في حضرة الفكي الأمين ود شبو

لأول مرة أكتب وأنا أكفف الدمع لأن المقال يثير في نفسي شجوناً وذكريات تعود بالذاكرة إلى زمن الطفولة وريعان الشباب الغض في تلك المناطق التي تحتضنها رمال دار الريح، وتقفز إلى الذهن صور لأشخاص لن يجود الزمان بمثلهم؛ فقد كانوا قوماً كرام السجايا حيثما ذكروا يبقى المكان على ذكرهم عطراً؛ لأنهم قد سجلوا أسماءهم في ذاكرة التاريخ بأحرف من نور؛ فقد كانوا مصابيح يستضاء بنورهم ويسير الناس على هديهم، فهم ، بدون أدنى شك، يمثلون جيلاً متفرداً في كل شيء. من هؤلاء الرجال ذلكم الرجل الوقور والشيخ الزاهد عمنا وإمامنا الفكي الأمين ود يوسف الخليفة ود شبو. لقد كان، رحمه الله، قرآناً يمشي بين الناس، يتلو آيات الذكر الحكيم بصوته الندي حتى يتخيل من يسمعها كأنها قد أنزلت للتو، مستجاب الدعاء، مرهف الإحساس وسريع التأثر بالمواعظ فكلما وقف يخطب في الناس في صلاة عيد الأضحى يبكي لقصة إسماعيل عليه السلام حتى تبتل لحيته فيبكي الناس لبكائه.
ينتسب الركابية الشبواب إلى جدهم سليمان ود شبو (حفيد غلام الله بن عايد ذلك الطود الشامخ الذي سارت بذكراه الركبان والحقب.) وفي مطلع القرن الثامن عشر الميلادي (1722م) هاجر اثنان من أبناء سليمان ود شبو هما عيسى ومصطفي من المديرية الشمالية إلى شمال كردفان لغرض المساهمة في نشر الإسلام واستقرا في قرية الطويل التي تقع غرب بارا على بُعد 15 كلم وشمال الأبيض على مسافة 70 كلم، وهي عبارة عن واحة تقع ضمن سلسلة الخيران التي تمتد من بارا شمالاً وتشمل البشيري والحمرا والعاديك وغيرها. وقد كانت تلك المناطق، في ذلك الوقت، تتبع لسلطنة دار فور فحصلا على صك ملكية لها من سلاطين الفور (لهذا الصك قصة). فأوقدا نار القران وأقاما الخلاوى ونشرا العلم والدين في تلك المنطقة وما حولها، فأقاما أول مسيد لتدريس القرآن في واحة الطويل ومنها أنطلق أحفادهما (أولاد شبو) لتعليم الناس الدين والقراءة والكتابة وكان لهم أثر كبير وواضح في تلك المنطقة. وفضلاً عن إسهامهم الكبير في نشر التعليم الديني بشكل عام وتحفيظ القرآن على وجه الخصوص، جلب هؤلاء النفر الكريم أساليب جديدة للزراعة فأدخلوا الشادوف والسواقي فيما بعد مما ساهم في تحول كثير من أهل المنطقة للزراعة المروية. كما أدخلوا أنواع جديدة من الملابس والأواني المنزلية وأنواع من المفارش والأسِرة والأطعمة لأنهم أهل تمدن وثقافة ونشروا ذلك كله بين أهل المنطقة الذين تزاوجوا معهم واختلطوا بدرجة كبيرة. وفي مقابر قرية الطويل التي تُسمى (البنية) مدفون أكثر من 140 من حملة القرآن كلهم من أولاد شبو.
ومن سلالتهم الفكي الأمين ود يوسف بن الخليفة بن الأمين بن عيسى بن سليمان ود شبو، درس وحفظ القرآن في مسيد قرية الطويل على يد الشيخ الفكي سليمان بن الأمين بن عيسى بن سليمان ود شبو. وقد كان هنالك تواصل وعلاقة ود بين (أولاد شبو) وأسرة آل قش في دميرة فطلبوا منهم أن يرسلوا لهم أحد أبنائهم ليصبح كاتباً للمحكمة في دميرة فوقع الاختيار على فكي الأمين. فبعد أن حفظ الفكي الأمين القرآن في مسيد أعمامه في قرية الطويل ، تعلم الخط العربي حتى برع فيه وبعدها التحق بالعمل الكتابي في المحاكم فعمل مع عمنا الشيخ عبده عمر قش ناظر محكمة دميرة ومن بعدها مع الوالد حتى توفاهم الله جميعاً عليهم الرحمة. كان الفكي الأمين سريع البديهة وقوي الذاكرة وحافظاً لأنساب أهل المنطقة كبارهم وصغارهم ويحفظ السوابق القضائية بطريقة ملفتة للنظر.
كان عمنا الأمين ود شبو، مع كل هذا الورع والتقى والزهد، رجلاً مرحاً وذا دعابة وصاحب طرفة وخفة روح ولطف ملحوظ؛ يمزح مع الصغير والكبير وله علاقات طيبة مع الناس كافة، ويجالس بعض الذين يصطفي ويتبسط معهم في الحديث كأنه ليس ذلك العالم الحافظ لكتاب الله، يزور مريضهم ويواسيهم في أحزانهم ويشارك في أفراحهم بنفسه وماله. وكان أيضاً يكسب رزقه فيزرع في موسم الخريف ويعمل بيده، ويسقي الماعز في البئر بكل تواضع وأريحية. من جانبها كانت زوجه مريم بت إدريس نعم الزوجة والأم، حلوة العشرة تخالط نساء القرية وتعمل معهن في المناسبات بكل صدق ومودة؛ ولذلك كونت صداقات كثيرة نسأل الله أن يعطيها الصحة والعافية. وشخصياً لنا علاقة صداقة مع ابنه الكبير الفضل رحمه الله، وزمالة مع كل من عيسى وعادل وعثمان، ونزجي التحية لابنتيه جواهر وخولة سائلين الله أن يديم الود والإخاء بيننا؛ فمن البر أن يصل الرجل ود أبيه.
عاش الفكي الأمين عابداً ذاكراً حافظاً لحدود الله، عفيفاً نزيهاً مستور الحال حتى أنتقل إلى الرفيق الأعلى، رحمه الله رحمة واسعة وجعل البركة في ذريته، وسيظل أهلنا في دميرة يذكرونه بالخير؛ فقد عاش بين ظهرانيهم أماماً وخطيباً لما يقارب خمسين عاماً.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..