏في ذاكرة الكتابة( لماذا يلح (عليّ سمارة علي لأن اكتبه في هذه السيرة؟)‏
ثم ينتقل راوي السيرة لوصف الأماكن التي لازالت عالقة بذهنه بقوة: استديو العروسة ‏‏(الذي شهد التقاط أول صورة فوتوغرافية له)، محل ثلاجة الأعيسر لبيع الثلج، مقهى ‏رامونا. و كذلك الأحياء: حي الثورة- حي العظمة حي السكة حديد حي جابر …إلخ ‏استخدم الكاتب في وصفه للأماكن و الشخصيات تعابير تنضح بالعاطفة و الالفة و ‏الدفء، بشكل يشي بشاعرية واضحة حيث للمكان بعدُُ نفسي و روحي بعيد الأثر.‏
و يأبى الحزن إلا أن يلقي بظله الثقيل في قسوة مفاجئة لتقطع تسلسل الأحداث ‏السعيدة. هي حادثة لا بد أنها صدمت صباه الغض و هو حادث الموت و الفقد التي لا ‏زالت تترك علامتها في جدار الذاكرة. حيث يسرد الراوي في لوعة أثر تلك الحادثة حادثة ‏موت الطفل الذي اسمه هادي (…رنة حزن و كلمات رثاء ووقفة لفراق،… للذي كان ‏مرفّهاً…إلا أنه مات.. ) و هو طفل، بعد أن أضاء لهم مساحات مرفّهة في مدة وجيزة ‏ثم اختفى. و يواصل الكاتب شجنه:(….كان اختفاء هادي اختفاء باكيا لنا أبناء وسط ‏المدينة- كنا نحسبه روحاً اسيانة…) تتمدد في فرحتهم و لعبهم و استمرت صدمة موته ‏المفاجئة زمنا (لازمنا لك الإحساس فترة…). ‏
‏ ثم..‏
يجيء التوقف إجلالاً و تقديراً عاماً تحمله كل المدينة لتلك المرأة (مدينة اوتيب)، ‏فيقول: (…..ترحموا على (مدينة اوتيب). أُطلِق عليها (الأم تريزا) بمواصفات محلية، ( ‏‏65 عاما) مر عليها الساحليون: مرضى زوار أطباء و عاملين و لصوص و صعاليك ‏فكانت أمّاً للبعض و أختاً للبعض و جدة للبعض و واسطة خير للجميع.‏
و كذلك (محبوبة مبروك) القادمة من الشمال التي صارت جزء من حياة المدينة التي ‏تشارك المدينة افراحها و اتراحها و حياتها) و دخلت في نسيج المدينة (حتى باتت خالة ‏و عمة… و جدة إذا اقتضى الأمر.كانت تتقدم طالبي القرب في الأفراح و باكيات العقد ‏في العزاءات و مباركي الولادات و زيارات التهنئة و عيادات المرضى)إلى أن داهمها ‏الخرف.‏
‎ ‎‏(مانوس الماشطة) و التي شبها ب(جسر الأخبار و الحبل السري الذي يربط أحياء ‏المدينة بعضها ببعض).‏
ثم يجيء منعم فضل….(مالي اريد أن أخرج من المستشفى دون أن ألقاك يا منعم ‏فضل؟) و يصفه (هو مهاجر من الوسط، جيء به مهتاجا كبحر و كانت طاقة الجنون ‏الذي تركبه تكفي لتحريك قاطرة….).و يتوالى عرض الشخصيات في تسلسل عنيد كأنه ‏يود أن لا ينسى أحداً:‏
المساعد الطبي الخبير، و (آدم كذب)- ستيفن لوال- الخفراء، الأطباء، حراس بوابة ‏المستشفى (المانعين للدخول). راجا الهندي المتخصص في الكهرباء-هارون راجندرا ‏الهندي(الحلاق)- بندا الأحدب الهندي (الترزي)- (جرد جابور) تاجر القماش الفاخر و ‏العطورالهندي الهندي.‏
و هنا يتكيء الكاتب ليحكي الذكريات المتعلقة بمحاولات و خبرات الحب رموزها البارزين ‏الذين تركوا بصماتهم على ذاكرة طفولته و صباه البريء الناشيء لم يكن يعنينا من أمره ‏ذلك الشارع شيء ( فقد كان الحب في قلوبنا تلك الأيام مجرد يرقات هزيلة لم تكتمل ‏سعد روميو الذي احترف لحب و العشق و تماهى معه عبر السنين- الكاتب حاول أن ‏يحكي الحكايات و الكريات دون أن يحكي إلى أيهما يميل- هل كان الكاتب يبكي ذلك ‏الزمن هل اراد أن ينعاه هل اراد ان يستنجدبه و بذكرياته في مقابل النضج مقابل البراءة ‏و نقاء السريرة و براءة الحياة في مقابل شقاء الحياة الذي يتبدى اكثر كلما اوغلنا في ‏العمر.هل الشخصيات غريبة؟ كان يتابع ظهورهم و تاثيرهم ثم اختفاءهم الطبيعي بالوفاة ‏أو المفاجيء بالإختفاء و الإنزواء.‏
جني الشقي ذو الاصول الحضرمية الذي حاول ان ينقلهالى عالم الشقاوة و التذوق
‏(المحبوب)الذي احترف الرقص.‏
‏ (…أعود إلى أهل الجوار…. ) هكذا في حميمية يبدأ الكاتب حديثه عن أهل الجوار و ‏هو جوار واسع ممتد يقول الكاتب و كلمة الجوار تجيء في حميمية تتخطى حاجز الزمن ‏و كأنها لا زالت جيرة قائمة حتى اليوم و هي بالطبع موجودة في الخاطر و ذكريات لا ‏زالت باقية و ذلك ( لكي يحرر ذكرياته معهم من حبل معقود بشدة) كما قال الكاتب، ‏حيث يتشارك الناس الأفراح و لأحزان و يتبادلون الأدوار في المناسبات المفرحة و ‏الحزينة.فينقلنا معه بكاميرته من بيت إلى بيت و من عائلة إلى أخرى واصفاً البيوت ‏باوصافها التي لم تنفك من أسر ذاكرته الحافظة ( …,.أريد أن أعبر ذلك الطريق ‏بمحاذاة السينما،…أُحيّ ذلك البيت القائم بمفرده،….القابض على أربعة شوارع ‏‏…ناعم، و ممتد، و مورّد الحيطان…. في ذلك البيت كانت ثمة أيام خوالي، ….و ثمة ‏بهجة تستحق التحية…) أي حب هذا و أي حميمية و أي رابطة هذه التي تربط ‏الإنسان مع الجماد و الحجر و البيوت دعك من ساكنيها؟.‏
فيما يتعلق بالأسلوب السردي أو الحكائي في السيرة الذي لم يجيء وفق التسلسل ‏الزمني. فجاء حيث جاء الحكي السردي و كأنك تتصفح البوماً من الصور معبّراً بذلك ‏عن الإحتشاد العاطفي و الشعوري الذي يتزاحم في ذاكرة الكاتب. ‏
أين الزمان من كل ذلك الإحساس بعبء المسئولية و الالتزام تجاه تلك الأماكن و تجاه ‏تلك الشخصيات ؟.السيرة كما تبدو ترجع بشكل رئيسي إلى فترة السبعينات و ما ‏حولها.هي إحساس بالزمن الذي انقضى و احساس بثقل يضغط على النفس تجاه ‏الساحل و بيوته و ساكنيه الذين شكلوا طفولته الغضّة و صباه الباكر و رسموا شخصيته ‏الراهنة و اناروا له الطريق نحو النضج و النجاح. ‏
المكان/المدينة: ‏
تتضمن السيرة جولة متأنية في معظم معالم المدينة مشيرة لأشخاص و وقائع و أماكن ‏حفرت عميقاً في ذاكرة و وجدان الكاتب حيث بدا وصف المدينة و كأنها تشريح لها: ‏ميدان المولد، دكاكين السوق، السينما،. مع وصف و تقسيم المدينة ليس تقسيماً ‏عمرانياً فقط و لكنه تقسيماً عاطفياً و نفسياً و إجتماعياً، مما يشي بأن المدينة و ‏تفاصيلها قد حفرت عميقاً في الذاكرة: حي الثورة، حي العظمة، حي السكة حديد، حي ‏جابر …إلخ. المكان في هذه السيرة ليس محايداً و لا جامداً بل يتماهى مع البشر الذين ‏يعيشون فيه و الذين يرتبط بهم كاتب السيرة في إلفة و حنين و حيث يكتسب المكان ‏جماله وشاعريته من البشر الذين يعيشون فيه ( الآن ألمس أهل المدينة ? أشمهم ، ‏يمسكون بعطر الكتابة، يودون لو خرجوا في العطر). و يندمج البشر و المكان ليكونوا ‏عطر المدينة الذي يملا الوجدان و يعشش في الذاكرة. و يستمر الإنسيال الوجداني:(ما ‏زال تذوقي و هو ينبش في في اطباق الحضر بيتزا و هامبورجر و اسبغيتي… يحن إى ‏ذلك الطعم النادر لفول(الدبل) و فلافل (ديجانقو) و سندوتشات الكبدة و الكلاوي المتربة ‏في نادي الرماية).‏
إذن كتابة السيرة ليست إنفعال مؤقّت و لكنها في المقام الأول التزام أخلاقي. ليس نحو ‏المدينة بل لكل مكوناتها و رموزها و بشرها و شوارعها و ساحاتها و سوقها المدينة. و ‏هنا لا ينسى البيوت التي تضم تلك الأشخاص(… البيوت 12 بيت من حجر خشن..). ‏و يجيء من ثَم الحديث عن المستشفى: إطلالة على المستشفى (باب الطواريء)( ‏‏…ذلك الباب الهستيري الذي يدخل منه الناس يولولون تتلقفهم الأيدي و المعاطف ‏البيضاء و الحقن المهدئة و محاليل الدم…) ثم وصف المولد و طقوسه و الاحتفالات ‏الموسمية.الشوارع دكاكين الجزارين- شاطيء النزهة الميناء مدرسته(المدرسة ‏الشرقية)………و هكذا تجوس السيرة في كل أنحاء المدينة.‏
ملاحظات ختامية:‏
يلحظ المرء من خلال قراءة هذه السيرة وجود بعض ملامح التقريرية في بعض أجزاء ‏السيرة. قد يكون ذلك لاعتبارات اقتضتها الضرورة التي تُحَتّم ظهور الراوي/الكاتب من ‏آنٍ لآخر،و ذلك لكي نحس بوجوده و نشعر بعمق تأثير بعض الشخصيات كما في ‏ذكريات المدرسة التي يطل منها و كأنها يود أن يذكر أفضالهم و أن يكفر عن شقاوة ‏قد تكون لطخت سيرتهم بسبب نظرة طفولية القاصرة كما في سيرة المعلم(عطا الفضيل) ‏و (موسى المعلم) الذي كانت شقاوة التلاميذ تلقبه ب(الحرباء).أيضاً نلاحظ أن الكاتب ‏لم يلتزم الكاتب بالترتيب الكرونولوجي للزمن و اختار بدلاً من ذلك أن يكون تقديم ‏شخصيات السيرة في شكل مقتطفات أو مقاطع تصويرية تُبرَز سيرة كل واحدٍ من ‏شخصيات السيرة. ‏
ملاحظة أخيرة و هي أن السيرة جاءت خالية من أي ذَكرٍ للعلاقات العاطفية مع الجنس ‏الآخر.و بالتالي فقد غابت (الأنثى) (الحبيبة) أو (العشيقة) من هذه الذكريات. و التي ‏كان يمكن أن تتضمن بعضاً من ذكريات المراهقة و شقاوة المراهقين و النظرة للجنس ‏الجنس الآخر بما كان سيُضيء ركناً مُعتِماً في ذكريات تلك الفترة و سيعمل بالتالي على ‏إكتمال الصورة، بما يجعلها تبدو عند ما يكبر المرء مثيرة للسخرية و المتعة معا. التي ‏تكون دائما ما تكون تتسم بالتخيلات و الغموض و بما يمكن أن تتضمنه من مغامرات ‏بريئة و خطرات سرية تتعلق بالعلاقة مع الجنس الآخر و النظرة إليه.و هي علاقة و ‏نظرة تتسم بمزيج من الرغبات و الممزوجة بالانجذاب و الخوف و التردد في عقول ‏الصبية و المراهقين. جرّاء تأثيرات القيم و الأفكار السائدة و التخيلات و المفاهيم و ‏الصور عن العلاقة مع الجنس الآخر. بالتالي فإن التطرق لمثل هذا الجانب كان يمكن ‏أن يشكّل إضاءات ذات بال حول فترة المراهقة لدى الصبيان في تلك الفترة و في تلك ‏الربوع.‏
[email][email protected][/email]‎
‏ ‏
‏ ‏
‏ ‏
‎ ‎

________________________________________
‎[1]‎‏ كتاب غاستون باشلار( جمالية المكان)‏

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..